فصل: تفسير الآية رقم (94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (94):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)}
فيه احدى عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} هذا متصل بذكر القتل والجهاد. والضرب: السير في الأرض، تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره، مقترنة بفي. وتقول: ضربت الأرض، دون في إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك». وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله. فلما ذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شق عليه ونزلت الآية. وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله: {عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا} تلك الغنيمة. قال: قرأ ابن عباس {السلام}. في غير البخاري: وحمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته. واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والإستيعاب لابن عبد البر أن القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله، فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب، وقال عليه السلام: «إن الأرض لتقبل من هو شر منه». قال الحسن: أما إنها تحبس من هو شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا.
وفي سنن ابن ماجه عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا، فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إني مسلم، فطعنه فقتله، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هلكت! قال: «وما الذي صنعت؟» مرة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه» فقال: يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه؟ قال: «لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه». فسكت عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه، فأصبح على وجه الأرض. فقلنا: لعل عدوا نبشه، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الأرض. فقلنا: لعل الغلمان نعسوا، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض، فألقيناه في بعض تلك الشعاب.
وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس ابن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك. وقاله ابن القاسم عن مالك.
وقيل: كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله، ولما عظم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الامر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول: لا إله إلا الله. وقد تقدم القول فيه.
وقيل: القاتل أبو قتادة.
وقيل: أبو الدرداء. ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم الذي ذكرناه. ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع. وقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف. والله أعلم. وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال: له غالب بن فضالة الليثي.
وقيل: المقداد. حكاه السهيلي.
الثانية: قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} أي تأملوا. و{فَتَبَيَّنُوا} قراءة الجماعة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وقالا: من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، يقال: تبينت الامر وتبين الامر بنفسه، فهو متعد ولازم. وقرأ حمزة {فتثبتوا} من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة.
و{فَتَبَيَّنُوا} في هذا أوكد، لأن الإنسان قد يتثبت ولا يتبين.
وفي {إِذا} معنى الشرط، فلذلك دخلت الفاء في قوله: {فَتَبَيَّنُوا}. وقد يجازى بها كما قال:
وإذا تصبك خصاصة فتجمل

والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر:
والنفس راغبة إذا رغبتها ** وإذا ترد إلى قليل تقنع

والتبين التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه، وإنما خص السفر بالذكر لان الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} السلم والسلم، والسلام واحد، قاله البخاري. وقرى بها كلها. واختار أبو عبيد القاسم بن سلام {السلام}. وخالفه أهل النظر فقالوا: {السلم} هاهنا أشبه، لأنه بمعنى الانقياد والتسليم، كما قال عز وجل: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} فالسلم الاستسلام والانقياد. أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم لست مؤمنا.
وقيل: السلام قوله السلام عليكم، وهو راجع إلى الأول، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك. قال الأخفش: يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا. والسلم بشد السين وكسرها وسكون اللام الصلح.
الرابعة: وروي عن أبي جعفر أنه قرأ {لست مؤمنا} بفتح الميم الثانية، من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن.
الخامسة: والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله، فإن قال: لا إله إلا الله لم يجز قتله، لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله: فإن قتله بعد ذلك قتل به. وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح، وأن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه عاصم كيفما قالها، ولذلك قال لأسامة: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا» أخرجه مسلم. أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب؟ وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه.
وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر.
السادسة: فإن قال: سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا، لأنه موضع إشكال. وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول: جئت مستأمنا أطلب الأمان: هذه أمور مشكلة، وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام، لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على قوله، ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكم بها عليه في قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله».
السابعة: فإن صلى أو فعل فعلا من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا، فقال ابن العربي: نرى أنه لا يكون بذلك مسلما، أما أنه يقال له: ما وراء هذه الصلاة؟ فإن قال: صلاة مسلم، قيل له: قل لا إله إلا الله، فإن قالها تبين صدقه، وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب، وكانت عند من يرى إسلامه ردة، والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة. وكذلك هذا الذي قال: سلام عليكم، يكلف الكلمة، فإن قالها تحقق رشاده، وإن أبى تبين عناده وقتل. وهذا معنى قوله: {فَتَبَيَّنُوا} أي الامر المشكل، أو {تثبتوا} ولا تعجلوا المعنيان سواء. فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه. فإن قيل: فتغليظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على محلم، ونبذه من قبره كيف مخرجه؟ قلنا: لأنه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه فقتله متعمدا لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية.
الثامنة: قوله تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا} أي تبتغون أخذ ماله: ويسمى متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء، ومنه: «الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر».
والعرض بسكون الراء ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض عرض، وليس كل عرض عرضا.
وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس». وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه:
تقنع بما يكفيك واستعمل الرضا ** فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي

