فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (34):

{ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}
تقدم في البقرة معنى الذرية واشتقاقها. وهي نصب على الحال، قال الأخفش. أي في حال كون بعضهم من بعض، أي ذرية بعضها من ولد بعض. الكوفيون: على القطع. الزجاج: بدل، أي اصطفى ذرية بعضها من بعض، ومعنى بعضها من بعض، يعني في التناصر في الدين، كما قال: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] يعني في الضلالة، قال الحسن وقتادة.
وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة.
وقيل: المراد به التناسل، وهذا أضعفها.

.تفسير الآيات (35- 36):

{إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ} قال أبو عبيدة: {إِذْ} زائدة.
وقال محمد بن يزيد: التقدير أذكر إذ.
وقال الزجاج: المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران. وهي حنة بالحاء المهملة والنون بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى عليه السلام، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة.
وفي العربية أبو حنة البدري، ويقال فيه: أبو حبة بالباء بواحدة وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشام، ودير آخر أيضا يقال له كذلك، قال أبو نواس:
يا دير حنة من ذات الاكيراح ** من يصح عنك فإني لست بالصاحي

وحبة في العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاري، وأبو السنابل بن بعكك المذكور في حديث سبيعة حبة، ولا يعرف خنة بالخاء المعجمة إلا بنت يحيى بن أكثم القاضي، وهي أم محمد بن نصر، ولا يعرف جنة بالجيم إلا أبو جنة، وهو خال ذي الرمة الشاعر. كل هذا من كتاب ابن ماكولا.
الثانية: قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} تقدم معنى النذر، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه. ويقال: إنها لما حملت قالت: لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لجعلته محررا. ومعنى: {لَكَ} أي لعبادتك. {مُحَرَّراً} نصب على الحال وقيل: نعت لمفعول محذوف، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا، والأول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والاعراب: أما الاعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع، ويجوز على المجاز في أخرى، وأما التفسير فقيل إن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، وأنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك، ودعت ربها أن يهب لها ولدا، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها محررا: أي عتيقا خالصا لله تعالى، خادما للكنيسة حبيسا عليها، مفرغا لعبادة الله تعالى. وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم. فلما وضعت مريم قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى} يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة. قيل لما يصيبها من الحيض والأذى.
وقيل: لا تصلح لمخالطة الرجال. وكانت ترجو أن يكون ذكرا فلذلك حررت.
الثالثة: قال ابن العربي: لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله، فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك، وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له، وكذلك المرأة مثله، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه- والله أعلم- أن المرء إنما يريد ولده للانس به والاستنصار والتسلي، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه، فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الانس به متروك فيه، وهو على خدمة الله تعالى موقوف، وهذا نذر الأحرار من الأبرار. وأرادت به محررا من جهتي، محررا من رق الدنيا وأشغالها، وقد قال رجل من الصوفية لامه: يا أمه: ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت نعم. فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت من؟ فقال لها: ابنك فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك.
الرابعة: قوله تعالى: {مُحَرَّراً} مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية، من هذا تحرير الكتاب، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد.
وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد:
أن المحرر الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا. وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص: حر، ومحرر بمعناه، قال ذو الرمة:
والقرط في حرة الذفرى معلقة ** تباعد الحبل منه فهو يضطرب

وطين حر لا رمل فيه، وباتت فلانة بليلة حرة إذا لم يصل إليها زوجها أول ليلة، فإن تمكن منها فهي بليلة شيباء.
الخامسة قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى} قال ابن عباس: إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور، فقبل الله مريم. و{أُنْثى} حال، وإن شئت بدل. فقيل: إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها، رواه أشهب عن مالك: وقيل: لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد، فوفت بنذرها وتبرأت منها. ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام، ففي البخاري ومسلم أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فماتت. الحديث.
السادسة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} هو على قراءة من قرأ {وضعت} بضم التاء من جملة كلامها، فالكلام متصل. وهى قراءة أبي بكر وابن عامر، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى عليه شي، ولم تقله على طريق الاخبار لان علم الله في كل شيء قد تقرر في نفس المؤمن، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله عز وجل قدم، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد {وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] والله أعلم بما وضعت، قال المهدوي.
وقال مكي: هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال: والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله. ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام: وأنت أعلم بما وضعت، لأنها نادته في أول الكلام في قولها: رب إني وضعتها أنثى. وروي عن ابن عباس {بما وضعت} بكسر التاء، أي قيل لها هذا.
السابعة: قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى} استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطي لا تساويه في وجوب الكفارة عليها، ابن العربي، وهذه منه غفلة، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها. ولم ينصرف {مَرْيَمَ} لأنه مؤنث معرفة، وهو أيضا أعجمي، قال النحاس. والله تعالى أعلم.
الثامنة: قوله تعالى: {وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ} يعني خادم الرب في لغتهم. {وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ} يعني مريم. {وَذُرِّيَّتَها} يعني عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه» ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ}. قال علماؤنا: فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها. قال قتادة: كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شي، قال علماؤنا: وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [الحجر: 42]. هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين، كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لهما ومقارنته. والله أعلم.

