فصل: تفسير الآية رقم (88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (88):

{وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)}
قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ} {آتَيْتَ} أي أعطيت. {زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} أي مال الدنيا، وكان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد والياقوت.
قوله تعالى: {رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} اختلف في هذه اللام، وأصح ما قيل فيها- وهو قول الخليل وسيبويه- أنها لام العاقبة والصيرورة، وفي الخبر: «إن لله تعالى ملكا ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب». أي لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال صار كأنه أعطاهم ليضلوا.
وقيل: هي لام كي أي أعطيتهم لكي يضلوا ويبطروا ويتكبروا.
وقيل: هي لام أجل، أي أعطيتهم لأجل إعراضهم عنك فلم يخافوا أن تعرض عنهم. وزعم قوم أن المعنى: أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا، فحذفت لا كما قال عز وجل: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا». والمعنى: لان لا تضلوا. قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن، إلا أن العرب لا تحذف {لا} إلا مع أن، فموه صاحب هذا الجواب بقوله عز وجل: {أَنْ تَضِلُّوا}.
وقيل: اللام للدعاء، أي ابتلهم بالضلال عن سبيلك، لان بعده: {اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ}.
وقيل: الفعل معنى المصدر أي إضلالهم كقوله عز وجل: {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ}. قرأ الكوفيون: {ليضلوا} بضم الياء من الإضلال، وفتحها الباقون. قوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ} أي عاقبهم عل كفرهم بإهلاك أموالهم. قال الزجاج: طمس الشيء إذهابه عن صورته. قال ابن عباس ومحمد بن كعب: صارت أموالهم ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد.
وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة.
وقال مجاهد وعطية: أهلكها حتى لا ترى، يقال: عين مطموسة، وطمس الموضع إذا عفا ودرس.
وقال ابن زيد: صارت دنانير هم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة. محمد ابن كعب: وكان الرجل منهم يكون مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين، قال: وسألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وإنها لحجارة.
وقال السدي: وكانت إحدى الآيات التسع. {وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ} قال ابن عباس: أي امنعهم الايمان.
وقيل: قسها واطبع عليها حتى لا تنشرح للايمان، والمعنى واحد. {فَلا يُؤْمِنُوا} قيل: هو عطف على قوله: {لِيُضِلُّوا} أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا، قاله الزجاج والمبرد. وعلى هذا لا يكون فيه من معنى الدعاء شي. وقوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ، وَاشْدُدْ} كلام معترض.
وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: هو دعاء، فهو في موضع جزم عندهم، أي اللهم فلا يؤمنوا، أي فلا آمنوا. ومنه قول الأعشى:
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ** ولا تلقني إلا وأنفك راغم

أي لا انبسط. ومن قال: {لِيُضِلُّوا} دعاء- أي ابتلهم بالضلال- قال: عطف عليه {فَلا يُؤْمِنُوا}.
وقيل: هو في موضع نصب لأنه جواب الامر، أي واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا. وهذا قول الأخفش والفراء أيضا، وأنشد الفراء:
يا ناق سيري عنقا فسيحا ** إلى سليمان فنستريحا

فعلى هذا حذفت النون لأنه منصوب. {حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} قال ابن عباس: هو الغرق. وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال: كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم، فالجواب أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن، دليله قوله لنوح عليه السلام: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} وعند ذلك قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً} الآية. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (89):

{قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)}
قوله تعالى: {قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما} قال أبو العالية: دعا موسى وأمن هارون، فسمي هارون وقد أمن على الدعاء داعيا. والتأمين على الدعاء أن يقول آمين، فقولك آمين دعاء، أي يا رب استجب لي.
وقيل: دعا هارون مع موسى أيضا.
وقال أهل المعاني: ربما خاطبت العرب الواحد بخطاب الاثنين، قال الشاعر:
فقلت لصاحبي لا تعجلانا ** بنزع أصوله فاجتز شيحا

وهذا على أن آمين ليس بدعاء، وأن هارون لم يدع. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى عليه السلام {رَبَّنا} ولم يقل رب. وقرأ علي والسلمى {دعواتكما} بالجمع. وقرأ ابن السميقع {أجبت دعوتكما} خبرا عن الله تعالى، ونصب دعوة بعده. وتقدم القول في آمين في آخر الفاتحة مستوفى. وهو مما خص به نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهارون وموسى عليهما السلام. روى أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله قد أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون» ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقد تقدم في الفاتحة. قوله تعالى: {فَاسْتَقِيما} قال الفراء وغيره: أمر بالاستقامة. على أمرهما والثبات عليه من دعاء فرعون وقومه إلى الايمان، إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة. قال محمد بن علي وابن جريج: مكث فرعون وقومه بعد هذه الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا.
وقيل: {فَاسْتَقِيما} أي على الدعاء، والاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستقامة السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدو من الغيب. {وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} بتشديد النون في موضع جزم على النهي، والنون للتوكيد وحركت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين. وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي.
وقيل: هو حال من استقيما، أي استقيما غير متبعين، والمعنى: لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي.