فليس الغنى عن كثرة المال إنما ** يكون الغنى والفقر من قبل النفس

وهذا يصحح قول أبي عبيدة: فإن المال يشمل كل ما يتمول.
وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا} وجمعه عروض.
وفي المجمل لابن فارس: والعرض من يعترض الإنسان من مرض أو نحوه وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر. والعرض من الأثاث ما كان غير نقد. وأعرض الشيء إذا ظهر وأمكن. والعرض خلاف الطول.
التاسعة: قوله تعالى: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ} عدة من الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور، أي فلا تتهافتوا. {كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين، فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم، فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره.
وقال ابن زيد: المعنى كذلك كنتم كفرة {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره.
العاشرة: استدل بهذه الآية من قال: ان الايمان هو القول، لقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً}. قالوا: ولما منع أن يقال لمن قال لا اله الا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول. ولولا الايمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم. قلنا: انما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه، والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله».
وليس في ذلك أن الايمان هو الإقرار فقط، الا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدم بيانه في البقرة وقد كشف البيان في هذا قوله عليه السلام: «أفلا شققت عن قلبه؟» فثبت أن الايمان هو الإقرار وغيره، وأن حقيقته التصديق بالقلب، ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط. واستدل بهذا أيضا من قال: ان الزنديق تقبل توبته إذا أظهر الإسلام، قال: لان الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام. وقد مضى القول في هذا في أول البقرة. وفيها رد على القدرية، فان الله تعالى أخبر أنه من على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق، والقدرية تقول: خلقهم كلهم للايمان. ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} أعاد الامر بالتبيين للتأكيد. {ان الله كان بما تعملون خبيرا} تحذير عن مخالفة أمر الله، أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم.

.تفسير الآيات (95- 96):

{لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. ثم قال: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} والضرر الزمانة. روى الأئمة واللفظ لابي داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فخذي، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم سري عنه فقال: «أكتب» فكتبت في كتف {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر الآية، فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السكينة فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «اقرأ يا زيد» فقرأت: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الآية كلها. قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف.
وفي البخاري عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر. قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الاعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال- وقد قفل من بعض غزواته: «إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر». فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي، فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق، فيثيب على النية الصادقة مالا يثيب على الفعل.
وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة. والله أعلم.
قلت: والقول الأول أصح- إن شاء الله- للحديث الصحيح في ذلك: «إن بالمدينة رجالا» ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السلام: «إنما الدنيا لأربعة نفر» الحديث وقد تقدم في سورة آل عمران. ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر: «إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي».
الثانية: وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع، لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء، ويصرفون في الشدائد، وتروعهم البعوث والأوامر، كانوا أعظم من المتطوع، لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها. قال ابن محيريز: أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروعون. قال مكحول: روعات البعوث تنفي روعات القيامة.
الثالثة: وتعلق بها أيضا من قال: إن الغنى أفضل من الفقر، لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال. وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، فذهب قوم إلى تفضيل الغني، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة. وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر، لأن الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة. وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين. قال الماوردي: وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن: «خير الأمور أوسطها». ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال:
ألا عائذا بالله من عدم الغنى ** ومن رغبة يوما إلى غير مرغب

الرابعة: قوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قراءة أهل الكوفة وأبو عمرو {غير} بالرفع، قال الأخفش: هو نعت للقاعدين، لأنهم لم يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير، والمعنى لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر، أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر. والمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء، قاله الزجاج. وقرأ أبو حيوة {غير} جعله نعتا للمؤمنين، أي من المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء.
وقرأ أهل الحرمين {غير} بالنصب على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين، أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين. وإن شئت على الحال من القاعدين، أي لا يستوي القاعدون من الأصحاء أي في حال صحتهم، وجازت الحال منهم، لأن لفظهم لفظ المعرفة، وهو كما تقول: جاءني زيد غير مريض. وما ذكرناه من سبب النزول يدل على معنى النصب، والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً} وقد قال بعد هذا: {دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد.
وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما.
وقيل: إن معنى درجة علو، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. فهذا معنى درجة، ودرجات يعني في الجنة. قال ابن محيريز: سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة. و{دَرَجاتٍ} بدل من أجر وتفسير له، ويجوز نصبه أيضا على تقدير الظرف، أي فضلهم بدرجات، ويجوز أن يكون توكيدا لقوله: {أَجْراً عَظِيماً} لان الأجر العظيم هو الدرجات والمغفرة والرحمة، ويجوز الرفع، أي ذلك درجات. و{أَجْراً} نصب ب {فَضَّلَ} وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن، ولا ينتصب ب {فَضَّلَ} لأنه قد استوفى مفعولية وهما قوله: {الْمُجاهِدِينَ} و{عَلَى الْقاعِدِينَ}، وكذا {دَرَجَةً}. فالدرجات منازل بعضها أعلى من بعض.
وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين الدرجتين كما بين السماء والأرض». {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى} {كُلًّا} منصوب ب {وَعَدَ} و{الْحُسْنى} الجنة، أي وعد الله كلا الحسنى. ثم قيل: المراد بكل المجاهدون خاصة.
وقيل: المجاهدون واو لو الضرر. والله أعلم.