فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (46):

{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} {الذين} في موضع خفض على النعت للخاشعين، ويجوز الرفع على القطع. والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} [الحاقة: 20] وقوله: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها} [الكهف: 53]. قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ** سراتهم في الفارسي المسرد

وقال أبو داود:
رب هم فرجته بغريم ** وغيوب كشفتها بظنون

وقد قيل: إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي قال ابن عطية: وهذا تعسف. وزعم الفراء أن الظن قد يقع بمعنى الكذب ولا يعرف ذلك البصريون. واصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه وقد يوقع موقع اليقين كما في هذه الآية وغيرها لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنسانا وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بمعنى كهذه الآية والشعر وكقوله تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها} وقد يجئ اليقين بمعنى الظن وقد تقدم بيانه أول السورة وتقول سؤت به ظنا وأسأت به الظن يدخلون الألف إذا جاءوا بالألف واللام. ومعنى: {مُلاقُوا رَبِّهِمْ} جزاء ربهم.
وقيل: جاء على المفاعلة وهو من واحد، مثل عافاه الله. {وَأَنَّهُمْ} بفتح الهمزة عطف على الأول ويجوز وإنهم بكسرها على القطع. {إِلَيْهِ} أي إلى ربهم وقيل إلى جزائه. {راجِعُونَ} إقرار بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى.

.تفسير الآية رقم (47):

{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)}
قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} تقدم و{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} يريد على عالمي زمانهم، وأهل كل زمان عالم.
وقيل: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أمر معناه الوعيد وقد مضى الكلام في التقوى. {يَوْماً} يريد عذابه وهوله وهو يوم القيامة. وانتصب على المفعول بـ {اتَّقُوا} ويجوز في غير القرآن يوم لا تجزى على الإضافة. وفى الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف. قال البصريون: التقدير يوما لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا ثم حذف فيه كما قال:
يوما شهدناه سليما وعامرا

أي شهدنا فيه وقال الكسائي هذا خطأ لا يجوز حذف فيه ولكن التقدير واتقوا يوما لا تجزيه نفس ثم حذف الهاء وإنما يجوز حذف الهاء لان الظروف عنده لا يجوز حذفها قال لا يجوز أن تقول هذا رجلا قصدت ولا رأيت رجلا أرغب وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه قال ولو جاز ذلك لجاز الذي تكلمت زيد بمعنى تكلمت فيه زيد.
وقال الفراء يجوز أن تحذف الهاء وفيه وحكى المهدوي أن الوجهين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج ومعنى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}: أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئا تقول جزى عني هذا الامر يجزي كما تقول قضى عني واجتزأت بالشيء اجتزاء إذا اكتفيت به قال الشاعر:
فإن الغدر في الأقوام عار ** وأن الحر يجزأ بالكراع

أي يكتفي بها.
وفي حديث عمر: «إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك» يريد إذا صببت الماء على البول في الأرض فجرى عليه طهر المكان ولا حاجة بك إلى غسل ذلك الموضع وتنشيف الماء بخرقة أو غيرها كما يفعل كثير من الناس وفي صحيح الحديث عن أبي بردة بن نيار في الأضحية: «لن تجزي عن أحد بعدك» أي لن تغني فمعنى لا تجزي: لا تقضي ولا تغني ولا تكفي إن لم يكن عليها شيء فإن كان فإنها تجزي وتقضي وتغني بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه». خرجه البخاري. ومثله حديثه الآخر في المفلس وقد ذكرناه في التذكرة خرجه مسلم. وقرئ {تجزئ} بضم التاء والهمز. ويقال: جزى وأجزى بمعنى واحد. وقد فرق بينهما قوم فقالوا جزى بمعنى قضى وكافأ وأجزى بمعنى أغنى وكفى أجزأني الشيء يجزئني أي كفاني قال الشاعر:
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ** ليجزئ إلا كامل وابن كامل