.تفسير الآية رقم (90):

{وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)}
قوله تعالى: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ} تقدم القول فيه في البقرة في قوله: {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ}. وقرأ الحسن {وجوزنا} وهما لغتان. {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} يقال: تبع وأتبع بمعنى واحد، إذا لحقه وأدركه. وأتبع بالتشديد إذا سار خلفه.
وقال الأصمعي: أتبعه بقطع الالف إذا لحقه وأدركه، وأتبعه بوصل الالف إذا أتبع أثره، أدركه أو لم يدركه. وكذلك قال أبو زيد. وقرأ قتادة {فاتبعهم} بوصل الالف.
وقيل: {اتبعه} بوصل الالف في الامر اقتدى به. وأتبعه بقطع الالف خيرا أو شرا، هذا قول أبي عمرو. وقد قيل هما بمعنى واحد. فخرج موسى ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا، وتبعه فرعون مصبحا في ألفي ألف وستمائة ألف. وقد تقدم. {بغيا} نصب على الحال. {وعدوا} معطوف عليه، أي في حال بغي واعتداء وظلم، يقال: عدا يعدو عدوا، مثل غزا يغزو غزوا. وقرأ الحسن {وَعَدْواً} بضم العين والدال وتشديد الواو، مثل علا يعلو علوا.
وقال المفسرون: {بَغْياً} طلبا للاستعلاء بغير حق في القول، {وَعَدْواً} في الفعل، فهما نصب على المفعول له. {حتى إذا أدركه الغرق} أي ناله ووصله. {قال آمنت} أي صدقت. {أنه} أي بأنه. {لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} فلما حذف الخافض تعدى الفعل فنصب. وقرى بالكسر، أي صرت مؤمنا ثم استأنف. وزعم أبو حاتم أن القول محذوف، أي آمنت فقلت إنه، والايمان لا ينفع حينئذ، والتوبة مقبولة قبل رؤية البأس، وأما بعدها وبعد المخالطة فلا تقبل، حسب ما تقدم في النساء بيانه. ويقال: إن فرعون هاب دخول البحر وكان على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبريل على فرس وديق- أي شهي- في صورة هامان وقال له: تقدم، ثم خاض البحر فتبعها حصان فرعون، وميكائيل يسوقهم لا يشذ منهم أحد، فلما صار آخرهم في البحر وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم البحر، وألجم فرعون الغرق فقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، فدس جبريل في فمه حال البحر.
وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لما أغرق الله فرعون قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. حال البحر: الطين الأسود الذي يكون في أرضه، قاله أهل اللغة. وعن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر: «أن جبريل جعل يدس في في فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه». قال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال عون بن عبد الله: بلغني أن جبريل قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ولد إبليس أبغض إلي من فرعون، فإنه لما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ} الآية، فخشيت أن يقولها فيرحم، فأخذت تربة أو طينة فحشوتها في فيه».
وقيل: إنما فعل هذا به عقوبة له على عظيم ما كان يأتي.
وقال كعب الأحبار: أمسك الله نيل مصر عن الجري في زمانه. فقالت له القبط: إن كنت ربنا فأجر لنا الماء، فركب وأمر بجنوده قائدا قائدا وجعلوا يقفون على درجاتهم وقفز حيث لا يرونه ونزل عن دابته ولبس ثيابا له أخرى وسجد وتضرع لله تعالى فأجرى الله له الماء، فأتاه جبريل وهو وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سند له غيره، فكفر نعمه وجحد حقه وادعى السيادة دونه، فكتب فرعون: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريان جزاؤه أن يغرق في البحر، فأخذه جبريل ومر فلما أدركه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه. وقد مضى هذا في البقرة عن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس مسندا، وكان هذا في يوم عاشوراء على ما تقدم بيانه في البقرة أيضا فلا معنى للإعادة.
قوله تعالى: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي من الموحدين المستسلمين بالانقياد والطاعة.