.تفسير الآيات (37- 38):

{فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)}
قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ} المعنى: سلك بها طريق السعداء، عن ابن عباس.
وقال قوم: معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها.
وقال الحسن: معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار. {وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً} يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد. والقبول والنبات مصدران على غير المصدر، والأصل تقبلا وإنباتا. قال الشاعر:
أكفرا بعد رد الموت عني ** وبعد عطائك المائة الرتاعا

أراد بعد إعطائك، لكن لما قال: {أَنْبَتَها} دل على نبت، كما قال امرؤ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ** ورضت فذلت صعبة أي إذلال

وإنما مصدر ذلت ذل، ولكنه رده على معنى أذللت، وكذلك كل ما يرد عليك في هذا الباب. فمعنى تقبل وقبل واحد، فالمعنى فقبلها ربها بقبول حسن. ونظيره قول رؤبة:
وقد تطويت انطواء الحضب

الأفعى لأن معنى تطويت وانطويت واحد، ومثله قول القطامي:
وخير الأمر ما استقبلت منه ** وليس بأن تتبعه اتباعا

لان تتبعت واتبعت واحد.
وفي قراءة ابن مسعود {وأنزل الملائكة تنزيلا} لأن معنى نزل وأنزل واحد.
وقال المفضل: معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا. ومراعاة المعنى أولى كما ذكرنا. والأصل في القبول الضم، لأنه مصدر مثل الدخول والخروج، والفتح جاء في حروف قليلة، مثل الولوع والوزوع، هذه الثلاثة لا غير، قال أبو عمرو الكسائي والأئمة. وأجاز الزجاج {بقبول} بضم القاف على الأصل.
قوله تعالى: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا} أي صمها إليه. أبو عبيدة: ضمن القيام بها. وقرأ الكوفيون {وَكَفَّلَها} بالتشديد، فهو يتعدى إلى مفعولين، والتقدير وكفلها ربها زكريا، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له.
وفي مصحف أبي {وَكَفَّلَها} والهمزة كالتشديد في التعدي، وأيضا فإن قبله {فَتَقَبَّلَها}، {وَأَنْبَتَها} فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها، فجاء {كَفَّلَها} بالتشديد على ذلك. وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا. فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها، بدلالة قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. قال مكي: وهو الاختيار، لأن التشديد يرجع إلى التخفيف، لأن الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله، ولان زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته، فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان.
وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني {وكفلها} بكسر الفاء. قال الأخفش: يقال كفل يكفل وكفل يكفل ولم اسمع كفل، وقد ذكرت. وقرأ مجاهد {فتقبلها} بإسكان اللام على المسألة والطلب. {ربها} بالنصب نداء مضاف. {وأنبتها} بإسكان التاء {وكفلها} بإسكان اللام {زكرياء} بالمد والنصب. وقرأ حفص وحمزة والكسائي {زَكَرِيَّا} بغير مد ولا همز، ومده الباقون وهمزوه.
وقال الفراء: أهل الحجاز يمدون {ز كرياء} ويقصرونه، واهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون: زكرى. قال الأخفش: فيه أربع لغات: المد والقصر، وزكري بتشديد الياء والصرف، وزكر ورأيت زكريا. قال أبو حاتم: زكري بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط، لأن ما كان فيه {يا} مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لان فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف.
قوله تعالى: {كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً} إلى قوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ}. فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ} المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس. وسيأتي له مزيد بيان في سورة مريم. وجاء في الخبر: إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم. قال وضاح اليمن:
ربة محراب إذا جئتها ** لم ألقها حتى ارتقى سلما

أي ربة غرفة. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران: ويحك! ما صنعت؟ أرأيت إن كانت أنثى؟ فاغتما لذلك جميعا. فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي، على ما يأتي. فكفلها زكريا واخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي. قال مقاتل: كانت أختها امرأة زكريا. وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب.
وقال بعضهم: كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض. وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال: يا مريم أنى لك هذا؟ فقالت: هو من عند الله. فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال: إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا. ومعنى: {أَنَّى} من أين، قاله أبو عبيدة. قال النحاس: وهذا فيه تساهل، لان أين سؤال عن المواضع وأنى سؤال عن المذاهب والجهات. والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا. وقد فرق الكميت بينهما فقال:
أنى ومن أين آبك الطرب ** من حيث لا صبوة ولا ريب

و{كُلَّما} منصوب ب {وَجَدَ}، أي كل دخلة. {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} قيل: هو من قول مريم، ويجوز أن يكون مستأنفا، فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد.
الثانية: قوله تعالى: {هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} هنالك في موضع نصب، لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان.
وقال المفضل بن سلمة: {هُنالِكَ} في الزمان و{هناك} في المكان، وقد يجعل هذا مكان هذا. {هَبْ لِي} أعطني. {مِنْ لَدُنْكَ} من عندك. {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي نسلا صالحا. والذرية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى، وهو هنا واحد. يدل عليه قوله. {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] ولم يقل أولياء، وإنما أنث {طَيِّبَةً} لتأنيث لفظ الذرية، كقوله:
أبوك خليفة ولدته أخرى ** وأنت خليفة ذاك الكمال

فأنث ولدته لتأنيث لفظ الخليفة. وروي من حديث أنس قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أي رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا». وقد مضى في البقرة اشتقاق الذرية. {طَيِّبَةً} أي صالحة مباركة. {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ} أي قابله، ومنه: سمع الله لمن حمده.
الثالثة: دلت هذه الآية على طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصديقين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38].
وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وخرج ابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء».
وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال: الذي يطلب الولد أحمق، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق، قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]. وقد ترجم البخاري على هذا باب طلب الولد.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي طلحة حين مات ابنه: «أعرستم الليلة؟» قال: نعم. قال: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما». قال فحملت. في البخاري: قال سفيان فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن. وترجم أيضا باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة وساق حديث أنس بن مالك قال: قالت أم سليم: يا رسول الله، خادمك أنس أدع الله له. فقال: «اللهم أكثر مال وولده وبارك له فيما أعطيته».
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم اغفر لابي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين». خرجه البخاري ومسلم.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم». أخرجه أبو داود. والاخبار في هذا المعنى كثيرة تحت على طلب الولد وتندب إليه، لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث» فذكر: «أو ولد صالح يدعو له». ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.
الرابعة: فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه، ألا ترى قول زكريا: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 4] وقال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}. وقال: {هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]. ودعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنس فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه». خرجه البخاري ومسلم، وحسبك.