الثالثة- قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} الشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان تقول كان وترا فشفعته شفعا والشفعة منه لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك. والشفيع صاحب الشفعة وصاحب الشفاعة وناقة شافع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها تقول منه: شفعت الناقة شفعا وناقة شفوع وهي التي تجمع بين محلبين في حلبة واحدة. واستشفعته إلى فلان: سألته أن يشفع لي إليه. وتشفعت إليه في فلان فشفعني فيه فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعته للمشفوع.
الرابعة: مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب. والاخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين. وقد تمسك القاضي عليهم في الرد بشيئين أحدهما الاخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى. والثاني الإجماع من السلف على تلقي هذه الاخبار بالقبول ولم يبد من أحد منهم في عصر من الاعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة فإن قالوا قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الاخبار مثل قوله: {ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} [غافر: 18]. قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون. وقال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} [البقرة: 48] قلنا ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الاخبار الواردة في ذلك وأيضا فان الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين {فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} [الأنبياء: 28] وقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]. فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} النفس الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها بدليل الاخبار التي رويناها وبدليل قوله: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48] وقوله: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [يوسف: 87]. فإن قالوا: فقد قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} والفاسق غير مرتضى قلنا لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال: {لِمَنِ ارْتَضى} ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون بدليل قوله: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} [مريم 87]. وقيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما عهد الله مع خلقه قال: «أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئا».
وقال المفسرون: إلا من قال لا إله إلا الله. فإن قالوا المرتضى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدا بالإنابة إليه بدليل أن الملائكة استغفروا لهم وقال: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار. وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا} أي من الشرك {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي سبيل المؤمنين. سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48] فإن قالوا جميع الامة يرغبون في شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلو كانت لأهل الكبائر خاصة بطل سؤالهم. قلنا: إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب ولا قاسم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» الخامسة: قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو {تقبل} بالتاء لان الشفاعة مؤنثة. وقرأ الباقون بالياء على التذكير لأنها بمعنى الشفيع.
وقال الأخفش: حسن التذكير لأنك قد فرقت كما تقدم في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ} [البقرة: 37].
السادسة: قوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ} أي فداء والعدل بفتح العين الفداء وبكسرها المثل يقال عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن والقدر ويقال عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه والعدل بالكسر هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفى جرمه وحكى الطبري: أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي يعانون. والنصر العون والأنصار الأعوان ومنه قوله: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي من يضم نصرته إلى نصرتي وأنتصر الرجل: أنتقم والنصر: الإتيان يقال: نصرت أرض بني فلان أتيتها قال الشاعر:
إذا دخل الشهر الحرام فودعي ** بلاد تميم وانصري أرض عامر

والنصر المطر يقال نصرت الأرض مطرت والنصر العطاء قال:
إني وأسطار سطرن سطرا ** لقائل يا نصر نصرا نصرا

وكان سبب هذه الآية فيما ذكروا أن بني إسرائيل قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل قيه الشفاعات ولا يؤخذ فيه فدية. وإنما خص الشفاعة والفدية والنصر بالذكر لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فان الواقع في الشدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدي.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
فيه ثلاث عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} إذ في موضع نصب عطف على {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ}. وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الأنبياء فيكم والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} [الحاقة: 11] أي حملنا آباءكم وقيل إنما قال: {نَجَّيْناكُمْ} لان نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين ومعنى: {نَجَّيْناكُمْ} ألقيناكم على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمى كل فائز ناجيا. فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرئ {وإذ نجيتكم} على التوحيد.
الثانية: قوله تعالى: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} {آل فرعون} قومه وأتباعه وأهل دينه. وكذلك آل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هو على دينه وملته في عصره وسائر الاعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه خلافا للرافضة حيث قالت إن آل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة والحسن والحسين فقط. دليلنا قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 50] {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} [غافر: 46] أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة. ولأنه لا خوف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} [هود: 46].
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهارا غير سر يقول: «ألا إن آل أبي- يعني فلانا ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين» وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» رواه مسلم وقالت طائفة من أهل العلم الأهل معلوم والآل الاتباع والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صل عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى».
الثالثة: اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا؟ فقال الكسائي إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة. قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة. قال وقد سمعناه في البلدان قالوا: أهل المدينة وآل المدينة.
الرابعة: واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا؟ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله والصواب أن يقال: أهله. وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيد وهو الصواب لان السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبد المطلب:
لاهمّ إن العبد يمن ** ع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصلي ** ب وعابديه اليوم آلك

وقال ندبة:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ** وآلي كما تحمي حقيقة آلكا

