فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (31):

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}... {عَلَّمَ} معناه عرف. وتعليمه هنا إلهام علمه ضرورة. ويحتمل أن يكون بواسطة ملك وهو جبريل عليه السلام على ما يأتي. وقرى: {وعلم} غير مسمى الفاعل. والأول أظهر، على ما يأتي. قال علماء الصوفية: علمها بتعليم الحق إياه وحفظها بحفظه عليه ونسي ما عهد إليه، لأن وكله فيه إلى نفسه فقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115].
وقال ابن عطاء: لو لم يكشف لآدم علم تلك الأسماء لكان أعجز من الملائكة في الاخبار عنها. وهذا واضح. وآدم عليه السلام يكنى أبا البشر.
وقيل: أبا محمد، كنى بمحمد خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم، قاله السهيلي.
وقيل: كنيته في الجنة أبو محمد، وفي الأرض أبو البشر. وأصله بهمزتين، لأنه أفعل إلا أنهم لينوا الثانية، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها واوا فقلت: أوادم في الجمع لأنه ليس لها أصل في الياء معروف، فجعلت الغالب عليها الواو، عن الأخفش. واختلف في اشتقاقه، فقيل: هو مشتق من أدمة الأرض وأديمها وهو وجهها، فسمى بما خلق منه، قال ابن عباس.
وقيل: إنه مشتق من الأدمة وهي السمرة. واختلفوا في الأدمة، فزعم الضحاك أنها السمرة، وزعم النضر أنها البياض، وأن آدم عليه السلام كان أبيض، مأخوذ من قولهم: ناقة أدماء، إذا كانت بيضاء. وعلى هذا الاشتقاق جمعه أدم وأوادم، كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه. وعلى أنه مشتق من الأدمة جمعه آدمون، ويلزم قائلو هذه المقالة صرفه.
قلت: الصحيح أنه مشتق من أديم الأرض. قال سعيد بن جبير: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وإنما سمي إنسانا لأنه نسي، ذكره ابن سعد في الطبقات.
وروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود في قصة خلق آدم عليه السلام قال: فبعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني، فرجع ولم يأخذ وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث مكاييل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخلط، ولم يأخذ من مكان واحد، واخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين- ولذلك سمي آدم لأنه أخذ من أديم الأرض- فصعد به، فقال الله تعالى له: «أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك» فقال: رأيت أمرك أوجب من قولها. فقال: «أنت تصلح لقبض أرواح ولده» قبل التراب حتى عاد طينا لازبا، اللازب: هو الذي يلتصق بعضه ببعض، ثم ترك حتى أنتن، فذلك حيث يقول: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] قال: منتن. ثم قال للملائكة: {إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} [ص: 71- 72]. فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه. يقول: أتتكبر عما خلقت بيدي ولم أتكبر أنا عنه! فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصلة، فذلك حين يقول: {مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]. ويقول لأمر ما خلقت!. ودخل من فمه وخرج من دبره، فقال إبليس للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإنه أجوف ولين سلطت عليه لاهلكنه. ويقال: إنه كان إذا مر عليه مع الملائكة يقول: أرأيتم هذا الذي لم تروا من الخلائق يشبهه إن فضل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون! قالوا: نطيع أمر ربنا فأسر إبليس في نفسه لئن فضل علي فلا أطيعه، ولين فضلت عليه لاهلكنه، فلما بلغ الحين الذي أريد أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله له: رحمك ربك، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 30- 31] وذكر القصة.
وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. أديم: جمع أدم، قال الشاعر:
الناس أخياف وشتى في الشيم ** وكلهم يجمعهم وجه الأدم

