فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (51):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}
فيه مسألتان: الأولى: {الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ} مفعولان ل {تَتَّخِذُوا}، وهذا يدل على قطع الموالاة شرعا، وقد مضى في آل عمران بيان ذلك. ثم قيل: المراد به المنافقون، المعنى يا أيها الذين آمنوا بظاهرهم، وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين.
وقيل: نزلت في أبي لبابة، عن عكرمة. قال السدي: نزلت في قصة يوم أحد حين خاف المسلمون حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى.
وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول، فتبرأ عبادة رضي الله عنه من موالاة اليهود، وتمسك بها ابن أبي وقال: إني أخاف أن تدور الدوائر. {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} مبتدأ وخبره، وهو يدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.
الثانية: قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أي يعضدهم على المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} بين تعالى أن حكمه كحكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة، وقد قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] وقال تعالى في آل عمران: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28] وقال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] وقد مضى القول فيه.
وقيل: إن معنى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي في النصرة {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} شرط وجوابه، أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم.

.تفسير الآيات (52- 53):

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)}
قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شك ونفاق، وقد تقدم في البقرة والمراد ابن أبي وأصحابه {يُسارِعُونَ فِيهِمْ} أي في موالاتهم ومعاونتهم. {يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ} أي يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميروننا ولا يفضلوا علينا، وإما أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الامر لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا القول أشبه بالمعنى، كأنه من دارت تدور، أي نخشى أن يدور الامر، ويدل عليه قوله عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ}، وقال الشاعر:
يرد عنك القدر المقدورا ** ودائرات الدهر أن تدورا

يعنى دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم. واختلف في معنى الفتح، فقيل: الفتح الفصل والحكم، عن قتادة وغيره. قال ابن عباس: أتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريظة وسبيت ذراريهم وأجلي بنو النضير.
وقال أبو علي: هو فتح بلاد المشركين على المسلمين.
وقال السدي: يعني بالفتح فتح مكة. {أو أمر من عنده} قال السدي: هو الجزية. الحسن: إظهار أمر المنافقين والاخبار بأسمائهم والامر بقتلهم.
وقيل: الخصب والسعة للمسلمين {فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ} أي فيصبحوا نادمين على توليهم الكفار إذا رأوا نصر الله للمؤمنين، وإذا عاينوا عند الموت فبشروا بالعذاب.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا}. وقرأ أهل المدينة واهل الشام: {يَقُولُ} بغير واو. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: {ويقول} بالواو والنصب عطفا على {أَنْ يَأْتِيَ} عند أكثر النحويين، التقدير: فعسى الله أن يأتي بالفتح وأن يقول.
وقيل: هو عطف على المعنى، لأن معنى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} وعسى ن يأتي الله بالفتح، إذ لا يجوز عسى زيد أن يأتي ويقوم عمرو، لأنه لا يصح المعنى إذا قلت: وعسى زيد أن يقوم عمرو، ولكن لو قلت: عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيدا. فإذا قدرت التقديم في أن يأتي إلى جنب عسى حسن، لأنه يصير التقدير: عسى أن يأتي وعسى أن يقوم، ويكون من باب قوله:
ورأيت زوجك في الوغى ** متقلدا سيفا ورمحا

وفيه قول ثالث- وهو أن تعطفه على الفتح، كما قال الشاعر:
للبس عباءة وتقر عيني

ويجوز أن يجعل {أَنْ يَأْتِيَ} بدلا من اسم الله جل ذكره، فيصير التقدير: عسى أن يأتي الله ويقول الذين آمنوا. وقرأ الكوفيون {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} بالرفع على القطع من الأول. {أَهؤُلاءِ} إشارة إلى المنافقين. {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ} حلفوا واجتهدوا في الايمان. {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي قالوا إنهم، ويجوز {أنهم} نصب بـ {أَقْسَمُوا} أي قال المؤمنون لليهود على جهة التوبيخ: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أنهم يعينونكم على محمد. ويحتمل أن يكون من المؤمنين بعضهم لبعض، أي هؤلاء الذين كانوا يحلفون أنهم مؤمنون فقد هتك الله اليوم سترهم. {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} بطلت بنفاقهم. {فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ} أي خاسرين الثواب.
وقيل: خسروا في موالاة اليهود فلم تحصل لهم ثمرة بعد قتل اليهود وأجلائهم.

.تفسير الآية رقم (54):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} شرط وجوابه {فَسَوْفَ}. وقراءة أهل المدينة والشام {من يرتدد} بدالين. الباقون {مَنْ يَرْتَدَّ}. وهذا من إعجاز القرآن والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبا، فكان على ما أخبر بعد مدة، واهل الردة كانوا بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد، مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثى، وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها، قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي، فقاتل الصديق جميعهم، وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم وسباهم، على ما هو مشهور من أخبارهم.
الثانية: قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} في موضع النعت. قال الحسن وقتادة وغيرهما: نزلت في أبي بكر الصديق وأصحابه.
وقال السدي: نزلت في الأنصار.
وقيل: هي إشارة إلى قوم لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت، وأن أبا بكر قاتل أهل الردة بقوم لم يكونوا وقت نزول الآية، وهم أحياء من اليمن من كندة وبجيلة، ومن أشجع.
وقيل: إنها نزلت في الأشعريين، ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين، وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن، هذا أصح ما قيل في نزولها. والله أعلم.
وروى الحاكم أبو عبد الله في المستدرك بإسناده: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشار إلى أبي موسى الأشعري لما نزلت هذه الآية فقال: «هم قوم هذا» قال القشيري: فاتباع أبي الحسن من قومه، لأن كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الاتباع.
الثالثة: قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} {أَذِلَّةٍ} نعت لقوم، وكذلك {أَعِزَّةٍ} أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم، من قولهم: دابة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذل في شي. ويغلظون على الكافرين ويعادونهم. قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته، قال الله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. ويجوز {أذلة} بالنصب على الحال، أي يحبهم ويحبونه في هذا الحال، وقد تقدمت معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له.
الرابعة: قوله تعالى: {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في موضع الصفة أيضا. {وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} بخلاف المنافقين يخافون الدوائر، فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي لله تعالى.
وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة. والله أعلم. {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} ابتداء وخبر. {وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل، عليم بمصالح خلقه.