الحقيقة بقافين: ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته.
الخامسة: واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت: أهيل.
وقال المهدوي: أصله أول.
وقيل: أهل قلبت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا. وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي.
وحكى غيره أهيل وقد ذكرناه عن النحاس.
وقال أبو الحسن بن كيسان: إذا جمعت ألا قلت آلون فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال.
السادسة: قوله تعالى: {فِرْعَوْنَ} {فرعون} قيل إنه اسم ذلك الملك بعينه. وقيل اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب.
وقال وهب أسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال السهيلي وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون. وكان فارسيا من أهل إصطخر. قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. قال الجوهري: فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفر عن وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر. وفى الحديث: «أخذنا فرعون هذه الامة». {وفرعون} في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته السابعة: قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ} قيل: معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه.
وقال أبو عبيدة: يولونكم يقال: سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا ** أبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل: يديمون تعذيبكم. والسوم: الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي. قال الأخفش: وهو في موضع رفع على الابتداء وإن شئت كان في موضع نصب غلى الحال أي سائمين لكم.
الثامنة: قوله تعالى: {سُوءَ الْعَذابِ} مفعول ثان ل {يَسُومُونَكُمْ} ومعناه أشد العذاب. ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب. وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا. فروى أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب التاسعة: قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ}... {يُذَبِّحُونَ} بغير واو على البدل من قوله: {يَسُومُونَكُمْ} كما قال أنشده سيبويه:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ** تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

قال الفراء وغيره {يُذَبِّحُونَ} بغير واو على التفسير لقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} [البقرة: 49] كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ} [الفرقان: 68- 69] وفي سورة إبراهيم {وَيُذَبِّحُونَ} بالواو لان المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله. والله أعلم.
قلت: قد يحتمل أن يقال: إن الواو زائدة بدليل سورة البقرة والواو قد تزاد كما قال:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي قد انتحى وقال آخر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير العاشرة: قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ} قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير وقرأ ابن محيضن {يذبحون} بفتح الباء. والذبح: الشق. والذبح: المذبوح. والذباح: تشقق في أصول الأصابع وذبحت الدن بزلته أي كشفته وسعد الذابح: أحد السعود. والمذابح: المحاريب. والمذابح: جمع مذبح وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمال وقالت طائفة {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك واستدل هذا القائل بقوله: {نِساءَكُمْ} والأول أصح لأنه الأظهر والله أعلم.
الحادية عشرة: نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله. قال الطبري ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به.
قلت: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته هكذا قال النخعي وقاله الشافعي ومالك في تفصيل لهما قال الشافعي: إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الامام القود كقاتلين معا وإن أكرهه الامام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الامام القود وفى المأمور قولان أحدهما أن عليه القود والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية حكاه ابن المنذر وقال علماؤنا لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر وذلك كالأب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فان كان غير محتلم فالقتل على الآمر وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال ابن نافع: لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان قال ابن حبيب وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ويضرب الآمر ويحبس.
وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا: يقتل السيد. وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما.
وقال علي ويستودع العبد السجن.
وقال أحمد ويحبس العبد ويضرب ويؤدب وقال الثوري يعزر السيد وقال الحكم وحماد يقتل العبد وقال قتادة: يقتلان جميعا.
وقال الشافعي إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة. كذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر وقال زفر لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث حكاه أبو المعالي في البرهان وراي أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود فلذلك لا يقتل واحد منهما عنده والله أعلم الثانية عشرة: قرأ الجمهور {يُذَبِّحُونَ} بالتشديد على المبالغة وقرأ ابن محيصن {يذبحون} بالتخفيف والأولى أرجح إذ الذبح متكرر وكان فرعون على ما روي قد رأى في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه وقيل غير هذا والمعنى متقارب.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَفِي ذلِكُمْ} إشارة إلى جملة الامر إذ هو خبر فهو كمنفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و{بلاء} نعمة ومنه قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال: 17] قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم الإشارة ب {ذلِكُمْ} إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر والمعنى: وفى الذبح مكروه و- امتحان.
وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فجمع بين اللغتين والأكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفى الاختبار ابتليته وبلوته قاله النحاس.