فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (108):

{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} نهي. {فَيَسُبُّوا اللَّهَ} جواب النهي. فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم، لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا. قال ابن عباس: قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن إلهه ونهجوه، فنزلت الآية.
الثانية: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية. وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب {الَّذِينَ} على معتقد الكفرة فيها.
الثالثة: في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع، وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة قال ابن العربي: إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول.
الرابعة: قوله تعالى: {عَدْواً} أي جهلا واعتداء. وروي عن أهل مكة أنهم قرءوا {عَدْواً} بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، وهي راجعة إلى القراءة الأولى، وهما جميعا بمعنى الظلم. وقرأ أهل مكة أيضا {عدوا} بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو. وهو واحد يؤدي عن جمع، كما قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ}.
وقال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ} وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله.
الخامسة: قوله تعالى: {كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم. قال ابن عباس. زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر الكفر، وهو كقوله: {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ}.
وفي هذا رد على القدرية.

.تفسير الآية رقم (109):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)}
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا} أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها، وهو بالله فقوله: {جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، كما أخبر عنهم بقوله تعالى: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}. وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله. {جَهْدَ} منصوب على المصدر والعامل فيه {أَقْسَمُوا} على مذهب سيبويه، لأنه في معناه. والجهد بفتح الجيم: المشقة يقال: فعلت ذلك بجهد. والجهد بضمها: الطاقة يقال: هذا جهدي، أي طاقتي. ومنهم من يجعلهما واحدا، ويحتج بقول: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}. وقرى {جُهْدَهُمْ} بالفتح، عن ابن قتيبة. وسبب الآية فيما ذكر المفسرون: القرظي والكلبي وغيرهما، أن قريشا قالت: يا محمد، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك. فقال: «أي شيء تحبون»؟ قالوا: أجعل لنا الصفا ذهبا، فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: «إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولين أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فاتركهم حتى يتوب تائبهم» فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بل يتوب تائبهم» فنزلت هذه الآية. وبين الرب بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يؤمن وإن أقسم ليؤمنن.
الثانية: قوله تعالى: {جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} قيل: معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمي، وهي قول الرجل: الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ابن العربي: وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة، كانوا يقولون: على أشد ما أخذه أحد على أحد، فقال مالك: تطلق نساؤه. ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها. وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول: يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها، لأن قوله: {الإيمان} جمع يمين، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة. ولو قال: علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث. والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات. قلت: وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه: اختلف شيوخ القيروان فيها، فقال أبو محمد بن أبي زيد، يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريق ثلث ماله، وكفارة يمين، وعتق رقبة. قال ابن مغيث: وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة.
وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن القروي: تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية. ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله: {وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين}. قال ابن مغيث: فجعل من سميناه على القائل: {الإيمان تلزمه} طلقة واحدة، لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله: أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين، قال وبه نقول. قال: واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال: علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله، فقال: إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات. فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله: على عهد الله وغليظ ميثاقه. ويعتق رقبة وتطلق نساؤه، ويمشي إلى مكة ويتصدق بثلث ما له في قوله: وأشد ما أخذه على أحد. قال ابن العربي: أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد، فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك {بِاللَّهِ} فيكون ما قاله الفهري. فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد، فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ماله، إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا. والله أعلم. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل يا محمد: الله القادر على الآتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء. {وَما يُشْعِرُكُمْ} أي وما يدريكم أيمانكم، فحذف المفعول. ثم استأنف فقال: {أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} بكسر إن، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود {وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون}.
وقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وتم الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون. وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ {تؤمنون} بالتاء.
وقال الفراء وغيره، الخطاب للمؤمنين، لأن المؤمنين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: {وَما يُشْعِرُكُمْ} أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون. {أَنَّها} بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل: {أَنَّها} بمعنى لعلها، وحكاه عنه سيبويه.
وفي التنزيل: {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} أي أنه يزكى. وحكي عن العرب: ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي لعلك.
وقال أبو النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه ** أن تغدي القوم من شوائه

وقال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي ** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

أي لعل.
وقال دريد بن الصمة:
أريني جوادا مات هزلا لأنني ** أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

أي لعلني. وهو في كلام العرب كثير {أن} بمعنى لعل. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب {وما أدراكم لعلها}.
وقال الكسائي والفراء: أن {لا} زائدة، والمعنى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها- أي الآيات- إذا جاءت المشركين يؤمنون، فزيدت {لا}، كما زيدت {لا} في قول تعالى: {حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}. لأن المعنى: وحرام على قرية مهلكة رجوعهم.
وفي قول: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ}. والمعنى: ما منعك أن تسجد. وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة {لا} وقالوا: هو غلط وخطأ، لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل.
وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا لعلم السامع، ذكره النحاس وغيره.

