فصل: تفسير الآية رقم (67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (67):

{الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67)}
قوله تعالى: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ} ابتداء. {بَعْضُهُمْ} ابتداء ثان. ويجوز أن يكون بدلا، ويكون الخبر {مِنْ بَعْضٍ}. ومعنى {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين.
وقال الزجاج، هذا متصل بقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56] أي ليسوا من المؤمنين، ولكن بعضهم من بعض، أي متشابهون في الامر بالمنكر والنهي عن المعروف. وقبض أيديهم عبارة عن ترك الجهاد، وفيما يجب عليهم من حق. والنسيان: الترك هنا، أي تركوا ما أمر هم الله به فتركهم في الشك.
وقيل: إنهم تركوا أمره حتى صار كالمنسي فصيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه.
وقال قتادة: {فَنَسِيَهُمْ} أي من الخير، فأما من الشر فلم ينسهم. والفسق: الخروج عن الطاعة والدين. وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (68):

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)}
قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ} يقال: وعد الله بالخير وعدا. ووعد بالشر وعيدا {خالِدِينَ} نصب على الحال والعامل محذوف، أي يصلونها خالدين. {هِيَ حَسْبُهُمْ} ابتداء وخبر، أي هي كفاية ووفاء لجزاء أعمالهم. واللعن: البعد، أي من رحمة الله، وقد تقدم. {وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ} أي واصب دائم.

.تفسير الآية رقم (69):

{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال الزجاج: الكاف في موضع نصب، أي وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم.
وقيل: المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في الامر بالمنكر والنهي عن المعروف، فحذف المضاف.
وقيل: أي أنتم كالذين من قبلكم، فالكاف في محل رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. ولم ينصرف {أَشَدَّ} لأنه أفعل صفة. والأصل فيه أشدد، أي كانوا أشد منكم قوة فلم يتهيأ لهم ولا أمكنهم رفع عذاب الله عز وجل.
الثانية: روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تأخذون كما أخذت الأمم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه». قال أبو هريرة: وإن شئتم فاقرءوا القرآن: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} قال أبو هريرة: والخلاق، الدين- فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم حتى فرغ من الآية. قالوا: يا نبي الله، فما صنعت اليهود والنصارى؟ قال: «وما الناس إلا هم».
وفي الصحيح عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن»؟ وقال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. ونحوه عن ابن مسعود.
الثالثة: قوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} أي انتفعوا بنصيبهم من الدين كما فعل الذين من قبلهم. {وَخُضْتُمْ} خروج من الغيبة إلى الخطاب. {كَالَّذِي خاضُوا} أي كخوضهم. فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي وخضتم خوضا كالذين خاضوا. و{الذي} اسم ناقص مثل من، يعبر به عن الواحد والجمع. وقد مضى في البقرة. ويقال: خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا. والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركبانا. وجمعها المخاض والمخاوض أيضا، عن أبي زيد. وأخضت دابتي في الماء. وأخاض القوم، أي خاضت خيلهم. وخضت الغمرات: اقتحمتها. ويقال: خاضه بالسيف، أي حرك سيفه في المضروب. وخوض في نجيعه شدد للمبالغة. والمخوض للشراب كالمجدح للسويق، يقال منه: خضت الشراب. وخاض القوم في الحديث وتخاوضوا أي تفاوضوا فيه، فالمعنى: خضتم في أسباب الدنيا باللهو واللعب.
وقيل: في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتكذيب. {أُولئِكَ حَبِطَتْ} بطلت وقد تقدم. {أَعْمالُهُمْ} حسناتهم. {وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} وقد تقدم أيضا.

.تفسير الآية رقم (70):

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ} أي خبر {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. والألف لمعنى التقرير والتحذير، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل. {قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ} بدل من الذين. {وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ} أي نمرود بن كنعان وقومه. {وَأَصْحابِ مَدْيَنَ} مدين اسم للبلد الذي كان فيه شعيب، أهلكوا بعذاب يوم الظلة. {وَالْمُؤْتَفِكاتِ} قيل: يراد به قوم لوط، لان أرضهم ائتفكت بهم، أي انقلبت، قاله قتادة.
وقيل: المؤتفكات كل من أهلك، كما يقال: انقلبت عليهم الدنيا. {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} يعني جميع الأنبياء.
وقيل: أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم، فعلى هذا رسولهم لوط وحده، ولكنه بعث في كل قرية رسولا، وكانت ثلاث قريات، وقيل أربع. وقوله تعالى في موضع آخر: {والمؤتفكة} [النجم: 53] على طريق الجنس.
وقيل: أراد بالرسل الواحد، كقوله: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ} [المؤمنون: 51] ولم يكن في عصره غيره. قلت- وهذا فيه نظر، للحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين» الحديث. وقد تقدم في البقرة. والمراد جميع الرسل، والله أعلم. قوله تعالى: {فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء. {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف.
وقال في المنافقين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} لان قلوبهم مختلفة ولكن يضم بعضهم إلى بعض في الحكم.
الثانية: قوله تعالى: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال: كل ما ذكر الله في القرآن من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. وقد مضى القول في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة المائدة وآل عمران والحمد لله.
الثالثة: قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} تقدم في أول البقرة القول فيه.
وقال ابن عباس: هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية: والمدح عندي بالنوافل أبلغ، إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض.
الرابعة: قوله تعالى: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ} في الفرائض {وَرَسُولَهُ} فيما سن لهم. والسين في قوله: {سيرحمهم الله} مدخله في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه، وفضله تعالى زعيم بالانجاز.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ} أي بساتين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار. وقد تقدم في البقرة أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود. {خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً} قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام. {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي في دار إقامة. يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه المعدن.
وقال عطاء الخراساني: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن عز وجل.
وقال ابن مسعود: هي بطنان الجنة، أي وسطها.
وقال الحسن: هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل، ونحوه عن الضحاك.
وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. {ورضوان من الله أكبر} أي أكبر من ذلك. {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

.تفسير الآية رقم (73):

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتدخل فيه أمته من بعده. قيل: المراد جاهد بالمؤمنين الكفار.
وقال ابن عباس: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ. وروي عن ابن مسعود أنه قال: جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم.
وقال الحسن: جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان- واختاره قتادة- وكانوا أكثر من يصيب الحدود. ابن العربي: أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لان أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين الثانية: قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الغلظ: نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الامر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها». ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. ومنه قول النسوة لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعنى الغلظ خشونة الجانب. فهي ضد قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}. وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح.

.تفسير الآية رقم (74):

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا} روى أن هذه الآية نزلت في الجلاس ابن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت، وقعوا في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير. فقال له عامر ابن قيس: أجل! والله إن محمدا لصادق مصدق، وإنك لشر من حمار. وأخبر عامر بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن عامرا لكاذب. وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا، فنزلت.
وقيل: إن الذي سمعه عاصم بن عدي. وقيل حذيفة.
وقيل: بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد، فيما قال ابن إسحاق.
وقال غيره: اسمه مصعب. فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره، ففيه نزل: {وهموا بما لم ينالوا}. قال مجاهد: وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك. قال، ذلك هي الإشارة بقوله، {وهموا بما لم ينالوا}.
وقيل: إنها نزلت في عبد الله بن أبي، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فعلا الغفاري الجهني. فقال ابن أبي: يا بني الأوس والخزرج، انصروا أخاكم! فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: {سمن كلبك يأكلك}، ولين رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فجاءه عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله، قاله قتادة. وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين، قاله الحسن. ابن العربي: وهو الصحيح، لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي.
الثانية: قوله تعالى: {وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} قال النقاش: تكذيبهم بما وعد الله من الفتح.
وقيل: {كلمة الكفر} قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير. وقول عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال القشيري: كلمة الكفر سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطعن في الإسلام. {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} أي بعد الحكم بإسلامهم. فدل هذا على أن المنافقين كفار، وفي قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3] دليل قاطع. ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة، وإن كان الايمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والافعال إلا في الصلاة. قال إسحاق ابن راهويه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع، لأنهم بأجمعهم قالوا: من عرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة. ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالايمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل دلك.
الثالثة: قوله تعالى: {وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا} يعني المنافقين من قتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلا. قال حذيفة: سماهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى عدهم كلهم. فقلت: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: «أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم لله بالدبيلة». قيل: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: «شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه». فكان كذلك. خرجه مسلم بمعناه. وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه. وقد تقدم قول مجاهد في هذا.
الرابعة: قوله تعالى: {وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي ليس ينقمون شيئا، كما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

ويقال: نقم ينقم، ونقم ينقم، قال الشاعر في الكسر:
ما نقموا من بني أمية إلا ** أنهم يحلمون إن غضبوا

وقال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ** ليوم الحساب أو يعجل فينقم

ينشد بكسر القاف وفتحها. قال الشعبي: كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستغنوا. ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا. ويقال: إن القتيل كان مولى الجلاس.
وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغنوا بالغنائم. وهذا المثل مشهور اتق شر من أحسنت إليه. قال القشيري أبو نصر: قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه؟ قال نعم، {وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
الخامسة: قوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب. فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الايمان، وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق. وقد اختلف في ذلك العلماء، فقال الشافعي: تقبل توبته.
وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف، لأنه كان يظهر الايمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. وكذلك يفعل الآن في كل حين، يقول: أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر، فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يتغير حاله عما كان عليه. فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته، وهو المراد بالآية. والله أعلم.
السادسة: قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} أي يعرضوا عن الايمان والتوبة {يعذبهم الله عذابا أليما} في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار. {وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ} أي مانع يمنعهم {وَلا نَصِيرٍ} أي معين. وقد تقدم.