فصل: تفسير الآيات (98- 99):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (98- 99):

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}
قوله تعالى: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي تصرفون عن دين الله {مَنْ آمَنَ}. وقرأ الحسن {تصدون} بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان: صد وأصد، مثل صل اللحم واصل إذا أنتن، وخم وأخم أيضا إذا تغير. {تَبْغُونَها عِوَجاً} تطلبون لها، فحذف اللام، مثل {وَإِذا كالُوهُمْ} [المطففين: 3]. يقال: بغيت له كذا أي طلبته. وأبغيته كذا أي أعنته. والعوج: الميل والزيغ بكسر العين في الدين والقول والعمل وما خرج عن طريق الاستواء. وبالفتح في الحائط والجدار وكل شخص قائم، عن أبي عبيدة وغيره. ومعنى قوله تعالى: {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ} [طه: 108] أي لا يقدرون أن يعوجوا عن دعائه. وعاج بالمكان وعوج أقام ووقف. والعائج الواقف، قال الشاعر:
هل أنتم عائجون بنا لعنا ** نرى العرصات أو أثر الخيام

والرجل الأعوج: السيئ الخلق، وهو بن العوج. والعوج من الخيل التي في أرجلها تحنيب. والأعوجية من الخيل تنسب إلى فرس كان في الجاهلية سابقا. ويقال: فرس محنب إذا كان بعيد ما بين الرجلين بغير فحج، وهو مدح. ويقال: الحنب اعوجاج في الساقين. قال الخليل التحنيب يوصف في الشدة، وليس ذلك باعوجاج.
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ شُهَداءُ} أي عقلاء.
وقيل: شهداء أن في التوراة مكتوبا أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، إذ فيه نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.تفسير الآية رقم (100):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100)}
نزلت في يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجلس بينهم وأنشدهم شعرا قاله أحد الحيين في حربهم. فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شي، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت. فنادى هؤلاء: يا آل أوس. ونادى هؤلاء. يا آل خزرج، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية، فجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته انصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون، عن عكرمة وابن زيد وابن عباس. والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سامعين مطيعين، فأنزل الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
يعنى الأوس والخزرج. {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} يعني شاسا وأصحابه. {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ} قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.

.تفسير الآية رقم (101):

{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}
قاله تعالى على جهة التعجب، أي {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ} يعني القرآن. {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عباس: كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية، فذكروا ما كان بينهم فثار بعضهم على بعض بالسيوف، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فذهب إليهم، فنزلت هذه الآية {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} إلى قوله تعالى: {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها} ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته. قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصة، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيهم وهم يشاهدونه. ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الامة، لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتى فينا مكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا وإن لم نشاهده.
وقال قتادة: في هذه الآية علمان ببنان؟: كتاب الله ونبي الله، فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. {وَكَيْفَ} في موضع نصب، وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين، واختير لها الفتح لان ما قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته. {فَقَدْ هُدِيَ} وفق وأرشد {إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}. ابن جريج {يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} يؤمن به.
وقيل: المعنى ومن يعتصم بالله أي يتمسك بحبل الله، وهو القرآن. يقال: اعصم به واعتصم، وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره. واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به. وكل متمسك بشيء معصم ومعتصم. وكل مانع شيئا فهو عاصم، قال الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني تميم ** إذا ما أعظم الحدثان نابا

قال النابغة:
يظل من خوفه الملاح معتصما ** بالخيزرانة بعد الأين والنجد

وقال آخر:
فأشرط فيها نفسه وهو معصم ** وألقى بأسباب له وتوكلا

وعصمه الطعام: منع الجوع منه، تقول العرب: عص- م فلانا الطعام أي منعه من الجوع، فكنوا السويق بأبي عاصم لذلك. قال أحمد بن يحيى: العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا، وأنشد:
فلا تلوميني ولومي جابرا ** فجابر كلفني الهواجرا

ويسمونه عامرا. وأنشد:
أبو مالك يعتادني بالظهائر ** يجيء فيلقى رحله عند عامر

أبو مالك كنية الجوع.

.تفسير الآية رقم (102):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}
فيه مسألة واحدة: روى البخاري عن مرة عن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر».
وقال ابن عباس: هو ألا يعصى طرفة عين. وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فنسخت هذه الآية، عن قتادة والربيع وابن زيد. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية.
وقيل: إن قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} بيان لهذه الآية. والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وهذا أصوب، لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أولى. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قول الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ} لم تنسخ، ولكن {حَقَّ تُقاتِهِ} أن يجاهد في سبيل الله حق جهاده، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم. قال النحاس: وكلما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ. وقد مضى في البقرة معنى قوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

.تفسير الآية رقم (103):