.تفسير الآية رقم (110):

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}
هذه آية مشكلة، ولا سيما وفيها {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. قيل: المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر، كما لم يؤمنوا في الدنيا. {وَنَذَرُهُمْ} في الدنيا، أي نمهلهم ولا نعاقبهم، فبعض الآية في الآخرة، وبعضها في الدنيا. ونظيرها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ} فهذا في الآخرة. {عامِلَةٌ ناصِبَةٌ} في الدنيا.
وقيل: ونقلب في الدنيا، أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة، لما دعوتهم وأظهرت المعجزة.
وفي التنزيل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}. والمعنى: كان ينبغي أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فرأوها بأبصارهم وعرفوها بقلوبهم، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم. كما لم يؤمنوا به أول مرة ودخلت الكاف على محذوف، أي فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة، أي أول مرة أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره. وقيل ونقلب أفئدة هؤلاء كيلا يؤمنوا، كما لم تؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما اقترحوا من الآيات.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا أول مرة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم. {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يتحيرون. وقد مضى في البقرة.

.تفسير الآية رقم (111):

{وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} فرأوهم عيانا. {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى} بإحيائنا إياهم. {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} سألوه من الآيات. قبلا مقابلة، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وهي قراءة نافع وابن عامر.
وقيل: معاينة، لما آمنوا.
وقال محمد بن يزيد: يكون {قُبُلًا} بمعنى ناحية، كما نقول: لي قبل فلان مال، فقبلا نصب على الظرف. وقرأ الباقون {قبلا} بضم القاف والباء، ومعناه ضمناء، فيكون جمع قبيل بمعنى كفيل، نحو رغيف ورغف، كما قال: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا}، أي يضمنون ذلك، عن الفراء.
وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل، أي جماعة جماعة، وقال مجاهد، وهو نصب على الحال على القولين.
وقال محمد بن يزيد {قُبُلًا} أي مقابلة، ومنه {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ}. ومنه قبل الرجل ودبره لما كان من بين يديه ومن ورائه. ومنه قبل الحيض. حكى أبو زيد: لقيت فلانا قيلا ومقابلة وقبلا وقبلا، كله بمعنى المواجهة، فيكون الضم كالكسر في المعنى وتستوي القراءتان، قاله مكي. وقرأ الحسن {قبلا} حذف الضمة من الباء لثقلها. وعلى قول الفراء يكون فيه نطق ما لا ينطق، وفي كفالة ما يعقل آية عظيمة لهم. وعلى قول الأخفش يكون فيه اجتماع الأجناس الذي ليس بمعهود. والحشر الجمع. ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله {أن} في موضع استثناء ليس من الأول، أي لكن إن شاء ذلك لهم.
وقيل:
الاستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم الله الإيمان. وفى هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أي يجهلون الحق وقيل: يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة.

.تفسير الآية رقم (112):

{وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)}
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ} يعزي نبيه ويسليه، أي كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك {عَدُوًّا} أي أعداء. ثم نعتهم فقال: {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} حكى سيبويه جعل بمعنى وصف. {عَدُوًّا} مفعول أول. {لِكُلِّ نَبِيٍّ} في موضع المفعول الثاني. {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} بدل من عدو. ويجوز أن يكون {شَياطِينَ} مفعولا أول، {عَدُوًّا} مفعولا ثانيا، كأنه قيل: جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا. وقرأ الأعمش: {شياطين الجن والإنس} بتقديم الجن. والمعنى واحد. {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه، ومنه سمي الذهب زخرفا. وكل شيء حسن مموه فهو زخرف. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. و{غُرُوراً} نصب على المصدر، لأن معنى {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ} يغرونهم بذلك غرورا. ويجوز أن يكون في موضع الحال والغرور الباطل. قال النحاس: وروي عن ابن عباس بإسناد ضعيف أنه قال في قول الله عز وجل: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ} قال: مع كل جني شيطان، ومع كل إنسي شيطان، فيلقى أحدهما الآخر فيقول: إني قد أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله. ويقول الآخر مثل ذلك، فهذا وحي بعضهم إلى بعض. وقاله عكرمة والضحاك والسدي والكلبي. قال النحاس: والقول الأول يدل عليه {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ}، فهذا يبين معنى ذلك. قلت: ويدل عليه من صحيح السنة قول عليه السلام: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن» قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير». روي: «فأسلم» برفع الميم ونصبها. فالرفع على معنى فأسلم من شره. والنصب على معنى فأسلم هو. فقال: «ما منكم من أحد» ولم يقل ولا من الشياطين، إلا أنه يحتمل أن يكون نبه على أحد الجنسين بالآخر، فيكون من باب {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وفية بعد، والله أعلم.
وروى عوف بن مالك عن أبي ذر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن»؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: «نعم هم شر من شياطين الجن».
وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تنشد:
إن النساء رياحين خلقن لكم ** وكلكم يشتهي شم الرياحين

فأجابها عمر رضي الله عنه:
إن النساء شياطين خلقن لنا ** نعوذ بالله من شر الشياطين

قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ} أي ما فعلوا إيحاء القول بالغرور. فذرهم أمر فيه معنى التهديد. قال سيبويه: ولا يقال وذر ولا ودع، استغنوا عنهما بترك. قلت: هذا إنما خرج على الأكثر.
وفي التنزيل: {وَذَرِ الَّذِينَ} و{ذرهم} و{ما وَدَّعَكَ}.
وفي السنة: «لينتهن أقوام عن ودعهم الجمعات». وقول: «إذا فعلوا- يريد المعاصي- فقد تودع منهم». قال الزجاج: الواو ثقيلة، فلما كان {ترك} ليس فيه واو بمعنى ما فيه الواو ترك ما فيه الواو. وهذا معنى قول وليس بنصه.