فصل: تفسير الآية رقم (53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (53):

{وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي كما فتنا من قبلك كذلك فتنا هؤلاء. والفتنة الاختبار، أي عاملناهم معاملة المختبرين. {لِيَقُولُوا} نصب بلام كي، يعني الاشراف والأغنياء. {أَهؤُلاءِ} يعني الضعفاء والفقراء. {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} قال النحاس: وهذا من المشكل، لأنه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذه الآية؟ لأنه إن كان إنكارا فهو كفر منهم.
وفي هذا جوابان: أحدهما: أن المعنى اختبر الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم واحدة عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار: {أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} والجواب الآخر: أنهم لما اختبروا بهذا فآل عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار، وصار مثل قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8]. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} فيمن عليهم بالايمان دون الرؤساء الذين علم الله منهم الكفر، وهذا استفهام تقرير، وهو جواب لقولهم: {أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} وقل: المعنى أليس الله بأعلم من يشكر الإسلام إذا هديته إليه.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}
قوله تعالى: {وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} السلام والسلامة بمعنى واحد. ومعنى {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} سلمكم الله في دينكم وأنفسكم، نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم، فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» فعلى هذا كان السلام من جهة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: إنه كان من جهة الله تعالى، أي أبلغهم منا السلام، وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى.
وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال: «يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك» فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي، فهذا دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في معنى الآية. ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم، فإن في ذلك غضب الله، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه.
وقال ابن عباس: نزلت الآية في أبى بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
وقال الفضيل بن عياض: جاء قوم من المسلمين إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم، فنزلت الآية. وروي عن أنس بن مالك مثله سواء. قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه.
وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ} أي خطيئة من غير قصد، قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الامر، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل، وقد مضى هذا المعنى في النساء وقيل: من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهل. {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قرأ بفتح {أن} من {فَأَنَّهُ} ابن عامر وعاصم، وكذلك {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ} ووافقهما نافع في {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ}. وقرأ الباقون بالكسر فيهما، فمن كسر فعلى الاستئناف، والجملة مفسرة للرحمة، و{إن} إذا دخلت على الجمل كسرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكسرت لذلك. ومن فتحهما فالأولى في موضع نصب على البدل من الرحمة، بدل الشيء من الشيء وهو هو فأعمل فيها {كَتَبَ} كأنه قال: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل، وأما {فَأَنَّهُ غَفُورٌ} بالفتح ففيه وجهان، أحدهما: أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: فله أنه غفور رحيم، لان ما بعد الفاء مبتدأ، أي فله غفران الله. الوجه الثاني: أن يضمر مبتدأ تكون {أن} وما عملت فيه خبره، تقديره: فأمره غفران الله له، وهذا اختيار سيبويه، ولم يجز الأول، وأجازه أبو حاتم.
وقيل: إن {كَتَبَ} عمل فيها، أي كتب ربكم أنه غفور رحيم. وروي عن علي بن صالح وابن هرمز كسر الأولى على الاستئناف، وفتح الثانية على أن تكون مبتدأة أو خبر مبتدأ أو معمولة لكتب على ما تقدم. ومن فتح الأولى: وهو نافع- جعلها بدلا من الرحمة، واستأنف الثانية لأنها بعد الفاء، وهي قراءة بينة.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} التفصيل التبيين الذي تظهر به المعاني، والمعنى: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نفصل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل.
وقال القتبي: {نُفَصِّلُ الْآياتِ} نأتي بها شيئا بعد شي، ولا ننزلها جملة متصلة. {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} يقال: هذه اللام تتعلق بالفعل فأين الفعل الذي تتعلق به؟ فقال الكوفيون: هو مقدر، أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين، قال النحاس: وهذا الحذف كله لا يحتاج إليه، والتقدير: وكذلك نفصل الآيات فصلناها.
وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى، أي ليظهر الحق وليستبين، قرئ بالياء والتاء. {سَبِيلُ} برفع اللام ونصبها، وقراءة التاء خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين. فإن قيل: فقد كان النبي عليه السلام يستبينها؟ فالجواب عند الزجاج- أن الخطاب للنبي عليه السلام خطاب لامته، فالمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين. فإن قيل: فلم لم يذكر سبيل المؤمنين؟ ففي هذا جوابان، أحدهما- أن يكون مثل قوله: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] فالمعنى، وتقيكم البرد ثم حذف، وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف. والجواب الآخر- أن يقال: استبان الشيء واستبنته، وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين. والسبيل يذكر ويؤنث، فتميم تذكره، واهل الحجاز تؤنثه، وفي التنزيل {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} [الأعراف: 146] مذكر {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 99] مؤنث، وكذلك قرئ {وَلِتَسْتَبِينَ} بالياء والتاء، فالتاء خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته.

.تفسير الآية رقم (56):

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)}
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قيل: {تَدْعُونَ} بمعنى تعبدون.
وقيل: تدعونهم في مهمات أموركم على جهة العبادة، أراد بذلك الأصنام. {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ} فيما طلبتموه من عبادة هذه الأشياء، ومن طرد من أردتم طرده. {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} أي قد ضللت إن اتبعت أهواءكم. {وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي على طريق رشد وهدى.
وقرى {ضَلَلْتُ} بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمرو بن العلاء: ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف، والأولى هي الأصح والأفصح، لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور.
وقال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضللت أضل، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي} [سبأ: 50] فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، واهل العالية يقولون: ضللت بالكسر أضل.