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا} العصمة المنعة، ومنه يقال للبدرقة: عصمة. والبذرقة: الخفارة للقافلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها. قال ابن خالويه: البدرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عربتها العرب، يقال: بعث السلطان بذرقه مع القافلة. والحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة. والحبل: حبل العاتق. والحبل: مستطيل من الرمل، ومنه الحديث: والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج، والحبل الرسن. والحبل العهد، قال الأعشى:
وإذا تجوزها حبال قبيلة ** أخذت من الأخرى إليك حبالها

يريد الأمان. والحبل الداهية، قال كثير:
فلا تعجلي يا عز أن تتفهمي ** بنصح أتى الواشون أم بحبول

والحبالة: حبالة الصائد. وكلها ليس مرادا في الآية إلا الذي بمعنى العهد، عن ابن عباس.
وقال ابن مسعود: حبل الله القرآن. ورواه علي وأبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك. وأبو معاوية عن الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن هذا القرآن هو حبل الله».
وروى تقي بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} قال: الجماعة، روي عنه وعن غيره من وجوه، والمعنى كله متقارب متداخل، فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة. ورحم الله بنالمبارك حيث قال:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ** منه بعروته الوثقى لمن دانا

الثانية: قوله تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} يعني في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم، عن ابن مسعود وغيره. ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخوانا، فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر، ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً}. وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع، فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اختلاف أمتي رحمة» وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة». قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وأخرجه أيضا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي». أخرجه من حديث عبد الله بن زياد الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد عن ابن عمر، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال أبو عمر: وعبد الله الإفريقي ثقة وثقه قومه وأثنوا عليه، وضعفه آخرون. وأخرجه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الاهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله».
وفي سنن ابن ماجه عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض». قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الاهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل، يقول الله: {فَإِنْ تابُوا} [التوبة: 11] قال: خلعوا الأوثان وعبادتها {وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ}، وقال في آية أخرى: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ}.
أخرجه عن نصر بن علي الجهضمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس. قال أبو الفرج الجوزي: فإن قيل هذه الفرق معروفة، فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفرق وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها، فقد ظهر لنا من أصول الفرق الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية.
وقال بعض أهل العلم: أصل الفرق الضالة هذه الفرق الست، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة.
انقسمت الحرورية اثنتي عشرة فرقة، فأولهم الازرقية- قالوا: لا نعلم أحدا مؤمنا، وكفروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم. والإباضية- قالوا: من أخذ بقولنا فهو مؤمن، ومن أعرض عنه فهو منافق. والثعلبية- قالوا: إن الله عز وجل لم يقض ولم يقدر. والخازمية- قالوا: لا ندري ما الايمان، والخلق كلهم معذورون. والخلفية- زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر. والكوزية- قالوا: ليس لاحد أن يمس أحدا، لأنه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل. والكنزية- قالوا: لا يسع أحدا أن يعطي ماله أحدا، لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق. والشمراخية- قالوا: لا بأس بمس النساء الأجانب لأنهن رياحين. والاخنسية- قالوا: لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر. والحكمية- قالوا: من حاكم إلى مخلوق فهو كافر. والمعتزلة- قالوا: اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين. والميمونية- قالوا: لا إمام إلا برضا أهل محبتنا. وانقسمت القدرية اثنتي عشرة فرقة: الاحمرية- وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم، ويحول بينهم وبين معاصيهم. والثنوية- وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان. والمعتزلة- وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا صفات الربوبية. والكيسانية وهم الذين قالوا: لا ندري هذه الافعال من الله أو من العباد، ولا نعلم أثياب؟ الناس بعد أو يعاقبون. والشيطانية- قالوا: إن الله تعالى لم يخلق الشيطان. والشريكية- قالوا: إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر. والوهمية- قالوا: ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات، ولا للحسنة والسيئة ذات. والزبرية- قالوا: كل كتاب نزل من عند الله فالعمل به حق، ناسخا كان أو منسوخا. والمسعدية- زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته والناكثية- زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا إثم عليه والقاسطية- تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله: من زعم أن الله شيء فهو كافر. وانقسمت الجهمية اثنتي عشرة فرقة: المعطلة- زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الإنسان فهو مخلوق. وإن من أدعى أن الله يرى فهو كافر. والمريسية قالوا: أكثر صفات الله تعالى مخلوقة. والملتزقة- جعلوا الباري سبحانه في كل مكان. والواردية- قالوا لا يدخل النار من عرف ربه، ومن دخلها لم يخرج منها أبدا والزنادقة- قالوا: ليس لاحد أن يثبت لنفسه ربا، لأن الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس، وما لا يدرك لا يثبت. والحرقية- زعموا أن الكافر تحرقه النار مرة واحدة ثم يبقى محترقا أبدا لا يجد حر النار. والمخلوقية- زعموا أن القرآن مخلوق. والفانية- زعموا أن الجنة والنار يفنيان، ومنهم من قال لم يخلقا. والعبدية- جحدوا الرسل وقالوا إنما هم حكماء. والواقفية- قالوا: لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. والقبرية- ينكرون عذاب القبر والشفاعة. واللفظية- قالوا لفظنا بالقرآن مخلوق. وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة: التاركية- قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الايمان به، فمن آمن به فليفعل ما شاء. والسائبية- قالوا: إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاءوا. والراجئة- قالوا: لا يسمى الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا، لأنا لا ندري ما له عند الله تعالى. والسالبية- قالوا: الطاعة ليست من الايمان. والبهيشية- قالوا: الايمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر. والعملية- قالوا: الايمان عمل. والمنقوصية- قالوا: الايمان لا يزيد ولا ينقص. والمستثنية- قالوا: الاستثناء من الايمان. والمشبهة- قالوا: بصر كبصر وئد كيد. والحشوية- قالوا: حكم الأحاديث كلها واحد، فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض. والظاهرية- الذين نفوا القياس. والبدعية- أول من ابتدع هذه الأحداث في هذه الامة.
وانقسمت الرافضة اثنتي عشرة فرقة: العلوية- قالوا: إن الرسالة كانت إلى علي وأن جبريل أخطأ. والأمرية- قالوا: إن عليا شريك محمد في أمره. والشيعة- قالوا: إن عليا رضي الله عنه وصي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووليه من بعده، وإن الامة كفرت بمبايعة غيره. والإسحاقية- قالوا: إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة، وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي. والناووسية- قالوا: علي أفضل الامة، فمن فضل غيره عليه فقد كفر. والإمامية- قالوا: لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين، وإن الامام يعلمه جبريل عليه السلام، فإذا مات بدل غيره مكانه. والزيدية- قالوا: ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم، برهم وفاجرهم. والعباسية- زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره. والتناسخية- قالوا: الأرواح تتناسخ، فمن كان محسنا خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه. والرجعية- زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائهم. واللاعنة- يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشة وغيرهم والمتربصة- تشبهوا بزي النساك ونصبوا في كل عصر رجلا ينسبون إليه الامر، يزعمون أنه مهدي هذه الامة، فإذا مات نصبوا آخر. ثم انقسمت الجبرية اثنتي عشرة فرقة: فمنهم المضطرية- قالوا: لا فعل للآدمي، بل الله يفعل الكل. والافعالية- قالوا: لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل. والمفروغية- قالوا: كل الأشياء قد خلقت، والآن لا يخلق شي. والنجارية- زعمت أن الله تعالى يعذب الناس على فعله لا على فعلهم. والمنانية- قالوا: عليك بما يخطر بقلبك، فافعل ما توسمت منه الخير. والكسبية- قالوا: لا يكتسب العبد ثوابا ولا عقابا. والسابقية- قالوا: من شاء فليعمل ومن شاء ف- لا يعمل، فإن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره. والحبية- قالوا: من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الأركان. والخوفية- قالوا: من أحب الله تعالى لم يسعه أن يخافه، لأن الحبيب لا يخاف حبيبه. والفكرية- قالوا: من أزداد علما أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة.
والخشبية- قالوا: الدنيا بين العباد سواء، لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم. والمنية- قالوا: منا الفعل ولنا الاستطاعة. وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الامة في آخر سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
وقال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله عز وجل يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال». فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين. هذا معنى الآية على التمام، وفيها دليل على صحة الإجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أصول الفقه والله أعلم.
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها}. أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام واتباع نبيه محمد عليه السلام، فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة. والمراد الأوس والخزرج، والآية تعم. ومعنى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً} أي صرتم بنعمة الإسلام إخوانا في الدين. وكل ما في القرآن {فَأَصْبَحْتُمْ} معناه صرتم، كقوله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] أي صار غائرا. والاخوان جمع أخ، وسمي أخا لأنه يتوخى مذهب أخيه، أي يقصده. وشفا كل شيء حرفه، وكذلك شفيره ومنه قوله تعالى: {عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ} [التوبة: 109]. قال الراجز:
نحن حفرنا للحجيج سجله ** نابتة فوق شفاها بقلة

وأشفى على الشيء أشرف عليه، ومنه أشفى المريض على الموت. وما بقي منه إلا شفا أي قليل قال ابن السكيت: يقال للرجل عند موته وللقمر عند إمحاقه وللشمس عند غروبها: ما بقي منه إلا شفا أي قليل. قال العجاج:
ومربإ عال لمن تشرفا ** أشرفته بلا شفى أو بشفى

قوله بلا شفى أي غابت الشمس. أو بشفى وقد بقيت منها بقية. وهو من ذوات الياء، وفيه لغة أنه من الواو.
وقال النحاس: الأصل في شفا شفو، ولهذا يكتب بالألف ولا يمال.
وقال الأخفش: لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو، ولان الإمالة بين الياء، وتثنيته شفوان. قال المهدوي: وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الايمان.