فصل: تفسير الآية رقم (165):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (165):

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} {خَلائِفَ} جمع خليفة، ككرائم جمع كريمة. وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة. أي جعلكم خلفا للأمم الماضية والقرون السالفة. قال الشماخ:
تصيبهم وتخطئني المنايا ** وأخلف في ربوع عن ربوع

{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} في الخلق والرزق والقوة والبسطة والفضل والعلم. {دَرَجاتٍ} نصب بإسقاط الخافض، أي إلى درجات. {لِيَبْلُوَكُمْ} نصب بلام كي. والابتلاء الاختبار، أي ليظهر منكم ما يكون غايته الثواب والعقاب. ولم يزل بعلمه غنيا، فابتلي الموسر: بالغني وطلب منه الشكر، وأبتلي المعسر بالفقر وطلب منه الصبر. ويقال: {لِيَبْلُوَكُمْ} أي بعضكم ببعض. كما قال: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} على ما يأتي بيانه. ثم خوفهم فقال: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ} لمن عصاه. {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن أطاعه. وقال: {سَرِيعُ الْعِقابِ} مع وصفه سبحانه بالإمهال، ومع أن عقاب النار في الآخرة، لأن كل آت قريب، فهو سريع على هذا. كما قال تعالى: {وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}. وقال: {يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً}. ويكون أيضا سريع العقاب لمن استحقه في دار الدنيا، فيكون تحذير المواقع الخطيئة على هذه الجهة. والله أعلم. تمت سورة الأنعام بحمد الله تعالى وصلواته على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

.سورة الأعراف:

بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة الأعراف وهي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} إلى قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ}. وروى النسائي عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرقها في ركعتين. صححه أبو محمد عبد الحق.

.تفسير الآيات (1- 2):

{المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
قوله تعالى: {المص} تقدم في أول البقرة وموضعه رفع بالابتداء. و{كِتابٌ} خبره. كأنه قال: {المص} حروف {كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وقال الكسائي: أي هذا كتاب. قوله تعالى: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {حَرَجٌ} أي ضيق، أي لا يضيق صدرك بالإبلاغ، لأنه روي عنه عليه السلام أنه قال: «إني أخاف أن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة» الحديث. خرجه مسلم. قال الكيا: فظاهره النهي، ومعناه نفي الحرج عنه، أي لا يضيق صدرك ألا يؤمنوا به، فإنما عليك البلاغ، وليس عليك سوى الإنذار به من شيء من إيمانهم أو كفرهم، ومثله قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ} الآية. وقال: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. ومذهب مجاهد وقتادة أن الحرج هنا الشك، وليس هذا شك الكفر إنما هو شك الضيق. وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ}.
وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته. وفية بعد. والهاء في {مِنْهُ} للقرآن.
وقيل: للإنذار، أي أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه. فالكلام فيه تقديم وتأخير. وقيل للتكذيب الذي يعطيه قوة الكلام. أي فلا يكن في صدرك ضيق من تكذيب المكذبين له.
الثانية: قوله تعالى: {وَذِكْرى} يجوز أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض. فالرفع من وجهين، قال البصريون: هي رفع على إضمار مبتدأ.
وقال الكسائي: عطف على {كِتابٌ} والنصب من وجهين، على المصدر، أي وذكر به ذكرى، قال البصريون.
وقال الكسائي: عطف على الهاء في {أَنْزَلْناهُ}. والخفض حملا على موضع {لِتُنْذِرَ بِهِ} والإنذار للكافرين، والذكرى للمؤمنين، لأنهم المنتفعون به.