.تفسير الآية رقم (57):

{قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)}
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي دلالة ويقين وحجة وبرهان، لا على هوى، ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره. {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أي بالبينة لأنها في معنى البيان، كما قال: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] على ما بيناه هناك. وقيل يعود على الرب، أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره.
وقيل: بالعذاب.
وقيل: بالقرآن.
وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبد الله بن الزبير لنفسه، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه:
أأقعد بعد ما رجفت عظامي ** وكان الموت أقرب ما يليني

أجادل كل معترض خصيم ** وأجعل دينه غرضا لديني

فأترك ما علمت لرأي غيري ** وليس الرأي كالعلم اليقين

وما أنا والخصومة وهي شيء ** يصرف في الشمال وفي اليمين

وقد سنت لنا سنن قوام ** يلحن بكل فج أو وجئن

وكان الحق ليس به خفاء ** أغر كغرة الفلق المبين

وما عوض لنا منهاج جهم ** بمنهاج ابن آمنة الأمين

فأما ما علمت فقد كفاني ** وأما ما جهلت فجنبوني

قوله تعالى: {ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً} [الاسراء: 92] {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} [الأنفال: 32].
وقيل: ما عندي من الآيات التي تقترحونها. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أي ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله.
وقيل: الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله. {يَقُصُّ الْحَقَّ} أي يقص القصص الحق، وبه استدل من منع المجاز في القرآن، وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس، قال ابن عباس: قال الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]. والباقون {يقض الحق} بالضاد المعجمة، وكذلك قرأ علي- رضي الله عنه- وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء، ولا ينبغي الوقف عليه، وهو من القضاء، ودل على ذلك أن بعده {وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ} والفصل لا يكون إلا قضاء دون قصص، ويقوي ذلك قوله قبله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود {إن الحكم إلا لله يقضي بالحق} فدخول الباء يؤكد معنى القضاء. قال النحاس: هذا لا يلزم، لان معنى {يقضي} يأتي ويصنع فالمعنى: يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى: يقضي القضاء الحق. قال مكي: وقراءة الصاد أحب إلي، لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود. قال النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم، لان مثل هذه الباء تحذف كثيرا.

.تفسير الآية رقم (58):

{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي من العذاب لأنزلته بكم حتى ينقضي الامر إلى آخره. والاستعجال: تعجيل طلب الشيء قبل وقته. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم.

.تفسير الآية رقم (59):

{وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: جاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف ملك.
وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله».
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ومفاتح جمع مفتح، هذه اللغة الفصيحة. ويقال: مفتاح ويجمع مفاتيح. وهي قراءة ابن السميقع {مفاتيح}. والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا، محسوسا كان كالقفل على البيت أو معقول كالنظر.
وروى ابن ماجه في سننه وأبو حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه». وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان، ولذلك قال بعضهم: هو مأخوذ من قول الناس أفتح علي كذا، أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به. فالله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه. ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله، بدليل قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} وقال: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ}. الآية وقيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق، عن السدي والحسن. مقاتل والضحاك: خزائن الأرض. وهذا مجاز، عبر عنها بما يتوصل إليها به.
وقيل: غير هذا مما يتضمنه معنى الحديث أي عنده الآجال ووقت انقضائها.
وقيل: عواقب الأعمار وخواتم الأعمال، إلى غير هذا من الأقوال. والأول المختار. والله أعلم.
الثانية: قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده. فمن قال: إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم وقال: إن النوء ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته، لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء، قال الله تعالى: «أصبح من من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب» على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله. قال ابن العربي: وكذلك قول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق. وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر. أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل ان تكون فلا ريبة في كفره أيضا. فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا: يؤدب ولا يسجن. أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله عنه من قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ}. وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدركون الفرق بين هذا وغيره، فيشوشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يسروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به. قلت: ومن هذا الباب أيضا ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن النبي صلى عليه وسلم قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة». والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعي علم الغيب. وهي من العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا الفن هو العيافة بالياء. وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة، قاله القاضي عياض. والكهانة: ادعاء علم الغيب. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الكافي: من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشاء واخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله. قال علماؤنا: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين، والكهان لا سيما بالديار المصرية، فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال. وكل ذلك من الكبائر، لقول عليه السلام: «لم تقبل لصلاة أربعين ليلة». فكيف بمن اتخذهم وأنفق عليهم معتمدا على أقوالهم. روى مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسم أناس عن الكهان فقال: «إنهم ليسوا بشيء» فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة». قال الحميدي: ليس ليحيى بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح غير هذا وأخرجه البخاري أيضا من حديث أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة أنها سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوجيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم». وسيأتي هذا المعنى في سبأ إن شاء الله تعالى.
الثالثة: قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر، أي يعلم ما يهلك في البر والبحر. ويقال: يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى، وما في البحر من الدواب ورزق ما فيها {وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها} روى يزيد بن هارون عن نافع عن محمد بن إسحاق عن نافع ابن عمر عن النبي صلى عليه وسلم قال: «ما من زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم رزق فلان بن فلان» وذلك قوله في محكم كتابه: {وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ}. وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها السقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب يراد به الحي، واليابس يراد به الميت. قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه.
وقيل: المعنى {وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} أي من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء، ولا حبة إلا يعلم متى تنبت وكم تنبت ومن يأكلها، و{ظُلُماتِ الْأَرْضِ} بطونها وهذا أصح، فإنه موافق للحديث وهو مقتضى الآية. والله الموفق للهداية.
وقيل: {فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ} يعني الصخرة التي هي أسفل الأرضين السابعة. {وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ} بالخفض عطفا على اللفظ. وقرأ ابن السميقع والحسن وغيرهما بالرفع فيهما عطفا على موضع {مِنْ وَرَقَةٍ}، ف {من} على هذا للتوكيد. {إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} أي في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه تعالى عن ذلك.
وقيل: كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب.