فصل: تفسير الآية رقم (113):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (113):

{وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}
قوله تعالى: {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ} تصغي تميل، يقال: صغوت أصغو صغوا وصغوا، وصغيت أصغي، وصغيت بالكسر أيضا. يقال منه: صغي يصغى صغى وصغيا، وأصغيت إليه إصغاء بمعنى قال الشاعر:
ترى السفيه به عن كل محكمة ** زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء

ويقال: أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه. وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض. ومنه صغت النجوم: مالت للغروب.
وفي التنزيل: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما}. قال أبو زيد: يقال صغوه معك وصغوه، وصغاه معك، أي ميله.
وفي الحديث: «فأصغى لها الإناء» يعني للهرة. وأكرموا فلانا في صاغيته، أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده. وأصغت الناقة إذا أمالت رأسها إلى الرجل كأنها تستمع شيئا حين يشد عليها الرحل. قال ذو الرمة:
تصغي إذا شدها بالكور جانحة ** حتى إذا ما استوى في غرزها تثب

واللام في {وَلِتَصْغى} لام كي، والعامل فيها {يُوحِي} تقديره: يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى. وزعم بعضهم أنها لام الأمر، وهو غلط، لأنه كان يجب {ولتصغ إليه} بحذف الألف، وإنما هي لام كي. وكذلك وليقترفوا إلا أن الحسن قرأ {وليرضوه وليقترفوا} بإسكان اللام، جعلها لام أمر فيه معنى التهديد، كما يقال: أفعل ما شئت. ومعنى ولتقرفوا ما هم مقترفون أي وليكتسبوا، عن ابن عباس والسدي وابن زيد. يقال خرج يقترف أهله أي يكتسب لهم. وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله. وقرفتني بما ادعيت علي، أي رميتني بالريبة. وقرف القرحة إذا قشر منها. واقترف كذبا. قال رؤبة:
أعيا اقتراف الكذب المقروف ** تقوى التقي وعفة العفيف

وأصله اقتطاع قطعة من الشيء.

.تفسير الآية رقم (114):

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)}
قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} {غير} نصب ب {أَبْتَغِي}. {حَكَماً} نصب على البيان، وإن شئت على الحال. والمعنى: أفغير الله أطلب لكم حاكما وهو كفاكم مئونة المسألة في الآيات بما أنزله إليكم من الكتاب المفصل، أي المبين. ثم قيل: الحكم أبلغ من الحاكم، إذ لا يستحق التسمية بحكم إلا من يحكم بالحق، لأنها صفة تعظيم في مدح. والحاكم صفة جارية على الفعل، فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق. {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} يريد اليهود والنصارى.
وقيل: من أسلم منهم كسلمان وصهيب وعبد الله بن سلا. {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي القرآن. {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي أن كل ما فيه من الوعد والوعيد لحق فلا تكونن من الممترين أي من الشاكين في أنهم يعلمون أنه منزل من عند الله.
وقال عطاء: الذين آتينا الكتاب وهم رؤساء أصحاب محمد عليه السلام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

.تفسير الآية رقم (115):

{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}
قوله تعالى: {وتمت كلمات ربك} قراءة أهل الكوفة بالتوحيد، والباقون بالجمع. قال ابن عباس: مواعيد ربك، فلا مغير لها. والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما. قال قتادة: الكلمات هي القرآن لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون. {صِدْقاً وَعَدْلًا} أي فيما وعد وحكم، لا راد لقضائه ولا خلف في وعده. وحكى الرماني، عن قتادة. وحكى الرماني عن قتادة. لا مبدل لها فيما حكم به، أي إنه وإن أمكنه التغيير والتبديل في الألفاظ كما غير أهل الكتاب التوراة والإنجيل فإنه لا يعتد بذلك. ودلت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن، لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها.

