فصل: تفسير الآية رقم (74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (74):

{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}
أي بنبوته وهدايته، عن الحسن ومجاهد وغيرهما. ابن جريج: بالإسلام والقرآن {مَنْ يَشاءُ}. قال أبو عثمان: أجمل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف، {والله ذو الفضل العظيم}.

.تفسير الآية رقم (75):

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} مثل عبد الله بن سلام. {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وهو فنحاص بن عازوراء اليهودي، أودعه رجل دينارا فخانه.
وقيل: كعب بن الأشرف وأصحابه. وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي {من إن تيمنه} على لغة من قرأ {نستعين} وهي لغة بكر وتميم.
وفي حرف عبد الله {مالك لا تيمنا على يوسف} والباقون بالألف. وقرأ نافع والكسائي {يؤدهي} بياء في الإدراج. قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة في رواية أبي بكر على وقف الهاء، فقرءوا {يؤده إليك}. قال النحاس: بإسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه البتة ويرى أنه غلط ممن قرأ به، وإنه توهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه مثل هذا. والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء، وهي قراءة يزيد بن القعقاع.
وقال الفراء: مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون: ضربته ضربا شديدا، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم واصلها الرفع، كما قال الشاعر:
لما رأى ألا دعه ولا شبع ** مال إلى أرطاة حقف فاضطجع

وقيل: إنما جاز إسكان الهاء في هذا الموضع لأنها وقعت في موضع الجزم وهي الياء الذاهبة. وقرأ أبو المنذر سلام والزهري {يؤده} بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة وحميد ومجاهد {يؤدهو} بواو في الإدراج، اختير لها الواو لان الواو من الشفة والهاء بعيدة المخرج. قال سيبويه: الواو في المذكر بمنزلة الألف في المؤنث ويبدل منها ياء لان الياء أخف إذا كان قبلها كسرة أو ياء، وتحذف الياء وتبقى الكسرة لان الياء قد كانت تحذف والفعل مرفوع فأثبتت بحالها.
الثانية: أخبر تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين، والمؤمنون لا يميزون ذلك، فينبغي اجتناب جميعهم. وخص أهل الكتاب بالذكر وإن كان المؤمنون كذلك، لأن الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب. والله أعلم. وقد مضى تفسير القنطار. وأما الدينار فأربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه اثنتان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه. ومن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر. وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب. وفيه بين العلماء خلاف كثير مذكور في أصول الفقه. وذكر تعالى قسمين: من يؤدي ومن لا يؤدى إلا بالملازمة عليه، وقد يكون من الناس من لا يؤدي وإن دمت عليه قائما. فذكر تعالى القسمين لأنه الغالب والمعتاد والثالث نادر، فخرج الكلام على الغالب. وقرأ طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهما {دمت} بكسر الدال وهما لغتان، والكسر لغة أزد السراة، من دمت تدام مثل خفت تخاف.
وحكى الأخفش دمت تدوم، شاذا.
الثالثة: استدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى: {إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً} وأباه سائر العلماء، وقد تقدم في البقرة. وقد استدل بعض البغداديين من علمائنا على حبس المديان بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً} فإذا كان له ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه.
وقيل: إن معنى: {إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً} أي بوجهك فيهابك ويستحي منك، فان الحياء في العينين، ألا ترى إلى قول ابن عباس رضي الله عنه: لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين. وإذا طلبت من أخيك حاجة فانظر إليه بوجهك حتى يستحي فيقضيها. ويقال: {قائِماً} أي ملازما له، فإن أنظرته أنكرك.
وقيل: أراد بالقيام إدامة المطالبة لا عين القيام. والدينار أصله دنار فعوضت من إحدى النونين ياء طلبا للتخفيف لكثرة استعماله. يدل عليه أنه يجمع دنانير ويصغر دنينير.
الرابعة: الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جنبتي الصراط، كما في صحيح مسلم. فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما.
وروى مسلم عن حذيفة قال حدثنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رفع الأمانة، قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه» الحديث. وقد تقدم بكماله أول البقرة.
وروى ابن ماجه حدثنا محمد ابن المصفى حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير ابن مرة عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام». وقد مضى في البقرة معنى قوله عليه السلام: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا نحن من خانك». والله أعلم.
الخامسة ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافا لمن ذهب إلى ذلك، لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولا. فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة، ألا ترى قولهم: {لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه، ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين.
السادسة: قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا} يعني اليهود {لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} قيل: إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون: ليس علينا في الأميين سبيل- أي حرج في ظلمهم- لمخالفتهم إيانا. وادعوا أن ذلك في كتابهم، فأكذبهم الله عز وجل ورد عليهم فقال: {بَلى} أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم أموال العرب. قال أبو إسحاق الزجاج: وتم الكلام. ثم قال: {مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى} [آل عمران: 76]. ويقال: إن اليهود كانوا قد استدانوا من الاعراب أموالا فلما أسلم أرباب الحقوق قالت اليهود: ليس لكم علينا شي، لأنكم تركتم دينكم فسقط عنا دينكم. وادعوا أنه حكم التوراة فقال الله تعالى: {بَلى} ردا لقولهم {لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. أي ليس كما تقولون، ثم استأنف فقال: {مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى} الشرك فليس من الكاذبين بل يحبه الله ورسوله.
السابعة: قال رجل لابن عباس: إنا نصيب في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول: ليس علينا في ذلك بأس. فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب {لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم، ذكره عبد الرازق عن معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن صعصعة أن رجلا قال لابن عباس، فذكره.
الثانية: قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يدل على أن الكافر لا يجعل أهلا لقبول شهادته، لأن الله تعالى وصفه بأنه كذاب. وفيه رد عل الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع. قال ابن العربي: ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل، ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله.
وفي الخبر: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر».

