فصل: تفسير الآية رقم (117):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (117):

{ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}
قوله تعالى: {ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ} يعني في الدنيا بالتوحيد. {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} {أَنِ} لا موضع لها من الاعراب وهي مفسرة مثل: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6]. ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلا عبادة الله. ويجوز أن تكون في موضع خفض أي بأن اعبدوا الله وضم النون أولى لأنهم يستثقلون كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين قوله تعالى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي حفيظا بما أمرتهم. {ما دُمْتُ فِيهِمْ} {ما} في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} قيل: هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه أن يرفعه وليس بشيء لان الاخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل الدجال على ما يأتي بيانه وإنما المعنى فلما رفعتني إلى السماء. قال الحسن: الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه: وفاة الموت وذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} [الزمر: 42] يعني وقت انقضاء أجلها. ووفاة النوم قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] يعني الذي ينيمكم. ووفاة الرفع قال الله تعالى: {يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55]. وقوله: {كُنْتَ أَنْتَ} أَنْتَ هنا توكيد {الرَّقِيبَ} خبر {كُنْتُ} ومعناه الحافظ عليهم والعالم بهم والشاهد على أفعالهم، وأصله المراقبة أي المراعاة ومنه المرقبة لأنها في موضع الرقيب من علو المكان. {وأنت على كل شيء شهيد} أي من مقالتي ومقالتهم وقيل: على من عصى وأطاع، خرج مسلم عن ابن عباس قال قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيبا بموعظة فقال: «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}» قال: «فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم».

.تفسير الآية رقم (118):

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}
قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} شرط وجوابه {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مثله. روى النسائي عن أبي ذر قال: قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآية ليلة حتى أصبح، والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
واختلف في تأويله فقيل: قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف السيد لعبده ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك.
وقيل: قاله على وجه التسليم لأمره والاستجارة من عذابه وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر. وقيل الهاء والميم في: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ}. لمن مات منهم على الكفر والهاء والميم في: {إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} لمن تاب منهم قبل الموت وهذا حسن. وأما قول من قال إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل لان الاخبار من الله عز وجل لا تنسخ.
وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي. وقال: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء. وقد قرأ جماعة: {فإنك أنت الغفور الرحيم} وليست من المصحف. ذكره القاضي عياض في كتاب الشفا وقال أبو بكر الأنباري: وقد طعن على القرآن من قال إن قوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ليس بمشاكل لقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} لان الذي يشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم- والجواب- أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو على ما أنزله الله عز وجل واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه فإنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض. خرج مسلم من غير طريق عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قوله عز وجل في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي» وبكى فقال الله عز وجل: «يا جبريل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال- وهو أعلم- فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير ومعناه إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ووجه الكلام على نسقه أولى لما بيناه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (119):

{قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)}
قوله تعالى: {قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} أي صدقهم في الدنيا فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله، وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه.
وقيل: المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم والله أعلم. وقرأ نافع وابن محيصن {يوم} بالنصب. ورفع الباقون وهي القراءة البينة على الابتداء والخبر ف {يَوْمُ يَنْفَعُ} خبر ل {هذا} والجملة في موضع نصب بالقول. وأما قراءة نافع وابن محيصن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز لأنه نصب خبر الابتداء ولا يجوز فيه البناء.
وقال إبراهيم بن السري: هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى بن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم فيوم ظرف للقول و{هذا} مفعول القول والتقدير قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين.
وقيل: التقدير قال الله عز وجل هذه الأشياء تنفع يوم القيامة.
وقال الكسائي والفراء: بني يوم هاهنا على النصب لأنه مضاف إلى غير اسم، كما تقول: مضى يومئذ وأنشد الكسائي:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألما أَصْحُ والشيب وازع

الزجاج: ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع فإن كان إلى ماض كان جيدا كما مر في البيت وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان لان الفعل بمعنى المصدر.
وقيل: يجوز أن يكون منصوبا ظرفا ويكون خبر الابتداء الذي هو {هذا} لأنه مشار به إلى حدث، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الأحداث تقول: القتال اليوم والخروج الساعة، والجملة في موضع نصب بالقول.
وقيل: يجوز أن يكون {هذا} في موضع رفع بالابتداء و{يَوْمُ} خبر الابتداء والعامل فيه محذوف والتقدير: قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم. وفيه قراءة ثالثة {يوم ينفع} بالتنوين {الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} في الكلام حذف تقديره فيه مثل قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] وهي قراءة الأعمش.
قوله تعالى: {لَهُمْ جَنَّاتٌ} ابتداء وخبر. {تَجْرِي} في موضع الصفة. {مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت غرفها وأشجارها وقد تقدم. ثم بين تعالى ثوابهم وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا {وَرَضُوا عَنْهُ} أي عن الجزاء الذي أثابهم به. {ذلِكَ الْفَوْزُ} أي الظفر {الْعَظِيمُ} أي الذي عظم خيره وكثر، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف.

.تفسير الآية رقم (120):

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}
قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} الآية جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السموات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين. ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السموات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. تمت سورة المائدة بحمد الله تعالى.

