فصل: تفسير الآية رقم (65):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (65):

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت.
وقال الطبري: قوله: {فَلا} رد على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الامر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: {وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}.
وقال غيره: إنما قدم {لا} على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط {لا} الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام. و{شَجَرَ} معناه اختلف واختلط، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه. ويقال لعصى الهودج: شجار، لتداخل بعضها في بعض. قال الشاعر:
نفسي فداؤك والرماح شواجر ** والقوم ضنك للقاء قيام

وقال طرفة:
وهم الحكام أرباب الهدى ** وسعاة الناس في الأمر الشجر

وقالت طائفة: نزلت في الزبير مع الأنصاري، وكانت الخصومة في سقي بستان، فقال عليه السلام للزبير: «اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك». فقال الخصم: أراك تحابي ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال للزبير: «اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر» ونزل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}. الحديث ثابت صحيح رواه البخاري عن علي بن عبد الله عن محمد بن جعفر عن معمر، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري. واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري، فقال بعضهم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر.
وقال مكي والنحاس: هو حاطب بن أبي بلتعة.
وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي: هو حاطب.
وقيل: ثعلبة بن حاطب. وقيل غيره: والصحيح القول الأول، لأنه غير معين ولا مسمى، وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار. واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي. كما قال مجاهد، ثم تتناول بعمومها قصة الزبير. قال ابن العربي: وهو الصحيح، فكل من اتهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحكم فهو كافر، لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة وليست لاحد بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب. وأما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه. وسيأتي بيان هذا في آخر سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
الثانية: وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال: «اسق يا زبير» لقربه من الماء: «ثم أرسل الماء إلى جارك». أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك. فحضه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب، لأنه كان يربد ألا يمسك الماء أصلا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال: آن كان ابن عمتك؟ بمد همزة أن المفتوحة على جهة الإنكار، أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك؟. فعند ذلك تلون وجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له. وعليه لا يقال: كيف حكم في حال غضبه وقد قال: «لا يقضى القاضي وهو غضبان؟» فإنا نقول: لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام.
وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وان ظهر الحق. ومنعه مالك، واختلف فيه قول الشافعي. وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز، فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم.
الثالثة: واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل، فقال ابن حبيب: يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط. وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون. وقاله ابن وهب.
وقال ابن القاسم: إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه. قال ابن حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك، لأن المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل.
الرابعة: روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في سيل مهزور ومذينب: «يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل». قال أبو عمر: لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجه من الوجوه، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى.
وذكر عبد الرزاق عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل. وغيره من السيول كذلك. وسيل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال: لست أحفظ فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثا يثبت. قال أبو عمر: في هذا المعنى- وإن لم يكن بهذا اللفظ- حديث ثابت مجتمع على صحته. رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء، فأبى عليه، فاختصما إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر الحديث. قال أبو عمر: وقوله في الحديث: «يرسل» وفي الحديث الآخر: «إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الأعلى» يشهد لقول ابن القاسم. ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع، وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء، فقول ابن القاسم أولى على كل حال. هذا إذا لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به، فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك، فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته. وبالله التوفيق.
الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} أي ضيقا وشكا، ومنه قيل للشجر الملتف: حرج وحرجة، وجمعها حراج.
وقال الضحاك: أي إثما بإنكارهم ما قضيت. {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي ينقادوا لأمرك في القضاء.
وقال الزجاج: {تَسْلِيماً} مصدر مؤكدو، فإذا قلت: ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه، وكذلك {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا.

.تفسير الآيات (66- 68):

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)}
سبب نزولها ما روى أن ثابت بن قيس بن شماس تفاخر هو ويهودي، فقال اليهودي: والله لقد كتب علينا أن نقتل أنفسنا فقتلنا، وبلغت القتلى سبعين ألفا، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا.
وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ} الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إن من أمتي رجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي». قال ابن وهب قال مالك: القائل ذلك هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهكذا ذكر مكي أنه أبو بكر. وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي.
وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس، قالوا: لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الايمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي». ولَوْ حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا رفقا بنا لئلا تظهر معصيتنا. فكم من أمر قصرنا عنه مع خفته فكيف بهذا الامر مع ثقله! لكن أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية. {ما فَعَلُوهُ} أي القتل والخروج {إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} {قَلِيلٌ} بدل من الواو، والتقدير ما فعله أحد إلا قليل. وأهل الكوفة يقولون: هو على التكرير ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم. وقرأ عبد الله بن عامر وعيسى بن عمر {إلا قليلا} على الاستثناء. وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. الباقون بالرفع، والرفع أجود عند جميع النحويين.
وقيل: انتصب على إضمار فعل، تقديره إلا أن يكون قليلا منهم. وإنما صار الرفع أجود لان اللفظ أولى من المعنى، وهو أيضا يشتمل على المعنى. وكان من القليل أبو بكر وعمر وثابت بن قيس كما ذكرنا. وزاد الحسن ومقاتل وعمارا وابن مسعود وقد ذكرناهما. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} أفي الدنيا والآخرة. {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} أي على الحق. {وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} أي ثوابا في الآخرة.
وقيل: اللام لام الجواب، و{إِذاً} دالة على الجزاء، والمعنى لو فعلوا ما يوعظون به لاتيناهم.

.تفسير الآيات (69- 70):

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} لما ذكر تعالى الامر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله. وهذه الآية تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته: «اللهم الرفيق الأعلى».
وفي البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة» كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ} فعلمت أنه خير. وقالت طائفة: إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري- الذي أري الأذان-: يا رسول الله، إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية. وذكر مكي عن عبد الله هذا وأنه لما مات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده، فعمي مكانه. وحكاه القشري فقال: اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي، فعمي مكانه.
وحكى الثعلبي: أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، فقال له: «يا ثوبان ما غير لونك» فقال: يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك، لاني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ذكره الواحدي عن الكلبي. وأسند عن مسروق قال قال أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ}. وفى طاعة الله طاعة رسوله ولكنه ذكره تشريفا لقدره وتنويها باسمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله. {فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم، لا أنهم يساوونهم في الدرجة، فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء. وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول. قال الله تعالى: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}. والصديق فعيل، المبالغ في الصدق أو في التصديق، والصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه.
وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق. وقد تقدم في البقرة اشتقاق الصديق ومعنى الشهيد. والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقيل: الشُّهَداءِ القتلى في سبيل الله. الصَّالِحِينَ صالحي أمة محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قلت: واللفظ يعم كل صالح وشهيد، والله أعلم. والرفق لين الجانب. وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض. ويجوز وحسن أولئك رفقاء. قال الأخفش: {رَفِيقاً} منصوب على الحال وهو بمعنى رفقاء، وقال: انتصب على التمييز فوحد لذلك، فكأن المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا. كما قال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي نخرج كل واحد منكم طفلا.
وقال تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} وينظر معنى هذه الآية قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الرفقاء أربعة» ولم يذكر الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله.
الثانية: في الآية دليل على خلافة أبى بكر رضي الله عنه، وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبى بكر الصديق رضي الله عنه صديقا، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجز أن يتقدم بعده أحد. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه. خلافا لما قالت المعتزلة: انما ينال العبد ذلك بفعله. فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لا حد أن يثنى على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان قولهم. والله أعلم.