.تفسير الآية رقم (76):

{بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}
{مَنْ} رفع بالابتداء وهو شرط. و{أَوْفى} في موضع جزم. و{اتَّقى} معطوف عليه، أي واتقى الله ولم يكذب ولم يستحل ما حرم عليه. {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يحب أولئك. وقد تقدم معنى حب الله لأوليائه. والهاء في قوله: {بِعَهْدِهِ} راجعة إلى الله عز وجل. وقد جرى ذكره في قوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ويجوز أن تعود على الموفى ومتقي الكفر والخيانة ونقض العهد. والعهد مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول.

.تفسير الآية رقم (77):

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)}
فيه مسألتان: الأولى: روى الأئمة عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألك بينة؟» قلت لا، قال لليهودي: «احلف» قلت: إذا يحلف فيذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا} إلى آخر الآية.
وروى الأئمة أيضا عن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة». فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: «وإن كان قضيبا من أراك». وقد مضى في البقرة معنى: {لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ}.
الثانية: ودلت هذه الآية والأحاديث أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه، وقد روى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضى بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة». وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا وقال: إن حكم الحاكم المبني على الشهادة الباطلة يحل الفرج لمن كان محرما عليه، كما تقدم في البقرة. وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن يعلم أن القضية باطل. وقد شنع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة، ولم يصن الفروج عن ذلك، والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان. وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان إن شاء الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}
يعني طائفة من اليهود. {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ} وقرأ أبو جعفر وشيبة {يَلْوُونَ} على التكثير. إذا أماله، ومنه والمعنى يحرفون الكلم ويعدلون به عن القصد. واصل اللي الميل. لوى بيده، ولوى برأسه قوله تعالى: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} [النساء: 46] أي عنادا عن الحق وميلا عنه إلى غيره. ومعنى {ولا تلوون على أحد} [آل عمران: 153] أي لا تعرجون عليه، يقال لوى عليه إذا عرج وأقام. واللي المطل. لواه بدينه يلويه ليا وليانا مطله. قال:
قد كنت داينت بها حسانا ** مخافة الإفلاس والليانا

يحسن بيع الأصل والعيانا

وقال ذو الرمة:
تريدين ليّاني وأنت مليّة ** وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا

وفي الحديث: «لي الواحد يحل عرضه وعقوبته». وألسنة جمع لسان في لغة من ذكر، ومن أنث قال ألسن.