.تفسير الآية رقم (3):

{اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. وقالت فرقة: هذا أمر يعم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. والظاهر أنه أمر لجميع الناس دونه. أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن، وأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه. ودلت الآية على ترك اتباع الآراء مع وجود النص.
الثانية: قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} {مِنْ دُونِهِ} من غيره. والهاء تعود على الرب سبحانه، والمعنى: لا تعبدوا معه غيره، ولا تتخذوا من عدل عن دين الله وليا. وكل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه. وروي عن مالك بن دينار أنه قرأ {ولا تبتغوا من دونه أولياء} أي ولا تطلبوا. ولم ينصرف {أَوْلِياءَ} لأن فيه ألف التأنيث.
وقيل: تعود على {ما} من قوله: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}. {قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ} {ما} زائدة.
وقيل: تكون مع الفعل مصدرا.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)}
قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} {كَمْ} للتكثير، كما أن {رب} للتقليل. وهي في موضع رفع بالابتداء، و{أهلكنا} الخبر. أي وكثير من القرى- وهي مواضع اجتماع الناس- أهلكناها. ويجوز النصب بإضمار فعل بعدها، ولا يقدر قبلها، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. ويقوي الأول قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} ولولا اشتغال {أَهْلَكْنا} بالضمير لانتصب به موضع {كَمْ}. ويجوز أن يكون {أهلكنا} صفة للقرية، و{كَمْ} في المعنى هي القرية، فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت كم. يدل على ذلك قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً} فعاد الضمير على {كَمْ}. على المعنى، إذ كانت الملائكة في المعنى. فلا يصح على هذا التقدير أن يكون {كَمْ} في موضع نصب بإضمار فعل بعدها. {فَجاءَها بَأْسُنا} فيه إشكال للعطف بالفاء. فقال الفراء: الفاء بمعنى الواو، فلا يلزم الترتيب.
وقيل: أي وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، كقوله: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ}.
وقيل: إن الهلاك. واقع ببعض القوم، فيكون التقدير: وكم من قرية أهلكنا بعضها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع.
وقيل: المعنى وكم من قرية أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا.
وقيل: أهلكناها بإرسالنا ملائكة العذاب إليها، فجاءها بأسنا وهو الاستئصال. والبأس، العذاب الآتي على النفس.
وقيل: المعنى أهلكناها فكان إهلاكنا إياهم في وقت كذا، فمجيء البأس على هذا هو الإهلاك.
وقيل: البأس غير الإهلاك، كما ذكرنا. وحكى الفراء أيضا أنه إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فيكون المعنى وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، مثل دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء، وأساء فشتمني، لأن الإساءة والشتم شيء واحد. وكذلك قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}. المعنى- والله أعلم- انشق القمر فاقتربت الساعة. والمعنى واحد. {بَياتاً} أي ليلا، ومنه البيت، لأنه يبات فيه. يقال: بات يبيت بيتا وبياتا. أوهم قائلون أي {أَوْ هُمْ قائِلُونَ} أي أو وهم قائلون، فاستثقلوا فحذفوا الواو، قاله الفراء.
وقال الزجاج: هذا خطأ، إذا عاد الذكر استغني عن الواو، تقول: جاءني زيد راكبا أو هو ماش، ولا يحتاج إلى الواو. قال المهدوي: ولم يقل بياتا أو وهم قائلون لأن في الجملة ضميرا يرجع إلى الأول فاستغني عن الواو. وهو معنى قول الزجاج سواء، وليس أو للشك بل للتفصيل، كقولك: لأكرمنك منصفا لي أو ظالما. وهذه الواو تسمى عند النحويين واو الوقت. و{قائِلُونَ} من القائلة وهي القيلولة، وهي نوم نصف النهار وقيل: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم. والمعنى جاءهم عذابنا وهم غافلون إما ليلا وإما نهارا. والدعوى الدعاء، ومنه قول: {وَآخِرُ دَعْواهُمْ}. وحكى النحويون: اللهم أشركنا في صالح دعوى من دعاك. وقد تكون الدعوى بمعنى الادعاء. والمعنى: أنهم لم يخلصوا عند الإهلاك إلا على الإقرار بأنهم كانوا ظالمين. {دَعْواهُمْ} في موضع نصب خبر كان، واسمها {إِلَّا أَنْ قالُوا}. نظيره {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا} ويجوز أن تكون الدعوى رفعا، و{أَنْ قالُوا} نصبا، كقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا} برفع {الْبِرَّ} وقوله: {ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا} برفع {عاقبة}.

