فصل: سورة النساء :

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة النساء :

سورة النساء وهي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} على ما يأتي بيانه. قال النقاش: وقيل: نزلت عند هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة. وقد قال بعض الناس: إن قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} حيث وقع إنما هو مكي، وقاله علقمة وغيره، فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني. وقال النحاس: هذه السورة مكية. قلت: والصحيح الأول، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. وأما من قال: إن قوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} مكي حيث وقع فليس بصحيح، فإن البقرة مدنية وفيها قوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} في موضعين، وقد تقدم. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (1):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} قد مضى في البقرة اشتقاق {النَّاسِ} ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث، فلا معنى للإعادة وفي الآية تنبيه على الصانع.
وقال: {واحِدَةٍ} على تأنيث لفظ النفس. ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر. ويجوز في الكلام من نفس واحد وهذا على مراعاة المعنى، إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام، قاله مجاهد وقتادة. وهي قراءة ابن أبي عبلة {واحد} بغير هاء. {وَبَثَّ} معناه فرق ونشر في الأرض، ومنه: {وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} وقد تقدم في البقرة. و{مِنْهُما} يعني آدم وحواء. قال مجاهد: خلقت حواء من قصيرى آدم.
وفي الحديث: «خلقت المرأة من ضلع عوجاء»، وقد مضى في البقرة. {رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً} حصر ذريتهما في نوعين، فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع، لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما، على ما تقدم ذكره في البقرة من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها.
الثانية: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين. و{الَّذِي} في موضع نصب على النعت. و{الْأَرْحامَ} معطوف. أي اتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها. وقرأ أهل المدينة {تساءلون} بإدغام التاء في السين. وأهل الكوفة بحذف التاء، لاجتماع تاءين، وتخفيف السين، لأن المعنى يعرف، وهو كقوله: {وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ} و{تُنَزَّلَ} وشبهه. وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة {الأرحام} بالخفض. وقد تكلم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لحن لا تحل القراءة به. وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح، ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه، قال النحاس: فيما علمت.
وقال سيبويه: لم يعطف على المضمر المخفوض، لأنه بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه.
وقال جماعة: هو معطوف على المكني، فإنهم كانوا يتساءلون بها، يقول الرجل:
سألتك بالله والرحم، هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد، وهو الصحيح في المسألة، على ما يأتي. وضعفه أقوام منهم الزجاج، وقالوا: يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض، كقوله: {فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ} ويقبح مررت به وزيد. قال الزجاج عن المازني: لان المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز مررت بزيد وك كذلك لا يجوز مررت بك وزيد. وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر، كما قال:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ** فاذهب فما بك والأيام من عجب

عطف الأيام على الكاف في بك بغير الباء للضرورة. وكذلك قول الآخر:
نعلق في مثل السواري سيوفنا ** وما بينها والكعب مهوى نفانف

عطف الكعب على الضمير في بينها ضرورة.
وقال أبو علي: ذلك ضعيف في القياس.
وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ {ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} و{اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} لأخذت نعلي ومضيت. قال الزجاج: قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في اصول أمر الدين، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تحلفوا بآبائكم» فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم. ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم، وإنه خاص لله تعالى. قال النحاس: وقول بعضهم {والأرحام} قسم خطأ من المعنى والاعراب، لأن الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَة يدل على النصب.
وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة، فرأيت وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتغير لما رأى من فاقتهم، ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} إلى: {وَالْأَرْحامَ}، ثم قال: «تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره» وذكر الحديث. فمعنى هذا على النصب، لأنه حضهم على صلة أرحامهم. وأيضا فقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت». فهذا يرد قول من قال: المعنى أسألك بالله وبالرحم. وقد قال أبو إسحاق: معنى: {تَسائَلُونَ بِهِ} يعني تطلبون حقوقكم به. ولا معنى للخفض أيضا مع هذا.
قلت: هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة {والأرحام} بالخفض، واختاره ابن عطية. ورده الامام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، واختار العطف فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرابها أئمة القراء ثبتت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن رد ذلك فقد رد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يشك أحد في فصاحته. وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر، لأنه عليه السلام قال لابي العشراء: «وأبيك لو طعنت في خاصرته». ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه. قال القشيري: وقد قيل هذا إقسام بالرحم، أي اتقوا الله وحق الرحم، كما تقول: افعل كذا وحق أبيك. وقد جاء في التنزيل: {وَالنَّجْمِ}، وَالطُّورِ، وَالتِّينِ، لعمرك وهذا تكلف.
قلت: لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون {والأرحام} من هذا القبيل، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه. والله أعلم.
ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء، فلا يبعد أن يكون قسما. والعرب تقسم بالرحم. ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما حذفها في قوله:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ** ولا ناعب إلا ببين غرابها