.تفسير الآية رقم (91):

{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)}
قيل: هو من قول الله تعالى.
وقيل: هو من قول جبريل.
وقيل: ميكائيل، صلوات عليهما، أو غيرهما من الملائكة له صلوات الله عليهم.
وقيل: هو من قول فرعون في نفسه، ولم يكن ثم قول اللسان بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال: حيث لم تنفعه الندامة، ونظيره. {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] أثنى عليهم الرب بما في ضميرهم لا أنهم قالوا ذلك بلفظهم، والكلام الحقيقي كلام القلب.

.تفسير الآية رقم (92):

{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)}
قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي نلقيك على نجوة من الأرض. وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا: هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الأرض، أي مكان مرتفع من البحر حتى شاهدوه. قال أوس بن حجر يصف مطرا:
فمن بعقوته كمن بنجوته ** والمستكن كمن يمشي بقرواح

وقرأ اليزيدي وابن السميقع {ننحيك} بالحاء من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود، أي تكون على ناحية من البحر. قال ابن جريج: فرمي به على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل، وكان قصيرا أحمر كأنه ثور. وحكى علقمة عن عبد الله أنه قرأ {بندائك} من النداء. قال أبو بكر الأنباري: وليس بمخالف لهجاء مصحفنا، إذ سبيله أن يكتب بياء وكاف بعد الدال، لان الالف تسقط من ندائك في ترتيب خط المصحف كما سقط من الظلمات والسموات، فإذا وقع بها الحذف استوى هجاء بدنك وندائك، على أن هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامة المسلمين، والقراءة سنة يأخذها آخر عن أول، وفي معناها نقص عن تأويل قراءتنا، إذ ليس فيها للدرع ذكر، الذي تتابعت الآثار بأن بني إسرائيل اختلفوا في غرق فرعون، وسألوا الله تعالى أن يريهم إياه غريقا فألقوه على نجوة من الأرض ببدنه وهو درعه التي يلبسها في الحروب. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي: وكانت درعه من لؤلؤ منظوم.
وقيل: من الذهب وكان يعرف بها.
وقيل: من حديد، قاله أبو صخر: والبدن الدرع القصيرة. وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
وبيضاء كالنهي موضونة ** لها قونس فوق جيب البدن

وأنشد أيضا لعمرو بن معد يكرب:
ومضى نساؤهم بكل مفاضة ** جدلاء سابغة وبالأبدان

وقال كعب بن مالك:
ترى الأبدان فيها مسبغات ** على الابطال واليلب الحصينا

أراد بالأبدان الدروع واليلب الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها إلى بعض، وهو اسم جنس، الواحد يلبة. قال عمرو بن كلثوم:
علينا البيض واليلب اليماني ** وأسياف يقمن وينحنينا

وقيل {بِبَدَنِكَ} بجسد لا روح فيه، قاله مجاهد. قال الأخفش: وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء. قال أبو بكر: لأنهم لما ضرعوا إلى الله يسألونه مشاهدة فرعون غريقا أبرزه لهم فرأوا جسدا لا روح فيه، فلما رأته بنو إسرائيل قالوا نعم! يا موسى هذا فرعون وقد غرق، فخرج الشك من قلوبهم وابتلع البحر فرعون كما كان. فعلى هذا {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} احتمل معنيين: أحدهما- نلقيك على نجوة من الأرض. والثاني- نظهر جسدك الذي لا روح فيه. والقراءة الشاذة {بندائك} يرجع معناها إلى معنى قراءة الجماعة، لان النداء يفسر تفسيرين، أحدهما- نلقيك بصياحك بكلمة التوبة، وقولك بعد أن أغلق بابها ومضى وقت قبولها: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] على موضع رفيع. والآخر- فاليوم نعزلك عن غامض البحر بندائك لما قلت أنا ربكم الأعلى، فكانت تنجيته بالبدن معاقبة من رب العالمين له على ما فرط من كفره الذي منه نداؤه الذي افترى فيه وبهت، وادعى القدرة والامر الذي يعلم أنه كاذب فيه وعاجز عنه وغير مستحق له. قال أبو بكر الأنباري: فقراءتنا تتضمن ما في القراءة الشاذة من المعاني وتزيد عليها. قوله تعالى: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أي لبني إسرائيل ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر. {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ} أي معرضون عن تأمل آياتنا والتفكر فيها. وقرى {لمن خلفك} بفتح اللام، أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك. وقرأ علي بن أبي طالب {لمن خلقك} بالقاف، أي تكون آية لخالقك.