فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (42):

{وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ} أي اختارك، وقد تقدم. {وَطَهَّرَكِ} أي من الكفر، عن مجاهد والحسن. الزجاج: من سائر الأدناس من الحيض والنفاس وغيرهما، واصطفاك لولادة عيسى {عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ} يعني عالمي زمانها، عن الحسن وابن جريج وغيرهما.
وقيل: {عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ} أجمع إلى يوم الصور، وهو الصحيح على ما نبينه، وهو قول الزجاج وغيره. وكرر الاصطفاء لأن معنى الأول الاصطفاء لعبادته، ومعنى الثاني لولادة عيسى.
وروى مسلم عن أبى موسى قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الكمال هو التناهى والتمام، ويقال في ماضيه كمل بفتح الميم وضمها، ويكمل في مضارعة بالضم، وكمال كل شيء بحسبه. والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين. وإذا تقرر هذا فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم عليها السلام وآسية نبيتين، وقد قيل بذلك. والصحيح أن مريم نبية، لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدم ويأتي بيانه أيضا في مريم. وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها دلالة واضحة بل على صديقيتها وفضلها، على ما يأتي بيانه في التحريم. وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه أبو هريرة: «خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد».
ومن حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».
وفي طريق آخر عنه: «سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة». فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة، فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والاخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء، فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء: الأولين والآخرين مطلقا. ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية. وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية». وهذا حديث حسن يرفع الاشكال. وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء، وذلك أن روج القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة، فليس هذا لاحد من النساء. وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عند ما بشرت كما سأل زكريا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الآية، ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75]. وقال: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} [التحريم: 12] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت. وإنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال: أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر، فسأل آية، وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها: {كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ} [مريم: 21] فاقتصرت على ذلك، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنة هذا الامر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب!. ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة، جاء في الخبر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أقسمت لبررت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران». وقد كان يحق على من انتحل علم الظاهر واستدل بالأشياء الظاهرة على الأشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وقوله حيث يقول: «لواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أول خطيب وأول شفيع وأول مبشر وأول وأول». فلم ينل هذا السؤدد في الدنيا على الرسل إلا لأمر عظيم في الباطن. وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصديقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية. ومن قال لم تكن نبية قال: إن رؤيتها للملك كما رئي جبريل عليه السلام في صفة دحية الكلبي حين سؤاله عن الإسلام والايمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء والأول أظهر وعليه الأكثر. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (43):

{يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
أي أطيلي القيام في الصلاة، عن مجاهد. قتادة: أديمي الطاعة. وقد تقدم القول في القنوت. قال الأوزاعي: لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسألت دما وقيحا عليها السلام. {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} قدم السجود هاهنا على الركوع لان الواو لا توجب الترتيب، وقد تقدم الخلاف في هذا في البقرة عند قول تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. فإذا قلت: قام زيد وعمرو جاز أن يكون عمرو قام قبل زيد، فعلى هذا يكون المعنى واركعي واسجدي.
وقيل: كان شرعهم السجود قبل الركوع. {مَعَ الرَّاكِعِينَ} قيل: معناه افعلي كفعلهم وإن لم تصلي معهم.
وقيل: المراد به صلاة الجماعة. وقد تقدم في البقرة.

.تفسير الآية رقم (44):

{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ} أي الذي ذكرنا من حديث زكريا ويحيى ومريم عليهم السلام من أخبار الغيب. {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} فيه دلالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر عن ذلك وصدقه أهل الكتاب بذلك، فذلك قوله تعالى: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} فرة الكناية إلى {ذلك} فلذلك. والإيحاء هنا الإرسال إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والوحي يكون إلهاما وإيماء وغير ذلك. وأصله في اللغة إعلام في خفاء، ولذلك صار الإلهام يسمى وحيا، ومنه {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ} [المائدة: 111] وقوله: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] وقيل: معنى: {أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ} أمرتهم، يقال: وحى وأوحى، ورمى وأرمى، بمعناه. قال العجاج:
أوحى لها القرار فاستقرت

أي أمر الأرض بالقرار.
وفي الحديث: «الوحي الوحي» وهو السرعة، والفعل منه توحيت توحيا. قال ابن فارس: الوحي الإشارة والكتابة والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه وحي كيف كان. والوحي: السريع. والوحى: الصوت، ويقال: استوحيناهم أي استصرخناهم. قال:
أوحيت ميمونا لها والأزراق

الثانية: قوله تعالى: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ} أي وما كنت يا محمد لديهم، أي بحضرتهم وعندهم {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} جمع قلم، من قلمه إذا قطعه. قيل: قداحهم وسهامهم.
وقيل: أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، وهو أجود، لأن الأزلام قد نهى الله عنها فقال: {ذلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]. إلا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت عليها الجاهلية تفعلها. {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي يحضنها، فقال زكريا: أنا أحق بها، خالتها عندي. وكانت عنده أشيع بنت فاقود أخت حنة بنت فاقود أم مريم.
وقال بنو إسرائيل: نحن أحق بها، بنت عالمنا. فاقترعوا عليها وجاء كل واحد بقلمه، واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجره الماء فهو حاضنها. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فجرت الأقلام وعال قلم زكريا». وكانت آية له، لأنه نبي تجري الآيات على يديه. وقيل غير هذا. و{أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام، التقدير: ينظرون أيهم يكفل مريم. ولا يعمل الفعل في لفظ أي لأنها استفهام.
الثالثة: استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها.
وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال: القرعة في القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنة. قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن المنذر. واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها. وقد ترجم البخاري في آخر كتاب الشهادات (باب القرعة في المشكلات وقول الله عز وجل: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ}) وساق حديث النعمان بن بشير: «مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها مثل قوم استهموا على سفينة...» الحديث. وسيأتي في الأنفال.
إن شاء الله تعالى، وفي سورة الزخرف أيضا بحول الله سبحانه، وحديث أم العلاء، وأن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في السكنى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين، الحديث، وحديث عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وذكر الحديث. وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فقال مرة: يقرع للحديث.
وقال مرة: يسافر بأوفقهن له في السفر. وحديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا». والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وكيفية القرعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف. واحتج أبو حنيفة بأن قال: إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز. قال ابن العربي: وهذا ضعيف، لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح، فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر، ولا يصح لاحد أن يقول: إن القرعة تجري مع موضع التراضي، فإنها لا تكون أبدا مع التراضي وإنما تكون فيما يتشاح الناس فيه ويضن به. وصفه القرعة عند الشافعي ومن قال بها: أن تقطع رقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها ثم تجفف قليلا ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطى عليها ثوبه ثم يدخل يده ويخرج، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه.
الرابعة: ودلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة، وقد قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابنة حمزة- واسمها أمة الله- لجعفر وكانت عنده خالتها، وقال: «إنما الخالة بمنزلة الام» وقد تقدمت في البقرة هذه المسألة. وخرج أبو داود عن علي قال: خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة فقال جعفر: أنا آخذها أنا أحق بها ابنة عمي وخالتها عندي، وإنما الخالة أم. فقال علي: أنا أحق بها ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي أحق بها.
وقال زيد: أنا أحق بها، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها، فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر حديثا قال: «وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم».
وذكر ابن أبي خيثمة أن زيد بن حارثة كان وصي حمزة، فتكون الحالة على هذا أحق من الوصي ويكون ابن العم إذا كان زوجا غير قاطع بالخالة في الحضانة وإن لم يكن محرما لها.

.تفسير الآيات (45- 46):

{إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)}
دليل على نبوتها كما تقدم. و{إِذْ} متعلقة ب {يَخْتَصِمُونَ}. ويجوز أن تكون متعلقة بقوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ}. {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} وقرأ أبو السمان {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}، وقد تقدم. {اسْمُهُ الْمَسِيحُ} ولم يقل اسمها لأن معنى كلمة معنى ولد. والمسيح لقب لعيسى ومعناه الصديق، قاله إبراهيم النخعي. وهو فيما يقال معرب وأصله الشين وهو مشترك.
وقال ابن فارس: والمسيح العرق، والمسيح الصديق، والمسيح الدرهم الأطلس لا نقش فيه والمسح الجماع، يقال مسحها. والأمسح: المكان الأملس. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا است لها. وبفلان مسحة من جمال. والمسائح قسي جياد، واحدتها مسيحة. قال:
لها مسائح زور في مراكضها ** لين وليس بها وهن ولا رقق

واختلف في المسيح ابن مريم مما ذا أخذ، فقيل: لأنه مسح الأرض، أي ذهب فيها فلم يستكن بكن. وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، فكأنه سمي مسيحا لذلك، فهو على هذا فعيل بمعنى فاعل.
وقيل: لأنه ممسوح بدهن البركة، كانت الأنبياء تمسح به، طيب الرائحة، فإذا مسح به علم أنه نبي.
وقيل: لأنه كان ممسوح الأخمصين.
وقيل: لان الجمال مسحه، أي أصابه وظهر عليه.
وقيل: إنما سمي بذلك لأنه مسح بالطهر من الذنوب.
وقال أبو الهيثم: المسيح ضد المسيخ، يقال: مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا مباركا، ومسخه أي خلقه خلقا ملعونا قبيحا.
وقال ابن الاعرابي: المسيح الصديق، والمسيخ الأعور، وبه سمي الدجال.
وقال أبو عبيد: المسيح أصله بالعبرانية مشيحا بالشين فعرب كما عرب موشى بموسى. وأما الدجال فسمي مسيحا لأنه ممسوح إحدى العينين. وقد قيل في الدجال مسيح بكسر الميم وشد السين. وبعضهم يقول كذلك بالخاء المنقوطة. وبعضهم يقول مسيخ بفتح الميم وبالخاء والتخفيف، والأول أشهر. وعليه الأكثر. سمي به لأنه يسيح في الأرض أي يطوفها ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبئت المقدس، فهو فعيل بمعنى فاعل، فالدجال يمسح الأرض محنة، وابن مريم يمسحها منحة. وعلى أنه ممسوح العين فعيل بمعنى مفعول.
وقال الشاعر:
إن المسيح يقتل المسيحا