.تفسير الآيات (116- 117):

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}
قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} أي الكفار. {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن الطريق التي تؤدي إلى ثواب الله. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} {إِنْ} بمعنى ما، وكذلك {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أي يحدسون ويقدرون، ومنه الخرص، وأصله القطع. قال الشاعر:
ترى قصد المرّان فينا كأنه ** تذرّع خرصان بأيدي الشواطب

يعني جريدا يقطع طولا ويتخذ منه الخرص. وهو جمع الخرص، ومنه خرص يخرص النخل خرصا إذا حزره ليأخذ الخراج منه. فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به، إذ لا يقين معه.
وسيأتي لهذا مزيد بيان في الذاريات إن شاء الله تعالى. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} قال بعض الناس: إن {أَعْلَمُ} هنا بمعنى يعلم، وأنشد قول حاتم الطائي:
تحالفت طيئ من دوننا حلفا ** والله أعلم ما كنا لهم خذلا

وقول الخنساء:
الله أعلم أن جفنته ** تغدو غداة الريح أو تسري

وهذا لا حجة فيه، لأنه لا يطابق {هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. ولأنه يحتمل أن يكون على أصله. {مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} {مَنْ} بمعنى أي، فهو في محل رفع والرافع له {يَضِلُّ}.
وقيل: في محل نصب بأعلم، أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله.
وقيل: في محل نصب بنزع الخافض، أي بمن يضل. قال بعض البصريين، وهو حسن، لقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وقول في آخر النحل: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. وقرى {يضل} وهذا على حذف المفعول، والأول أحسن، لأنه قال: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. فلو كان من الإضلال لقال وهو أعلم بالهادين.

.تفسير الآية رقم (118):

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)}
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} نزلت بسبب أناس أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله؟ فنزلت {فَكُلُوا} إلى قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} خرجه الترمذي وغيره. قال عطاء: هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} أي بأحكامه وأوامره آخذين، فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها.

.تفسير الآية رقم (119):

{وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)}
قوله تعالى: {وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}: المعنى ما المانع لمن أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم. {وَقَدْ فَصَّلَ} أي بين لكم الحلال من الحرام، وأزيل عنكم اللبس والشك. ف {ما} استفهام يتضمن التقرير. وتقدير الكلام: وأى شيء لكم في ألا تأكلوا. {فأن} في موضع خفض بتقدير حرف الجر. ويصح أن تكون في موضع نصب على ألا يقدر حرف جر، ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله: {ما لَكُمْ} تقديره أي ما يمنعكم. ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} يريد من جميع ما حرم كالميتة وغيرها كما تقدم في البقرة. وهو استثناء منقطع. وقرأ نافع ويعقوب {وقد فصل لكم ما حرم} بفتح الفعلين. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما، والكوفيون {فصل} بالفتح {حرم} بالضم. وقرأ عطية العوفي {فصل} بالتخفيف. ومعناه أبان وظهر، كما قرئ {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} أي استبانت. واختار أبو عبيدة قراءة أهل المدينة.
وقيل: {فَصَّلَ} أي بين، وهو ما ذكره في سورة المائدة من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية. قلت: هذا فيه نظر، فإن الأنعام مكية والمائدة مدنية فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعد، إلا أن يكون فصل بمعنى يفصل. والله أعلم. قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ} وقرأ الكوفيون {يضلون} من أضل {بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ} علم يعني المشركين حيث قالوا: ما ذبح الله بسكينة خير مما ذبحتم بسكاكينكم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح، إذ الحكمة فيه إخراج ما حرمه الله علينا من الدم بخلاف ما مات حتف أنفه، ولذلك شرع الذكاة في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (120):

{وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)}
قوله تعالى: {وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ} للعلماء فيه أقوال كثيرة وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملا بالبدن مما نهى الله عنه، وباطنه ما عقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أمر ونهى، وهذه المرتبة لا يبلغها إلا من اتقى وأحسن، كما قال: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا}. وهي المرتبة الثالثة. حسب ما تقدم بيانه في المائدة.
وقيل: هو ما كان عليه الجاهلية من الزنا الظاهر واتخاذ الحلائل في الباطن. وما قدمنا جامع لكل إثم وموجب لكل أمر.

.تفسير الآية رقم (121):