فآدم مشتق من الأديم والأدم لا من الأدمة، والله أعلم. ويحتمل أن يكون منهما جميعا. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في خلق آدم في الأنعام وغيرها إن شاء الله تعالى. وآدم لا ينصرف. قال أبو جعفر النحاس: آدم لا ينصرف في المعرفة بإجماع النحويين، لأنه على أفعل وهو معرفة، ولا يمتنع شيء من الصرف عند البصريين إلا لعلتين. فإن نكرته ولم يكن نعتا لم يصرفه الخليل وسيبويه، وصرفه الأخفش سعيد، لأنه كان نعتا وهو على وزن الفعل، فإذا لم يكن نعتا صرفه. قال أبو إسحاق الزجاج: القول قول سيبويه، ولا يفرق بين النعت وغيره لأنه هو ذاك بعينه.
الثانية: قوله تعالى: {الْأَسْماءَ كُلَّها} , {الأسماء} هنا بمعنى العبارات، فإن الاسم قد يطلق ويراد به المسمى، كقولك: زيد قائم، والأسد شجاع. وقد يراد به التسمية ذاتها، كقولك: أسد ثلاثة أحرف، ففي الأول يقال: الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى، وفي الثاني لا يراد به المسمى، وقد يجرى اسم في اللغة مجرى ذات العبارة وهو الأكثر من استعمالها، ومنه قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها} [البقرة: 31] على أشهر التأويلات، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لله تسعة وتسعين اسما». ويجري مجرى الذات، يقال: ذات ونفس وعين واسم بمعنى، وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78] {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها} [النجم: 23].
الثالثة: واختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علمها لآدم عليه السلام، فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير: علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها.
وروى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحسن بن علي قال: كنت جالسا عند ابن عباس فذكروا اسم الآنية واسم السوط، قال ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}.
قلت: وقد روي هذا المعنى مرفوعا على ما يأتي، وهو الذي يقتضيه لفظ {كُلَّها} إذ هو اسم موضوع للإحاطة والعموم، وفي البخاري من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ويجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شي» الحديث. قال ابن خويز منداد: في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفا، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلا. وكذلك قال ابن عباس: علمه أسماء كل شيء حتى الجفنة والمحلب.
وروى شيبان عن قتادة قال: علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة، وسمي كل شيء باسمه وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه. قال النحاس: وهذا أحسن ما روي في هذا. والمعنى علمه أسماء الأجناس وعرفه منافعها، هذا كذا، وهو يصلح لكذا.
وقال الطبري: علمه أسماء الملائكة وذريته، واختار هذا ورجحه بقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ}.
وقال ابن زيد: علمه أسماء ذريته، كلهم. الربيع بن خثيم: أسماء الملائكة خاصة. القتبي: أسماء ما خلق في الأرض.
وقيل: أسماء الأجناس والأنواع.
قلت: القول الأول أصح، لما ذكرناه آنفا ولما نبينه إن شاء الله تعالى.
الرابعة: واختلف المتأولون أيضا هل عرض على الملائكة أسماء الاشخاص أو الأسماء دون الاشخاص، فقال ابن مسعود وغيره: عرض الاشخاص لقوله تعالى: {عَرَضَهُمْ} وقوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ}. وتقول العرب: عرضت الشيء فأعرض، أي أظهرته فظهر. ومنه: عرضت الشيء للبيع.
وفي الحديث: «إنه عرضهم أمثال الذر».
وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء.
وفي حرف ابن مسعود: {عرضهن}، فأعاد على الأسماء دون الاشخاص، لأن الهاء والنون أخص بالمؤنث.
وفي حرف أبي: {عرضها}. مجاهد: أصحاب الأسماء. فمن قال في الأسماء إنها التسميات فاستقام على قراءة أبي: {عرضها}. وتقول في قراءة من قرأ {عَرَضَهُمْ}: إن لفظ الأسماء يدل على أشخاص، فلذلك ساغ أن يقال للأسماء: {عَرَضَهُمْ}.
وقال في: {هؤُلاءِ} المراد بالإشارة: إلى أشخاص الأسماء، لكن وإن كانت غائبة فقد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها. قال ابن عطية: والذي يظهر أن الله تعالى عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ وعرضهن عليه مع تلك الأجناس بأشخاصها، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها، ثم إن آدم قال لهم: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا.
وقال الماوردي: وكان الأصح توجه العرض إلى المسمين. ثم في زمن عرضهم قولان: أحدهما أنه عرضهم بعد أن خلقهم , والثاني- أنه صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم.
الخامسة: واختلف في أول من تكلم باللسان العربي، فروي عن كعب الأحبار: أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها وتكلم بالالسنة كلها آدم عليه السلام. وقاله غير كعب الأحبار. فإن قيل: قد روي عن كعب الأحبار من وجه حسن قال: أول من تكلم بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام وألقاها نوح على لسان ابنه سام، ورواه ثور بن زيد عن خالد بن معدان عن كعب.
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين». وقد روى أيضا: أن أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، وقد روي غير ذلك. قلنا: الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام، والقرآن يشهد له قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها} [البقرة: 31] واللغات كلها أسماء فهي داخلة تحته وبهذا جاءت السنة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها حتى القصعة والقصيعة» وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل عليه السلام. وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا والله أعلم. وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل، على ما تقدم، والله أعلم.
قوله تعالى: {هؤُلاءِ} لفظ مبني على الكسر. ولغة تميم وبعض قيس وأسد فيه القصر، قال الأعشى:
هؤلا ثم هؤلا كلا أعطي ** ت نعالا محذوّة بمثال