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة» الحديث. ووقع في حديث عبد الله بن عمرو: «إلا الكعبة وبيت المقدس» ذكره أبو جعفر الطبري. وزاد أبو جعفر الطحاوي ومسجد الطور، رواه من حديث جنادة بن أبي أمية عن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سمرة بن جندب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبئت المقدس وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس». وذكر الحديث.
وفي صحيح مسلم: «فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن، مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله» الحديث بطوله. وقد قيل: إن المسيح اسم لعيسى غير مشتق سماه الله به. فعلى هذا يكون عيسى بدلا من المسيح من البدل الذي هو هو. وعيسى اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة، لأن فيه ألف. تأنيث. ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسة وقام عليه. {وَجِيهاً} أي شريفا ذا جاه وقدر، وانتصب على الحال، قاله الأخفش. {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} عند الله تعالى وهو معطوف على {وَجِيهاً} أي ومقربا، قاله الأخفش. وجمع وجيه وجهاء ووجهاء. {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} عطف على {وَجِيهاً} قاله الأخفش أيضا. و{الْمَهْدِ} مضجع الصبي في رضاعه. ومهدت الامر هيأته ووطأته.
وفي التنزيل {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44]. وامتهد الشيء ارتفع كما يمتهد سنام البعير. {وَكَهْلًا} الكهل بين حال الغلومة وحال الشيخوخة. وامرأة كهلة. واكتهلت الروضة إذا عمها النور. يقول: يكلم الناس في المهد آية، ويكلمهم كهلا بالوحي والرسالة.
وقال أبو العباس: كلمهم في المهد حين برأ أمه فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] الآية. وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزل الله تعالى من السماء أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} كما قال في المهد. فهاتان آيتان وحجتان. قال المهدوي: وفائدة الآية أنه أعلمهم أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلا، إذ كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش.
قال الزجاج: {وَكَهْلًا} بمعنى ويكلم الناس كهلا.
وقال الفراء والأخفش: هو معطوف على {وَجِيهاً}.
وقيل: المعنى ويكلم الناس صغيرا وكهلا.
وروى ابن جريح عن مجاهد قال: الكهل الحليم. قال النحاس: هذا لا يعرف في اللغة، وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين.
وقال بعضهم: يقال له حدث إلى ست عشرة سنة. ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين. ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين، قاله الأخفش. {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} عطف على {وَجِيهاً} أي وهو من العباد الصالحين. ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن هلال بن يساف. قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وصاحب يوسف وصاحب جريج، كذا قال: وصاحب يوسف. وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب الجبار وبينا صبي يرضع من أمه» وذكر الحديث، بطوله. وقد جاء من حديث صهيب في قصة الأخدود: «أن امرأة جئ بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي». في غير كتاب مسلم: «يرضع فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق».
وقال الضحاك: تكلم في المهد ستة: شاهد يوسف وصبي ماشطة امرأة فرعون وعيسى ويحيى وصاحب جريج وصاحب الجبار. ولم يذكر الأخدود، فأسقط صاحب لاخدود وبه يكون المتكلمون سبعة. ولا معارضة بين هذا وبين قوله عليه السلام: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة» بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحى إليه في تلك الحال، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبر به.
قلت: أما صاحب يوسف فيأتي الكلام فيه، وأما صاحب جريج وصاحب الجبار وصاحب الأخدود ففي صحيح مسلم. وستأتي قصة الأخدود في سورة البروج إن شاء الله تعالى. وأما صبي ماشطة امرأة فرعون، فذكر البيهقي عن ابن عباس قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أسري بي سرت في رائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة قالوا ماشطة ابنة فرعون وأولادها سقط مشطها من يديها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: ربي وربك ورب أبيك. قالت: أو لك رب غير أبي؟ قالت: نعم ربي وربك ورب أبيك الله- قال- فدعاها فرعون فقال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله- قال- فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها قالت: إن لي إليك حاجة قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع واحد قال: ذاك لك لما لك علينا من الحق. فأمر بهم فألقوا واحدا بعد واحد حتى بلغ رضيعا فيهم فقال قعي يا أمه ولا تقاعسي فإنا على الحق- قال- وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم».