فصل: تفسير الآية رقم (13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (13):

{أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}
قوله تعالى: {أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ} توبيخ وفية معنى التحضيض. نزلت في كفار مكة كما ذكرنا آنفا. {وهموا بإخراج الرسول} أي كان منهم سبب الخروج، فأضيف الإخراج إليهم.
وقيل: أخرجوا الرسول عليه السلام من المدينة لقتال أهل مكة للنكث الذي كان منهم: عن الحسن. {وَهُمْ بَدَؤُكُمْ} بالقتال. {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي نقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة.
وقيل: بدءوكم بالقتال يوم بدر، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج للعير ولما أحرزوا عيرهم كان يمكنهم الانصراف، فأبوا إلا الوصول إلى بدر وشرب الخمر بها، كما تقدم. {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} أي تخافوا عقابه في ترك قتالهم من أن تخافوا أن ينالكم في قتالهم مكروه.
وقيل: إخراجهم الرسول منعهم إياه من الحج والعمرة والطواف، وهو ابتداؤهم. والله أعلم.

.تفسير الآيات (14- 15):

{قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}
قوله تعالى: {قاتِلُوهُمْ} أمر. {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} جوابه. وهو جزم بمعنى المجازاة. والتقدير: إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخز هم وينصر كم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} دليل على أن غيظهم كان قد اشتد.
وقال مجاهد:
يعني خزاعة حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكله عطف، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الأول. ويجوز النصب على إضمار {أن} وهو الصرف عند الكوفيين، كما قال:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش ** أجب الظهر ليس له سنام

وإن شئت رفعت {ونأخذ} وإن شئت نصبته. والمراد بقوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} بنو خزاعة على ما ذكرنا عن مجاهد. فإن قريشا أعانت بني بكر عليهم وكانت خزاعة حلفاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأنشد رجل من بني بكر هجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له بعض خزاعة: لئن أعدته لأكسرن فمك فأعاده فكسر فاه وثار بينهم قتال فقتلوا من الخزاعيين أقواما فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في نفر إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره به فدخل منزل ميمونة وقال: «اسكبوا إلي ماء» فجعل يغتسل وهو يقول: «لا نصرت إن لم أنصر بني كعب». ثم أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتجهز والخروج إلى مكة فكان الفتح. قوله تعالى: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} القراءة بالرفع على الاستئناف لأنه ليس من جنس الأول ولهذا لم يقل ويتب بالجزم لان القتال غير موجب لهم التوبة من الله عز وجل وهو موجب لهم العذاب والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ونظيره: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] تم الكلام. ثم قال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ} [الشورى: 24]. والذين تاب الله عليهم مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو، فإنهم أسلموا. وقرأ ابن أبي إسحاق {ويتوب} بالنصب. وكذا روي عن عيسى الثقفي والأعرج، وعليه فتكون التوبة داخلة في جواب الشرط، لان المعنى: إن تقاتلوهم يعذبهم الله.
وكذلك ما عطف عليه. ثم قال: {وَيَتُوبُ اللَّهُ} أي إن تقاتلوهم. فجمع بين تعذيبهم بأيديكم وشفاء صدوركم وإذهاب غيظ قلوبكم والتوبة عليكم. والرفع أحسن، لان التوبة لا يكون سببها القتال، إذ قد توجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال.

.تفسير الآية رقم (16):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)}
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} خروج من شيء إلى شي. {أَنْ تُتْرَكُوا} في موضع المفعولين على قول سيبويه. وعند المبرد أنه قد حذف الثاني. ومعنى الكلام: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب. وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. {وَلَمَّا يَعْلَمِ} جزم بلما وإن كانت ما زائدة، فإنها تكون عند سيبويه جوابا لقولك: قد فعل كما تقدم. وكسرت الميم لالتقاء الساكنين. {وَلِيجَةً} بطانة ومداخلة من الولوج وهو الدخول ومنه سمي الكناس الذي تلج فيه الوحوش تولجا. ولج يلج ولوجا إذا دخل. والمعنى: دخيلة مودة من دون الله ورسوله.
وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة.
وقال ابن زيد: الوليجة الدخيلة والولجاء الدخلاء فوليجة الرجل من يختص بدخلة أمره دون الناس. تقول: هو وليجتي وهم وليجتي الواحد والجمع فيه سواء. قال أبان بن تغلب رحمه الله:
فبئس الوليجة للهاربين ** والمعتدين وأهل الريب

وقيل: وليجة بطانة، والمعنى واحد، نظيره {لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118].
وقال الفراء: وليجة بطانة من المشركين يتخذونهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم.

.تفسير الآية رقم (17):

{ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)}
قوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ} الجملة من {أَنْ يَعْمُرُوا} في موضع رفع اسم كان. {شاهِدِينَ} على الحال. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: أراد ليس لهم الحج بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام، وكانت أمور البيت كالسدانة والسقاية والرفادة إلى المشركين، فبين أنهم ليسوا أهلا لذلك، بل أهله المؤمنون.
وقيل: إن العباس لما أسر وعير بالكفر وقطيعة الرحم قال: تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا. فقال علي: الكم محاسن؟ قال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فنزلت هذه الآية ردا عليه. فيجب إذا على المسلمين تولى أحكام المساجد ومنع المشركين من دخولها. وقراءة العامة {يعمر} بفتح الياء وضم الميم، من عمر يعمر. وقرأ ابن السميقع بضم الياء وكسر الميم أي يجعلوه عامرا أو يعينوا على عمارته. وقرى {مسجد الله} على التوحيد أي المسجد الحرام. وهي قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبي عمرو وابن محيصن ويعقوب. والباقون {مساجد} على التعميم. وهو اختيار أبي عبيد، لأنه أعم والخاص يدخل تحت العام. وقد يحتمل أن يراد بقراءة الجمع المسجد الحرام خاصة. وهذا جائز فيما كان من أسماء الجنس، كما يقال: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا. والقراءة {مساجد} أصوب، لأنه يحتمل المعنيين. وقد أجمعوا على قراءة قوله: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ} على الجمع، قاله النحاس.
وقال الحسن: إنما قال مساجد وهو المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها. قوله تعالى: {شاهِدِينَ}. قيل: أراد وهم شاهدون فلما طرح و{هم} نصب. قال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم، وأقر أرهم أنها مخلوقة.
وقال السدي: شهادتهم بالكفر هو أن النصراني تقول له ما دينك؟ فيقول نصراني، واليهودي فيقول يهودي والصابئ فيقول صابئ. ويقال للمشرك ما دينك فيقول مشرك. {أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ} تقدم معناه.

.تفسير الآية رقم (18):

{إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ} دليل على أن الشهادة لعمار المساجد بالايمان صحيحة لان الله سبحانه ربطه بها وأخبر عنه بملازمتها. وقد قال بعض السلف: إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به الظن.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان» قال الله تعالى: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
وفي رواية: «يتعاهد المسجد». قال: حديث حسن غريب. قال ابن العربي: وهذا في ظاهر الصلاح ليس في مقاطع الشهادات، فإن الشهادات لها أحوال عند العارفين بها فإن منهم الذكي الفطن المحصل لما يعلم اعتقادا وإخبارا ومنهم المغفل، وكل واحد ينزل على منزلته ويقدر على صفته.
الثانية: قوله تعالى: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} إن قيل: ما من مؤمن إلا وقد خشي غير الله، وما زال المؤمنون والأنبياء يخشون الاعداء من غير هم. قيل له: المعنى ولم يخش إلا الله مما يعبد: فإن المشركين كانوا يعبدون الأوثان ويخشونها ويرجونها. جواب ثان- أي لم يخف في باب الدين إلا الله.
الثالثة: فإن قيل: فقد أثبت الايمان في الآية لمن عمر المساجد بالصلاة فيها، وتنظيفها وإصلاح ما وهى منها، وآمن بالله. ولم يذكر الايمان بالرسول فيها ولا إيمان لمن لم يؤمن بالرسول. قيل له: دل على الرسول ما ذكر من إقامة الصلاة وغيرها لأنه مما جاء به، فأقامه الصلاة وإيتاء الزكاة إنما يصح من المؤمن بالرسول، فلهذا لم يفرده بالذكر. و{عسى} من الله واجبة، عن ابن عباس وغيره.
وقيل: عسى بمعنى خليق أي فخليق {أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ} التقدير في العربية: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج أو أهل سقاية الحاج مثل من آمن بالله وجاهد في سبيله. ويصح أن يقدر الحذف في {من آمن} أي أجعلتم عمل سقى الحاج كعمل من آمن.
وقيل: التقدير كإيمان من آمن. والسقاية مصدر كالسعاية والحماية. فجعل الاسم بموضع المصدر إذ علم معناه، مثل إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زهير. وعمارة المسجد الحرام مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وقرأ أبو وجزة {أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام} سقاة جمع ساق والأصل سقية على فعلة، كذا يجمع المعتل من هذا، نحو قاض وقضاة وناس ونساه. فإن لم يكن معتلا جمع على فعلة نحو ناسئ ونساه، للذين كانوا ينسئون الشهور. وكذا قرأ ابن الزبير وسعيد بن جبير {سقاة وعمرة} إلا أن ابن جبير نصب {المسجد} على إرادة التنوين في {عمرة}.
وقال الضحاك: سقاية بضم السين، وهي لغة. والحاج اسم جنس الحجاج. وعمارة المسجد الحرام: معاهدته والقيام بمصالحه. وظاهر هذه الآية أنها مبطلة قول من افتخر من المشركين بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كما ذكره السدي. قال: افتخر عباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعلي بالإسلام والجهاد، فصدق الله عليا وكذبهما، وأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر، وإنما تكون بالايمان والعبادة وأداء الطاعة. وهذا بين لا غبار عليه. ويقال: إن المشركين سألوا اليهود وقالوا: نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود عنادا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتم أفضل. وقد اعترض هنا إشكال وهو ما جاء في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج.
وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام.
وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجر هم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يوم الجمعة- ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى آخر الآية. وهذا المساق يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال. وحينئذ لا يليق أن يقال لهم في آخر الآية: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فتعين الاشكال. وإزالته بأن يقال: إن بعض الرواة تسامح في قوله، فأنزل الله الآية. وإنما قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية على عمر حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذ. واستدل بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر، فاستفتى لهم فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه، لا أنها نزلت في هؤلاء. والله أعلم. فإن قيل: فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل في الكافرين، ومعلوم أن أحكامهم مختلفة. قيل له: لا يستبعد أن ينتزع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين. وقد قال عمر: إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق وشواء وتوضع صحفة وترفع أخرى ولكنا سمعنا قول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها} [الأحقاف: 20]. وهذه الآية نص في الكفار، ومع ذلك ففهم منها عمر الزجر عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. فيمكن أن تكون هذه الآية من هذا النوع. وهذا نفيس وبه يزول الاشكال ويرتفع الإبهام، والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (20):

{الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا} في موضع رفع بالابتداء. وخبره {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ}. و{دَرَجَةً} نصب على البيان، أي من الذين افتخروا بالسقي والعمارة. وليس للكافرين درجة عند الله حتى يقال: المؤمن أعظم درجة. والمراد أنهم قدروا لأنفسهم الدرجة بالعمارة والسقي فخاطبهم على ما قدروه في أنفسهم وإن كان التقدير خطأ كقوله تعالى: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [ان الفرق: 24].
وقيل: {أَعْظَمُ دَرَجَةً} من كل ذي درجة، أي لهم المزية والمرتبة العلية. {وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ} بذلك.