.سورة الأنعام:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنعام وهي مكية في قول الأكثرين قال ابن عباس وقتادة: هي مكية كلها إلا آيتين منها نزلنا بالمدينة، قوله تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين والأخرى قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} [الأنعام: 141] نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري. وقال ابن جريج: نزلت في معاذ بن جبل وقاله الماوردي. وقال الثعلبي سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى آخر ثلاث آيات و{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية: وهي الآيات المحكمات وذكر ابن العربي: أن قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ} نزل بمكة يوم عرفة وسيأتي القول في جميع ذلك إن شاء الله. وفي الخبر أنها نزلت جملة واحدة غير الست الآيات وشيعها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثنا عشر ألف ملك وهي {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] نزلوا بها ليلا لهم زجل بالتسبيح والتحميد فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكتاب فكتبوها من ليلتهم. وأسند أبو جعفر النحاس قال: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة قال حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري حدثنا ابن أبي فديك حدثني عمر بن طلحة ابن علقمة بن وقاص عن نافع أبي سهل بن مالك عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح» والأرض لهم ترتج ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «سبحان ربي العظيم» ثلاث مرات. وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الأنعام من نجائب القرآن. وفية عن كعب قال: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة.

.تفسير الآية رقم (1):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)}
فيه خمس مسائل.
الأولى: قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بدأ سبحانه فاتحتها بالحمد على نفسه وإثبات الألوهية أي أن الحمد كله له فلا شريك له فإن قيل: فقد افتتح غيرها بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره فيقال: لان لكل واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون وقد تقدم معنى الحمد في الفاتحة.
الثانية: قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} أخبر عن قدرته وعلمه وإرادته فقال: الذي خلق أي اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع. والخلق يكون بمعنى الاختراع ويكون بمعنى التقدير، وقد تقدم وكلاهما مراد هنا وذلك دليل على حدوثهما فرفع السماء بغير عمد وجعلها مستوية من غير أود وجعل فيها الشمس والقمر آيتين وزينها بالنجوم وأودعها السحاب والغيوم علامتين وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات وبث فيها من كل دابة آيات وجعل فيها الجبال أوتادا وسبلا فجاجا وأجرى فيها الأنهار والبحار وفجر فيها العيون من الأحجار دلالات على وحدانيته، وعظيم قدرته وأنه هو الله الواحد القهار وبين بخلقه السماوات والأرض أنه خالق كل شي.
الثالثة: خرج مسلم قال: حدثني سريج بن يونس وهرون بن عبد الله قالا حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي فقال: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل».
قلت: أدخل العلماء هذا الحديث تفسيرا لفاتحة هذه السورة، قال البيهقي: وزعم أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفة ما عليه أهل التفسير واهل التواريخ. وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد وإبراهيم غير محتج به. وذكر محمد بن يحيى قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبى هريرة: «خلق الله التربة يوم السبت». فقال علي: هذا حديث مدني رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي قال علي: وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى فقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد وقال لي شبك بيدي عبد الله بن رافع وقال لي: شبك بيدي أبو هريرة وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «خلق الله الأرض يوم السبت» فذكر الحديث بنحوه. قال علي بن المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا الامر إلا من إبراهيم بن أبي يحيى قال البيهقي: وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف. وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد- وإسناده ضعيف- عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه» قال فقال عبد الله بن سلام: إن الله عز وجل ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق السموات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر وما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس خلق آدم خرجه البيهقي. قلت: وفية أن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد لا يوم السبت وكذلك تقدم في البقرة عن ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتقدم فيها الاختلاف أيما خلق أولا الأرض أو السماء مستوفى. والحمد لله.
الرابعة: قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} ذكر بعد خلق الجواهر خلق الاعراض لكون الجوهر لا يستغنى عنه وما لا يستغني عن الحوادث فهو حادث. والجوهر في اصطلاح المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ الحامل للعرض وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في اسمه {الواحد}. وسمي العرض عرضا لأنه يعرض في الجسم والجوهر فيتغير به من حال إلى حال والجسم هو المجتمع وأقل ما يقع عليه اسم الجسم جوهران مجتمعان وهذه الاصطلاحات وإن لم تكن موجودة في الصدر الأول فقد دل عليها معنى الكتاب والسنة فلا معنى لإنكارها. وقد استعملها العلماء واصطلحوا عليها وبنوا عليها كلامهم وقتلوا بها خصومهم كما تقدم في البقرة. واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال السدي وقتادة وجمهور المفسرين: المراد سواد الليل وضياء النهار.
وقال الحسن: الكفر والايمان قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر. قلت: اللفظ يعمه وفي التنزيل: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ} [الأنعام: 122]. والأرض هنا اسم للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها وكذلك {وَالنُّورَ} ومثله {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] وقال الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا وقد تقدم. وجعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قاله ابن عطية. قلت: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجمع والمفرد معطوفا على المفرد فيتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة والله أعلم وقيل: جمع {الظُّلُماتِ} ووحد {النُّورَ} لان الظلمات لا تتعدى والنور يتعدى. وحكى الثعلبي أن بعض أهل المعاني قال: {جَعَلَ} هنا زائدة والعرب تزيد جعل في الكلام كقول الشاعر:
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة ** والواحد اثنين لما هدني الكبر

قال النحاس: جعل بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد، وقد تقدم هذا المعنى ومحامل جعل في البقرة مستوفى.
الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ابتداء وخبر والمعنى: ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلا وشريكا وهو الذي خلق هذه الأشياء وحده. قال ابن عطية: ف {ثُمَّ} دالة على قبح فعل الكافرين لان المعنى: أن خلقه السموات والأرض قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ولو وقع العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم والله أعلم.