فصل: تفسير الآيات (17- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (17- 18):

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)}
فيهما أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} قيل: هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا.
وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر. واتفقت الامة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}. وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه- خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب. ولا فرق بين معصية ومعصية- هذا مذهب أهل السنة. وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها. وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف، لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم، والمكلف لهم، فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ}.
وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ}. وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ} فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء. والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب. قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة. قال ابن عطية: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى. فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط فقال أبو المعالي: يغلب على الظن قبول توبته.
وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه عز وجل. قال ابن عطية: وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ}. وإذا تقرر هذا فأعلم أن في قوله: {عَلَى اللَّهِ} حذفا وليس على ظاهره، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده. وهذا نحو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ: «أتدري ما حق العباد على الله؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أن يدخلهم الجنة». فهذا كله معناه: على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق. دليله قوله تعالى: {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي وعد بها.
وقيل: {عَلَى} هاهنا معناها عند والمعنى واحد، التقدير: عند الله، أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها، وهي أربعة: الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره، فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة. وقد قيل من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار، وقد تقدم في آل عمران كثير من معاني التوبة وأحكامها. ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا، ولهذا قال علماؤنا: إن السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود.
وقيل: {عَلَى} بمعنى من أي إنما التوبة من الله للذين، قاله أبو بكر بن عبدوس، والله أعلم. وسيأتي في التحريم الكلام في التوبة النصوح والأشياء التي يتاب منها.
الثانية: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ} السوء في هذه الآية، والانعام {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ} يعم الكفر والمعاصي، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا، وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي. وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا: الجهالة هنا العمد.
وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله. وهذا القول جار مع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}.
وقال الزجاج: يعني قوله: {بِجَهالَةٍ} اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية.
وقيل: {بِجَهالَةٍ} أي لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك. قال ابن عطية: وضعف قوله هذا ورد عليه.
الثالثة: قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال ابن عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت. وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب.
وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه. ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال:
قدم لنفسك توبة مرجوة ** قبل الممات وقبل حبس الألسن

بادر بها غلق النفوس فإنها ** ذخر وغنم للمنيب المحسن

قال علماؤنا رحمهم الله: وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت، لأن الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل. وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر». قال: هذا حديث حسن غريب. ومعنى ما لم يغرغر: ما لم تبلغ روحه حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به. قاله الهروي.
وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. والمبادر في الصحة أفضل، وألحق لامله من العمل الصالح. والبعد كل البعد الموت، كما قال:
وأين مكان البعد إلا مكانيا