.تفسير الآيات (6- 7):

{فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)}
قوله تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} دليل على أن الكفار يحاسبون.
وفي التنزيل {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ}.
وفي سورة القصص {وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} يعني إذا استقروا في العذاب. والآخرة مواطن: موطن يسألون فيه للحساب. وموطن لا يسألون فيه. وسؤالهم تقرير وتوبيخ وإفضاح. وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح، أي عن جواب القوم لهم. وهو معنى قوله: {لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} على ما يأتي.
وقيل: المعنى {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي الأنبياء {وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} أي الملائكة الذين أرسلوا إليهم. واللام في {فَلَنَسْئَلَنَّ} لام القسم وحقيقتها التوكيد. كذا {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} قال ابن عباس: ينطق عليهم. {وَما كُنَّا غائِبِينَ} أي كنا شاهدين لأعمالهم. ودلت الآية على أن الله تعالى عالم بعلم.

.تفسير الآيات (8- 9):

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)}
قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون {الْحَقُّ} نعته، والخبر {يَوْمَئِذٍ}. ويجوز نصب {الحق} على المصدر. والمراد بالوزن وزن أعمال العباد بالميزان. قال ابن عمر: توزن صحائف أعمال العباد. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر على ما يأتي.
وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق.
وقال مجاهد: الميزان الحسنات والسيئات بأعيانها. وعنه أيضا والضحاك والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن ضرب مثل، كما تقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن. قال الزجاج: هذا سائغ من جهة اللسان، والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان. قال القشيري: وقد أحسن فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الذين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة. وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل. وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصا. قال ابن فورك: وقد أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها. ومن المتكلمين من يقول: إن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها يوم القيامة. وهذا ليس بصحيح عندنا، والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التي فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف. وقد روي في الخبر ما يحقق ذلك، وهو أنه روي: «أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رق مكتوب فيه {لا إله إلا الله} فيثقل». فقد علم أن لك يرجع إلى وزن ما كتب فيه الأعمال لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفتيه من الصحف التي فيها الأعمال.
وفي صحيح مسلم عن صفوان بن محرز قال قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النجوى؟ قال سمعته يقول: «يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطي صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله». فقوله:«فيعطى صحيفة حسناته»
دليل على أن الأعمال تكتب في الصحف وتوزن.
وروى ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله تبارك وتعالى هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقول أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا ثم يقول ألك عذر ألك حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة». زاد الترمذي: «فلا يثقل مع اسم الله شي» وقال: حديث حسن غريب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في الكهف والأنبياء إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ} {مَوازِينُهُ} جمع ميزان، وأصله موزان، قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها.
وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله. ويمكن أن يكون ذلك ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع، كما تقول: خرج فلان إلى مكة على البغال، وخرج إلى البصرة في السفن.
وفي التنزيل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}. {كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ}. وإنما هو رسول واحد في أحد التأويلين.
وقيل: الموازين جمع موزون، لا جمع ميزان. أراد بالموازين الأعمال الموزونة. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ} مثله.
وقال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان كفتان، فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته، فذلك قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كفة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار. وما أشار إليه ابن عباس قريب مما قيل: يخلق الله تعالى كل جزء من أعمال العباد جوهرا فيقع الوزن على تلك الجواهر. ورده ابن فورك وغيره.
وفي الخبر: «إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صل الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي أنت وأمي! ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول أنا محمد نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها». ذكره القشيري في تفسيره. وذكر أن البطاقة بكسر الباء رقعة فيها رقم المتاع بلغة. أهل مصر.
وقال ابن ماجة: قال محمد بن يحيى: البطاقة الرقعة، وأهل مصر يقولون للرقعة بطاقة.
وقال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، يقول الله تعالى: «يا جبريل زن بينهم فرد من بعض على بعض». قال: وليس ثم ذهب ولا فضة، فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فرد على المظلوم، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم، فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن الله تعالى يقول يوم القيامة يا آدم ابرز إلى جانب الكرسي عند الميزان وانظر ما يرفع إليك من أعمال بنيك فمن رجح خيره على شره مثقال حبة فله الجنة ومن رجح شره على خيره مثقال حبة فله النار حتى تعلم أني لا أعذب إلا ظالما».