.تفسير الآية رقم (79):

{ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}
{ما كانَ} معناه ما ينبغي، كما قال: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] و{ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]. و{ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا} [النور: 16] يعني ما ينبغي. والبشر يقع للواحد والجمع لأنه بمنزلة المصدر، والمراد به هنا عيسى في قول الضحاك والسدي. والكتاب: القرآن. والحكم: العلم والفهم. وقيل أيضا: الأحكام. أي إن الله لا يصطفي لنبوته الكذبة، ولو فعل ذلك بشر لسلبه الله آيات النبوة وعلاماتها. ونصب {ثُمَّ يَقُولَ} على الاشتراك بين {أَنْ يُؤْتِيَهُ} وبين {يَقُولَ} أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة وقوله: {كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}. {وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أي ولكن جائز أن يكون النبي يقول لهم: كونوا ربانيين؟. وهذه الآية قيل إنها نزلت في نصارى نجران. وكذلك روي أن السورة كلها إلى قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] كان سبب نزولها نصارى نجران ولكن مزج معهم اليهود، لأنهم فعلوا من الجحد والعناد فعلهم. والربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الرب. والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور، روي معناه عن ابن عباس. قال بعضهم: كان في الأصل ربي فأدخلت الألف والنون للمبالغة، كما يقال للعظيم اللحية: لحياني ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رقباني.
وقال المبرد: الربانيون أرباب العلم، واحدهم ربان، من قولهم: ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه، فمعناه على هذا يدبرون أمور الناس ويصلحونها. والألف والنون للمبالغة كما قالوا ريان وعطشان، ثم ضمت إليها ياء النسبة كما قيل: لحياني ورقباني وجماني. قال الشاعر:
لو كنت مرتهنا في الجو أنزلني ** منه الحديث ورباني أحباري

فمعنى الرباني العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه، لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة: وقال أبو رزين: الرباني هو العالم الحكيم.
وروى شعبة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود {وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} قال: حكماء علماء. ابن جبير: حكماء أتقياء.
وقال الضحاك: لا ينبغي لاحد أن يدع حفظ القرآن جهده فإن الله تعالى يقول: {وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}.
وقال ابن زيد: الربانيون الولاة، والأحبار العلماء.
وقال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار. قال النحاس: وهو قول حسن، لأن الأحبار هم العلماء. والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة، مأخوذ من قول العرب: رب أمر الناس يربه إذا أصلحه وقام به، فهو راب ورباني على التكثير. قال أبو عبيدة: سمعت عالما يقول: الرباني العالم بالحلال والحرام والامر والنهي، العارف بأنباء الامة وما كان وما يكون.
وقال محمد بن الحنفية يوم مات أبن عباس: اليوم مات رباني هذه الامة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حر ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه- ثم تلا هذه الآية: {ولكن كونوا ربانيين} الآية». رواه ابن عباس.
قوله تعالى: {بما كنتم تعلمون تاب وبما كنتم تدرسون} قرأه أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف من العلم. واختار هذه القراءة أبو حاتم. قال أبو عمرو: وتصديقها {تَدْرُسُونَ} ولم يقل {تدرسون} بالتشديد من التدريس. وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة {تعلمون} بالتشديد من التعليم، واختارها أبو عبيد. قال: لأنها تجمع المعنيين {تعلمون}، و{تدرسون}. قال مكي: التشديد أبلغ، لأن كل معلم عالم بمعنى يعلم وليس كل من علم شيئا معلما، فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، فالتعليم أبلغ وأمدح وغيره أبلغ في الذم. احتج من رجح قراءة التخفيف بقول ابن مسعود {كونوا ربانيين} قال: حكماء علماء، فيبعد أن يقال كونوا فقهاء حكماء علماء بتعليمكم. قال الحسن، كونوا حكماء علماء بعلمكم. وقرأ أبو حيوة {تدرسون} من أدرس يدرس. وقرأ مجاهد {تعلمون} بفتح التاء وتشديد اللام، أي تتعلمون.