.تفسير الآية رقم (55):

{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قال جابر بن عبد الله قال عبد الله بن سلام للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء. {وَالَّذِينَ} عام في جميع المؤمنين. وقد سئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن معنى: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} هل هو علي بن أبي طالب؟ فقال: علي من المؤمنين، يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين. قال النحاس: وهذا قول بين، لأن الَّذِينَ لجماعة.
وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه.
وقال في رواية أخرى: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقاله مجاهد والسدي، وحملهم على ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} وهي: المسألة الثانية: وذلك أن سائلا سأل في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي في الصلاة في الركوع وفي يمينه خاتم، فأشار إلى السائل بيده حتى أخذه. قال إلكيا الطبري: وهذا يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، فإن التصدق بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة ولم تبطل به الصلاة. وقوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة.، فإن عليا تصدق بخاتمه في الركوع، وهو نظير قوله تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] وقد انتظم الفرض والنفل، فصار اسم الزكاة شاملا للفرض والنفل، كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين.
قلت: فالمراد على هذا بالزكاة التصدق بالخاتم، وحمل لفظ الزكاة على التصدق بالخاتم فيه بعد، لأن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة المفروضة على ما تقدم بيانه في أول سورة البقرة. وأيضا فإن قبله {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ومعنى يقيمون الصلاة يأتون بها في أوقاتها بجميع حقوقها، والمراد صلاة الفرض. ثم قال: {وَهُمْ راكِعُونَ} أي النفل.
وقيل: أفرد الركوع بالذكر تشريفا.
وقيل: المؤمنون وقت نزول الآية كانوا بين متمم للصلاة وبين راكع.
وقال ابن خويز منداد قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} تضمنت جواز العمل اليسير في الصلاة، وذلك أن هذا خرج مخرج المدح، وأقل ما في باب المدح أن يكون مباحا، وقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أعطى السائل شيئا وهو في الصلاة، وقد يجوز أن يكون هذه صلاة تطوع، وذلك أنه مكروه في الفرض. ويحتمل أن يكون المدح متوجها على اجتماع حالتين، كأنه وصف من يعتقد وجوب الصلاة والزكاة، فعبر عن الصلاة بالركوع، وعن الاعتقاد للوجوب بالفعل، كما تقول: المسلمون هم المصلون، ولا تريد أنهم في تلك الحال مصلون ولا يوجه المدح حال الصلاة، فإنما يريد من يفعل هذا الفعل ويعتقده.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)}
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله.
وقيل: أي ومن يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين. {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ} قال الحسن: حزب الله جند الله.
وقال غيره: أنصار الله قال الشاعر:
وكيف أضوى وبلال حزبي

أي ناصري. والمؤمنون حزب الله، فلا جرم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والاجلاء وضرب الجزية. والحزب الصنف من الناس. وأصله من النائبة من قولهم: حزبه كذا أي نابه، فكأن المحتزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة عليها. وحزب الرجل أصحابه. والحزب الورد، ومنه الحديث: «فمن فاته حزبه من الليل». وقد حزبت القرآن. والحزب الطائفة. وتحزبوا اجتمعوا. والأحزاب: الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء. وحزبه أمر أي أصابه.

.تفسير الآية رقم (57):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}
فيه مسألتان: الأولى: روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} إلى آخر الآيات. وتقدم معنى الهزؤ في البقرة. {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ} قرأه أبو عمرو والكسائي بالخفض بمعنى ومن الكفار. قال الكسائي: وفي حرف أبي رحمه الله {ومن الكفار}، و{من} هاهنا لبيان الجنس، والنصب أوضح وأبين. قاله النحاس.
وقيل: هو معطوف على أقرب العاملين منه وهو قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} فنهاهم الله أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزوا ولعبا. ومن نصب عطف على {الَّذِينَ} الأول في قوله: {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ} أي لا تتخذوا هؤلاء وهؤلاء أولياء، فالموصوف بالهزو واللعب في هذه القراءة اليهود لا غير. والمنهي عن اتخاذهم أولياء اليهود والمشركون، وكلاهما في القراءة بالخفض موصوف بالهزو واللعب. قال مكي: ولولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض، لقوته في الاعراب وفي المعنى والتفسير والقرب من المعطوف عليه.
وقيل: المعنى لا تتخذوا المشركين والمنافقين أولياء، بدليل قولهم: {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} [البقرة: 14] والمشركون كلهم كفار، لكن يطلق في الغالب لفظ الكفار على المشركين، فلهذا فصل ذكر أهل الكتاب من الكافرين.
الثانية: قال ابن خويز منداد: هذه الآية مثل قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، و{لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك.
وروى جابر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد الخروج إلى أحد جاءه قوم من اليهود فقالوا: نسير معك، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين» وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي. وأبو حنيفة جوز الانتصار بهم على المشركين للمسلمين، وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوه مع ما جاء من السنة ذلك. والله أعلم.