وروى صالح المري عن الحسن قال: من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به.
وقال الحسن أيضا: إن إبليس لما هبط قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده. قال الله تعالى: «فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه».
الرابعة: قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الايمان، لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف. وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين. وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة، واليهم الإشارة بقوله تعالى: {أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} وهو الخلود. وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه، وهذا على أن السيئات ما دون الكفر، أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة. وقد قيل: إن السيئات هنا الكفر، فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت، ولا للذين يموتون وهم كفار.
وقال أبو العالية: نزل أول الآية في المؤمنين {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}. والثانية في المنافقين. {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ} يعني قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم. {حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت. {قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} فليس لهذا توبة. ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} أي وجيعا دائما. وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (19):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعلى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً} هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات. والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن، والخطاب للأولياء. و{أَنْ} في موضع رفع ب {يَحِلُّ}، أي لا يحل لكم وراثة النساء. و{كَرْهاً} مصدر في موضع الحال. واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها، فروى البخاري عن ابن عباس {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك. وأخرجه أبو داود بمعناه.
وقال الزهري وأبو مجلز: كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وان شاء زوجها من غيره واخذ صداقها ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها، فأنزل الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً}. فيكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن.
وقيل: كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوبا فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها، قال السدي.
وقيل: كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها. فنزلت هذه الآية. وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها، فذلك قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً}. والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال. و{كَرْهاً} بضم الكاف قراءة حمزة والكسائي، الباقون بالفتح، وهما لغتان.
وقال القتبي: الكره بالفتح بمعنى الإكراه، والكره بالضم المشقة. يقال: لتفعل ذلك طوعا أو كرها، يعني طائعا أو مكرها. والخطاب للأولياء.
وقيل: لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية إرثها، أو يفتدين ببعض مهورهن، وهذا أصح. واختاره ابن عطية قال: ودليل ذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ} وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الامة، وإنما ذلك للزوج، على ما يأتي بيانه في المسألة بعد هذا.
الثانية: قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} قد تقدم معنى العضل وأنه المنع في البقرة. {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} اختلف الناس في معنى الفاحشة، فقال الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه.
وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه.
وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن.
وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا، قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.
وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة: الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز، قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها، وهذا هو مذهب مالك. قال ابن عطية: إلا أني لا أحفظ له لصا في الفاحشة في الآية.
وقال قوم: الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا، وهذا في معنى النشوز. ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ}.
وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. قال ابن عطية: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال. قال أبو عمر: قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشيء، لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى، ومنه قيل للبذي: فاحش ومتفحش، وعلى أنه لو أطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها، وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس له ذلك، ولا أعلم أحدا قال: له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة. والله أعلم.
وقال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ} يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.
وقال الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} فهذه الآيات أصل هذا الباب.
وقال عطاء الخراساني: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود. وقول رابع {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت، فيكون هذا قبل النسخ، وهذا في معنى قول عطاء، وهو ضعيف.
الثالثة: وإذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولى أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها، الا الأب في بناته، فانه ان كان في عضلة صلاح فلا يعترض، قولا واحد، وذلك بالخاطب والخاطبين وان صح عضلة ففيه قولان في مذهب مالك: أنه كسائر الأولياء، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه. والقول الأخر- لا يعرض له: الرابعة: يجور أن يكون {تَعْضُلُوهُنَّ} جزما على النهى، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويجوز أن يكون نصبا عطفا على {أَنْ تَرِثُوا} فتكون الواو مشتركة: عطفت فعلا على فعل. وقرأ ابن مسعود {ولا أن تعضلوهن} فهذه القراءة تقوى احتمال النصب، وأن العضل مما لا يجوز بالنص.
الخامسة: قوله تعالى: {مُبَيِّنَةٍ} بكسر الياء قراءة نافع وأبي عمرو، والباقون بفتح الياء. وقرأ ابن عباس {مبينة} بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشيء، يقال: أبان الامر بنفسه، وأبنته وبين وبينته، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة.
السادسة: قوله تعالى: {وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة. والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو وليا، ولكن المراد بهذا الامر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: {فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ} وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقا في القول لا فظا ولا غليظا ولا مظهرا ميلا إلى غيرها. والعشرة: المخالطة والممازجة. ومنه قول طرفة:
فلئن شطت نواها مرة ** لعلى عهد حبيب معتشر

جعل الحبيب جمعا كالخليط والغريق. وعاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا. فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس واهنا للعيش. وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء.
وقال بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له.
وقال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: أتيت محمد ابن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية، فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين مناما نشتهيه منهن.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إنى أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي. وهذا داخل فيما ذكرناه. قال ابن عطية: وإلى معنى الآية ينظر قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فاستمتع بها وفيها عوج» أي لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها، فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق، وهو سبب الخلع.
السابعة: استدل علماؤنا بقوله تعالى: {وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزمه إلا خادم واحد، وذلك يكفيها خدمة نفسها، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها، وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد، لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد. قال علماؤنا: وهذا غلط، لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد، لأنها تحتاج من غسل ثيابها وإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد، وهذا بين. والله أعلم.
الثامنة: قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز، فهذا يندب فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يول الامر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين. وأَنْ رفع ب عسى وأن والفعل مصدر.
قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر» أو قال: «غيره». المعنى: أي لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها. أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب.
وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له، فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له.
وذكر ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية، عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر بن عبد الرحمن حيث قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة. وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها، فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها، فكان يقول: أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها. قال علماؤنا: في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليبغض المعى إذا امتلأ».