فجر وإن لم يتقدم باء. قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك: والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه. ومنه قوله:
آبك أيّه بي أو مصدّر ** من حمر الجلة جأب حشور

ومنه:
فاذهب فما بك والأيام من عجب

وقول الآخر:
وما بينها والكعب غوط نفانف

ومنه:
فحسبك والضحاك سيف مهند

وقول الآخر:
وقد رام آفاق السماء فلم يجد ** له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا

وقول الآخر:
ما إن بها والأمور من تلف ** ما حم من أمر غيبه وقعا

وقول الآخر:
أمر على الكتيبة لست أدري ** أحتفي كان فيها أم سواها

فسواها مجرور الموضع بفي. وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى: {وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ} فعطف على الكاف والميم. وقرأ عبد الله بن يزيد {والأرحام} بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل. ويحتمل أن يكون إغراء، لأن من العرب من يرفع المغرى. وأنشد الفراء:
إن قوما منهم عمير وأشبا ** هـ عمير ومنهم السفاح

لجديرون باللقاء إذا قا ** ل أخو النجدة السلاح السلاح

وقد قيل: إن {وَالْأَرْحامَ} بالنصب عطف على موضع به، لأن موضعه نصب، ومنه قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وكانوا يقولون: أنشدك بالله والرحم. والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا.
الثالثة: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة. وقد صح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي: «نعم صلي أمك» فأمرها بصلتها وهي كافرة. فلتا كيدها دخل الفضل في صلة الكافر، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوى الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم، وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر». وهو قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق. ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال: الأول- أنه مخصوص بالآباء والأجداد.
الثاني- الجناحان يعني الاخوة.
الثالث- كقول أبي حنيفة.
وقال الشافعي: لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته، ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته. والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي. وأحسن طرقه رواية النسائي له، رواه من حديث ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه». وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه، غير أن النسائي قال في آخره: هذا حديث منكر.
وقال غيره: تفرد به ضمرة. وهذا هو معنى المنكر والشاد في اصطلاح المحدثين. وضمرة عدل ثقة، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره. والله أعلم.
الرابعة: واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة. فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث.
وقال شريك القاضي بعتقهم. وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه، واحتجوا بقوله عليه السلام: «لا يحزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه». قالوا: فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك، ولصاحب الملك التصرف. وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع، فإن الله تعالى يقول: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه، فإذا يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملا بالحديث: «فيشتريه فيعتقه»، أو لأجل الإحسان عملا بالآية. ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه. وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك، فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث، ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب، والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة، فإنه يقول: أنا ابن أبيه. وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {وَالْأَرْحامَ} الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة، ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام. فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند. وهم يرون ذلك نسخا، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة، وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات. والله أعلم.
السادسة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي حفيظا، عن ابن عباس ومجاهد. ابن زيد: عليما.
وقيل: {رَقِيباً} حافظا، قيل: بمعنى فاعل. فالرقيب من صفات الله تعالى، والرقيب: الحافظ والمنتظر، تقول: رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت.
والمرقب: المكان العالي المشرف، يقف عليه الرقيب. والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء.. ويقال: إن الرقيب ضرب من الحيات، فهو لفظ مشترك. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (2):

{وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)}
فيه خمس مسائل: الأولى قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاما، كقوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} ولا سحر مع السجود، فكذلك لا يتم مع البلوغ. وكان يقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يتيم أبي طالب استصحابا لما كان. {وَآتُوا} أي أعطوا. والإيتاء الإعطاء. ولفلان أتو، أي عطاء. أبو زيد: أتوت الرجل آتوه إتاوة، وهي الرشوة. واليتيم من لم يبلغ الحلم، وقد تقدم في البقرة مستوفى. وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء. نزلت- في قول مقاتل والكلبي- في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه، فنزلت، فقال العم: نعوذ بالله من الحوب الكبير! ورد المال. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ورجع به هكذا فإنه يحل داره» يعني جنته. فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله، فقال عليه السلام: «ثبت الأجر وبقي الوزر». فقيل: كيف يا رسول الله؟ فقال: «ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده» لأنه كان مشركا.
الثانية: وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين: أحدهما- إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية، إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلى والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير.
الثاني- الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه، وذلك عند الابتلاء والإرشاد، وتكون تسميته مجازا، المعنى: الذي كان يتيما، وهو استصحاب الاسم، كقوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} أي الذين كانوا سحرة. وكان يقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يتيم أبي طالب. فإذا تحقق الولي رشده حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ما له كله على كل حال، لأنه يصير جدا.
قلت: لما لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناس الرشد وذكره في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ}. قال أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن: لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما، فأقول: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد، وجب دفع المال إليه، وإن كان دون ذلك لم يجب، عملا بالآيتين.
وقال أبو حنيفة: لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم؟! وهل ذلك إلا في غاية البعد؟. قال ابن العربي: وهذا باطل لا وجه له، لا سيما على أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص، وليس في هذه المسألة. وسيأتي ما للعلماء في الحجر إن شاء الله تعالى.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أي لا تتبدلوا الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة، ولا الدرهم الطيب بالزيف. وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى، فكانوا يأخذون الطيب والجيد من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم، ويقولون: اسم باسم ورأس برأس، فنهاهم الله عن ذلك. هذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر الآية.
وقيل: المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو مالكم.
وقال مجاهد وأبو صالح وباذان: لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعو انتظارا الرزق الحلال من عند الله.
وقال ابن زيد:
كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث. عطاء: لا تربح يتيمك الذي عندك وهو غر صغير. وهذان القولان خارجان عن ظاهر الآية، فإنه يقال: تبدل الشيء بالشيء أي أخذه مكانه. ومنه البدل.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} قال مجاهد: وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ بقوله: {إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ}.
وقال ابن فورك عن الحسن: تأول الناس في هذه الآية النهى عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم فخفف عنهم في آية البقرة. وقالت طائفة من المتأخرين: ان {إِلى} بمعنى مع، كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ}. وأنشد القتبي:
يسدون أبواب القباب بضمر ** إلى عنن مستوثقات الأواصر

وليس بجيد.
وقال الحذاق: {إِلى} على بابها وهي تتضمن الا ضافه، أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل. فنهوا أن يعتقدوا أموال اليتامى كأموالهم فيتسلطوا عليها بالأكل والانتفاع.
الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً} {إِنَّهُ} أي الأكل. {كانَ حُوباً كَبِيراً} أي إثما كبيرا، عن ابن عباس والحسن وغيرهما. يقال: حاب الرجل يحوب حوبا إذا أثم. وأصله الزجر للإبل، فسمي الإثم حوبا، لأنه يزجر عنه وبه. ويقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي، أي إثمي. والحوبة أيضا الحاجة. ومنه في الدعاء: إليك أرفع حوبتي، أي حاجتي. والحوب الوحشة، ومنه قوله عليه السلام لابي أيوب: «إن طلاق أم أيوب لحوب». وفيه ثلاث لغات {حُوباً} بضم الحاء وهي قراءة العامة ولغة أهل الحجاز. وقرأ الحسن {حوبا} بفتح الحاء.
وقال الأخفش: وهي لغة تميم. مقاتل: لغة الحبش.
والحوب المصدر، وكذلك الحيابة. والحوب الاسم. وقرأ أبي بن كعب {حابا} على المصدر مثل القال. ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد. والحوأب بهمزة بعد الواو: المكان الواسع. والحوأب ماء أيضا. ويقال: ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة، ومنه قولهم: بات بحيبة سوء. واصل الياء الواو. وتحوب فلان أي تعبد وألقى الحوب عن نفسه. والتحوب أيضا التحزن. وهو أيضا الصياح الشديد، كالزجر، وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر ** من الغيظ في أكبادنا والتحوب