{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)}
قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فيه خمس مسائل:
الأولى: روى أبو داود قال: جاءت اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إلى أخر الآية.
وروى النسائي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال: خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه، فقال الله سبحانه لهم: لا تأكلوا، فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها. وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي:
الثانية:
وذلك أن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا، فقال علماؤنا: لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صيغ ألفاظ العموم. أما ما ذكره جوابا لسؤال ففيه تفصيل، على ما هو معروف في أصول الفقه، إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لحق بالأول في صحة القصد إلى التعميم. فقول: {لا تَأْكُلُوا} ظاهر في تناول الميتة، وتدخل فيه ما ذكر عليه غير اسم الله بعموم أنه لم يذكر عليه اسم الله، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصا بقول: {وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}. وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عمدا عليه من الذبح، وعند إرسال الصيد.
اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة، وهي:
المسأله الثالثة:
القول الأول: إن تركها سهوا أكلا جميعا، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل. فإن تركها عمدا لم يؤكلا، وقال في الكتاب مالك وابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء، وأختاره النحاس وقال: هذا أحسن، لأنه لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا.
الثاني: إن تركها عامدا أو ناسيا يأكلهما. وهو قول الشافعي والحسن، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وقتادة. وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال: تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا. وروي عن ربيعة أيضا. قال عبد الوهاب: التسمية سنة، فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه.
الثالث: إن تركها عامدا أو ساهيا حرم أكلها، قال محمد بن سيرين وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عمر ونافع وعبد الله بن زيد الخطمي والشعبي، وبه قال أبو ثور وداود بن علي وأحمد في رواية.
الرابع: إن تركها عامدا كره أكلها، قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا.
الخامس: قال أشهب: تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا، وقال نحوه الطبري. أدلة قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وقال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فبين الحالين وأوضح الحكمين. فقول: {لا تَأْكُلُوا} نهي على التحريم لا يجوز حمله على الكراهة، لتناول في بعض مقتضياته الحرام المحض، ولا يجوز أن يتبعض، أي يراد به التحريم والكراهة معا، وهذا من نفيس الأصول. وأما الناسي فلا خطاب توجه إليه إذ يستحيل خطابه، فالشرط ليس بواجب عليه. وأما التارك للتسمية عمدا فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يتركها إذا أضجع الذبيحة ويقول: قلبي مملوء من أسماء الله تعالى وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكر بلساني، فذلك يجزئه لأنه ذكر الله جل جلاله وعظمه. أو يقول: إن هذا ليس بموضع تسمية صريحة، إذ ليست بقربة، فهذا أيضا يجزئه. أو يقول: لا أسمي، وأى قدر للتسمية، فهذا متهاون فاسق لا تؤكل ذبيحته. قال ابن العربي: وأعجب لرأس المحققين أمام الحرمين حيث قال: ذكر الله تعالى إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة. وهذا يعارض القرآن والسنة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل». فإن قيل: المراد بذكر اسم الله بالقلب، لأن الذكر يضاد النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب، وقد روى البراء بن عازب: اسم الله على قلب كل مؤمن سمى أو لم يسم. قلنا: الذكر باللسان وبالقلب، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان، فنسخ الله ذلك بذكره في الألسنة، وأشتهر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك: هل يسمي الله تعالى إذا توضأ فقال: أيريد أن يذبح. وأما الحديث الذي تعلقوا به من قوله: «اسم الله على قلب كل مؤمن» فحديث ضعيف. وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة، لقوله عليه السلام لأناس سألوه، قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري اذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «سموا الله عليه وكلوا». أخرجه الدارقطني عن عائشة ومالك مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه، لم يختلف عليه في إرساله.
وتأوله بأن قال في آخره: وذلك في أول الإسلام. يريد قبل أن ينزل عليه {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. قال أبو عمر: وهذا ضعيف، وفي الحديث نفسه ما يرده، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل، فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه. ومما يدل على صحة ما قلناه أن هذا الحديث كان بالمدينة، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} نزل في سورة الأنعام بمكة. ومعنى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي لمعصية عن ابن عباس. والفسق: الخروج. وقد تقدم.
الرابعة: قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ} أي يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل. روى أبو داود عن ابن عباس في قول: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ} يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال عكرمة: عني بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس.
وقال ابن عباس وعبد الله بن كثير: بل الشياطين الجن، وكفرة الجن أولياء قريش. وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قيل له: إن المختار يقول: يوحى إلى فقال: صدق، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم. وقوله: {لِيُجادِلُوكُمْ}. يريد قولهم: ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه. والمجادلة: دفع القول على طريق الحجة بالقوة، مأخوذ من الأجدل، طائر قوي.
وقيل: هو مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض، فكأنه يغلبه بالحجة يقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض.
وقيل: هو مأخوذ من الجدل، وهو شدة القتل، فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل.
الخامسة: قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي في تحليل الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا، فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي: إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد، فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص، فافهموه. وقد مضى في المائدة.