ومن العرب من يقول: هؤلاء، فيحذف الألف والهمزة.
السادسة: قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} شرط، والجواب محذوف تقديره: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فانبئوني، قاله المبرد. ومعنى: {صادِقِينَ} عالمين، ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا: {سُبْحانَكَ}! حكاه النقاش قال: ولو لم يشترط عليهم إلا الصدق في الانباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له: {كَمْ لَبِثْتَ} فلم يشترط عليه الإصابة، فقال ولم يصب ولم يعنف، وهذا بين لا خفاء فيه.
وحكى الطبري وأبو عبيد: أن بعض المفسرين قال إن معنى: {إِنْ كُنْتُمْ}: إذ كنتم، وقالا: هذا خطأ. و{أَنْبِئُونِي} معناه أخبروني. والنبأ: الخبر، ومنه النبي بالهمز، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
السابعة: قال بعض العلماء: يخرج من هذا الامر بالإنباء تكليف ما لا يطاق لأنه علم أنهم لا يعلمون.
وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف. وسيأتي القول في تكليف ما لا يطاق- هل وقع التكليف به أم لا- في آخر السورة إن شاء الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (32):

{قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قوله تعالى: {قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {سُبْحانَكَ} أي تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك. وهذا جوابهم عن قوله: {أَنْبِئُونِي} فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا. و{ما} في: {ما عَلَّمْتَنا} بمعنى الذي، أي إلا الذي علمتنا، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا.
الثانية: الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم ولا أدري، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون. وأما ما ورد من الاخبار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروى البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي البقاع شر؟ قال: «لا أدرى حتى أسأل جبريل» فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: «خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق».
وقال الصديق للجدة: ارجعي حتى أسأل الناس. وكان علي يقول: وأبردها على الكبد، ثلاث مرات. قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم. وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل. قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به! ذكره الدارمي في مسنده.
وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية قال: كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن يسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج، أو علم ولا مخرج؟ فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى: ابن أبي بكر وعمر. قال يقول له القاسم: أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. فسكت فما أجابه.
وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري. وذكر الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
قلت: ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الانصاف في العلم. قال ابن عبد البر: من بركة العلم وآدابه الانصاف فيه، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم. روى يونس بن عبد الأعلى قال سمعت ابن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الانصاف.
قلت: هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عم فينا الفساد وكثر فيه الطغام! وطلب فيه العلم للرئاسة لا للدراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الاقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى. أين هذا مما روي عن عمر رضي الله عنه وقد قال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة- يعني يزيد بن الحصين الحارثي- فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال، فقامت امرأة من صوب النساء طويلة فيها فطس فقالت: ما ذلك لك! قال: ولم؟ قالت لان الله عز وجل يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ! وروى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي: أصبت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم.
وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال: لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد، فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي التمار فقال: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت إنما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا! أو نحو هذا. ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ- لشيخ كان في المسجد- فإن له بمثل هذا علما، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار، كما قلت. وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة، جيوبهم أمامهم. والنمار جمع نمرة. فقال بكر بن حماد واخذ بأنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وانصرف.
وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأحسن:
إذا ما تحدثت في مجلس ** تناهى حديثي إلى ما علمت

ولم أعد علمي إلى غيره ** وكان إذا ما تناهى سكت

الثانية: قوله تعالى: {سُبْحانَكَ} سبحان منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا.
وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف. و{الْعَلِيمُ} فعيل للمبالغة والتكثير في المعلومات في خلق الله تعالى. و{الْحَكِيمُ} معناه الحاكم، وبينهما مزيد المبالغة. وقيل معناه المحكم يجئ والحكيم على هذا من صفات الفعل، صرف عن مفعل إلى فعيل، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم، قاله ابن الأنباري.
وقال قوم: {الْحَكِيمُ} المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد. قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ** إني أخاف عليكم أن أغضبا

أي امنعوهم من الفساد.
وقال زهير:
القائد الخيل منكوبا دوابرها ** قد أحكمت حكمات القد والأبقا

القد: الجلد. والأبق: القنب. والعرب تقول: أحكم اليتيم عن كذا وكذا، يريدون منعه. والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها، والحكمة من هذا، لأنها تمنع صاحبها من الجهل. ويقال: أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد. فهو محكم وحكيم على التكثير.