فصل: تفسير الآية رقم (104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (104):

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}
قد مضى القول في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه السورة. ومن في قوله: {مِنْكُمْ} للتبعيض، ومعناه أن الأمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء.
وقيل: لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك.
قلت: القول الأول أصح، فإنه يدل على أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ} [الحج: 41] الآية. وليس كل الناس مكنوا. وقرأ ابن الزبير: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم} قال أبو بكر الأنباري: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن، يدل على صحة ما أصف الحديث الذي حدثنيه أبي حدثنا حسن بن عرفة حدثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون عن صبيح قال: سمعت عثمان بن عفان يقرأ {ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم} فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتقد هذه الزيادة من القرآن، إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين، وإنما ذكرها واعظا بها ومؤكدا ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا.

.تفسير الآية رقم (105):

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)}
يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين.
وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الامة.
وقال أبو أمامة: هم الحرورية، وتلا الآية.
وقال جابر بن عبد الله: {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} اليهود والنصارى. {جاءهم} مذكر على الجمع، وجاءتهم على الجماعة.

.تفسير الآيات (106- 107):

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وأبيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته أبيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه. ويقال: ذلك عند قوله تعالى: {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59]. ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون، فيقول الله تعالى للمؤمنين: «من ربكم؟» فيقولون: ربنا الله عز وجل فيقول لهم: «أتعرفونه إذا رأيتموه». فيقولون: سبحانه! إذا اعترف عرفناه. فيرونه كما شاء الله.
فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم، وذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}. ويجوز تبيض وتسود بكسر التائين، لأنك تقول: ابيضت، فتكسر التاء كما تكسر الالف، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب. وقرأ الزهري {يوم تبياض وتسواد} ويجوز كسر التاء أيضا، ويجوز يوم يبيض وجوه بالياء على تذكير الجمع، ويجوز أجوه مثل أقتت. وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم. واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم. واختلفوا في التعيين، فقال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة.
قلت: وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال: «يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة» ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب.
وقال فيه: منكر من حديث مالك. قال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير.
وقال أبي بن كعب: الذين اسودت وجوههم هم الكفار، وقيل لهم: أكفرتم بعد إيمانكم لاقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر. هذا اختيار الطبري. الحسن: الآية في المنافقين. قتادة هي في المرتدين. عكرمة: هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به، فذلك قوله: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ} وهو اختيار الزجاج. مالك بن أنس: هي في أهل الاهواء. أبو أمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هي في الحرورية.
وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال: «هي في القدرية». روى الترمذي عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على باب دمشق، فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه- ثم قرأ- {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} إلى آخر الآية. قلت لابي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لو لم أسمعه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا- حتى عد سبعا- ما حدثتكموه. قال: هذا حديث حسن.
وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم». قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: أهكذا سمعت من سهل بن سعد؟ فقلت نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: «فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي». وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى».
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والاهواء والبدع، كل يخاف، عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والحبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم: وقد يكون من غير أهل الاهواء من هو شر من أهل الاهواء. وكان يقول: تمام الإخلاص تجنب المعاصي.
الثالثة: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} في الكلام حذف، أي فيقال لهم {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ} يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى. ويقال: هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به.
وقال أبو العالية: هذا للمنافقين، يقال: أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية. وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب {أما} لان المعنى في قولك: أما زيد فمنطلق، مهما يكن من شيء فزيد منطلق. وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} هؤلاء أهل طاعة الله عز وجل والوفاء بعهده. {فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون. جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات. آمين.

.تفسير الآيات (108- 109):

{تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}
قوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ اللَّهِ} ابتداء وخبر، يعني القرآن. {نَتْلُوها عَلَيْكَ} يعني ننزل عليك جبريل فيقرؤها عليك. {بِالْحَقِّ} أي بالصدق.
وقال الزجاج: {تِلْكَ آياتُ اللَّهِ} المذكورة حجج الله ودلائله.
وقيل: {تِلْكَ} بمعنى هذه ولكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل {تلك} ويجوز أن تكون {آياتُ اللَّهِ} بدلا من {تلك} ولا تكون نعتا، لأن المبهم لا ينعت بالمضاف. {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ} يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب. {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الأرض في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.

.تفسير الآية رقم (110):

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: روى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله». وقال: هذا حديث حسن.
وقال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام.
وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية.
وقال عمر بن الخطاب: من فعل فعلهم كان مثلهم.
وقيل: هم أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل. وهم الشهداء على الناس يوم القيامة، كما تقدم في البقرة.
وقال مجاهد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} على الشرائط المذكورة في الآية.
وقيل: معناه كنتم في اللوح المحفوظ.
وقيل: كنتم مذ آمنتم خير أمة.
وقيل: جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. فالمعنى كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة.
وقال الأخفش: يريد أهل أمة، أي خير أهل دين، وأنشد:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

وقيل: هي كان التامة، والمعنى خلقتم ووجدتم خير أمة. ف {خير أمة} حال.
وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة. وأنشد سيبويه:
وجيران لنا كانوا كرام

ومثله قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]. وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86].
وقال في موضع آخر: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ}.
وروى سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: تجرون الناس بالسلاسل إلى الإسلام. قال النحاس: والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمة. وعلى قول مجاهد: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
وقيل: إنما صارت أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير أمة لان المسلمين منهم أكثر، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى. فقيل: هذا لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الناس قرني» أي الذين بعثت فيهم.
الثانية: وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الامة خير الأمم، فقد روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم». الحديث وهذا يدل على أن أول هذه الامة أفضل ممن بعدهم، وإلى هذا ذهب معظم العلماء، وأن من صحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل. وذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قول عليه السلام: «خير الناس قرني» ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول. وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للايمان وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الخدود، وقال لهم: ما تقولون في السارق والشارب والزاني.
وقال مواجهة لمن هو في قرنه: «لا تسبوا أصحابي».
وقال لخالد ابن الوليد في عمار: «لا تسب من هو خير منك» وروى أبو أمامة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي».
وفي مسند أبي داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. قال: كنت جالسا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا» قلنا الملائكة. قال: «وحق لهم بل غيرهم» قلنا الأنبياء. قال: «وحق لهم بل غيرهم» ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجدون ورقا فيعملون بما فيها فهم أفضل الخلق إيمانا».
وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال: قلنا يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ قال: «نعم قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين فيؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني».
وقال أبو عمر: وأبو جمعة له صحبة واسمه حبيب بن سباع، وصالح بن جبير من ثقات التابعين.
وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن أمامكم أياما الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثله عمله» قيل: يا رسول الله، منهم؟ قال: «بل منكم». قال أبو عمر: وهذه اللفظة {بل منكم} قد سكت عنها بعض المحدثين فلم يذكرها.
وقال عمر بن الخطاب في تأويل قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: من فعل مثل فعلكم كان مثلكم. ولا تعارض بين الأحاديث، لأن الأول على الخصوص، والله الموفق. وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب: إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الامة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم، ومما يشهد لهذا قوله عليه السلام: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء». ويشهد له أيضا حديث أبي ثعلبة، ويشهد له أيضا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره». ذكره أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي، ورواه هشام بن عبيد الله الرازي عن مالك عن الزهري عن أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره». ذكره الدارقطني في مسند حديث مالك. قال أبو عمر: هشام بن عبيد الله ثقة لا يختلفون في ذلك. وروي أن عمر ابن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر، فأنت أفضل من عمر لان زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر. قال: وكتب إلى فقهاء زمانه، فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم. وقد عارض بعض الجلة من العلماء قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الناس قرني» بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله». قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الامة وآخرها. والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره من الايمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين، ويكثر فيه الفسق والهرج، ويذل المؤمن ويعز الفاجر ويعود الدين غريبا كما بدا غريبا ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر، فيستوي حينئذ أول هذه الامة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية، ومن تدبر آثار هذا الباب بأن له الصواب، والله يؤتي فضله من يشاء.
الثالثة: قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} مدح لهذه الامة ما أقاموا ذلك واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم. وقد تقدم الكلام في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول السورة.
قوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} أخبر أن إيمان أهل الكتاب بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير لهم، وأخبر أن منهم مؤمنا وفاسقا، وأن الفاسق أكثر.