فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (108):

{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)}
قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ} أي القرآن.
وقيل: الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى} أي صدق محمدا وآمن بما جاء به. {فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}
أي لخلاص نفسه. {وَمَنْ ضَلَّ} أي ترك الرسول والقرآن واتبع الأصنام والأوثان. {فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} أي وبال ذلك على نفسه. {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي بحفيظ أحفظ أعمالكم إنما أنا رسول. قال ابن عباس: نسختها آية السيف.

.تفسير الآية رقم (109):

{وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)}
قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ} قيل: نسخ بآية القتال: وقيل: ليس منسوخا، ومعناه اصبر على الطاعة وعن المعصية.
وقال ابن عباس: لما نزلت جمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصار ولم يجمع معهم غيرهم فقال: «إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض». وعن أنس بمثل ذلك، ثم قال أنس: فلم يصبروا فأمرهم بالصبر كما أمره الله تعالى، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن حسان:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ** أمير المؤمنين نثا كلامي

بأنا صابرون ومنظروكم ** إلى يوم التغابن والخصام

{حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} ابتداء وخبر، لأنه عز وجل لا يحكم إلا بالحق.
تمت سورة يونس، والحمد لله وحده.

.سورة هود:

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ} [هود: 114]. وأسند أبو محمد الدارمي في مسنده عن كعب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقرءوا سورة هود يوم الجمعة». وروى الترمذي عن ابن عباس قال قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت! قال: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات و{عَمَّ يَتَساءَلُونَ} و{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}». قال: هذا حديث حسن غريب، وقد روي شي من هذا مرسلا. وأخرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول: حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا محمد بن بشر عن علي بن صالح عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال: قالوا يا رسول الله نراك قد شبت! قال: «شيبتني هود وأخواتها». قال أبو عبد الله: فالفزع يورث الشيب وذلك أن الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع، ومنه يعرق، فإذا انتشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر وابيض، كما ترى الزرع الأخضر بسقاية، فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيض، وإنما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله، وأهوال ما جاء به الخبر عن الله، فتذبل، وينشف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به، فمنه تشيب. وقال الله تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً} [المزمل: 17] فإنما شابوا من الفزع. وأما سورة هود فلما ذكر الأمم، وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى، فأهل اليقين إذا تلوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه ولحظاته البطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع لحق لهم، ولكن الله تبارك وتعالى اسمه يلطف بهم في تلك الأحايين حتى يقرءوا كلامه. وأما أخواتها فما أشبهها من السور، مثل الحاقة [الحاقة: 1] و{سَأَلَ سائِلٌ} [المعارج: 1] و{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]

.تفسير الآيات (1- 4):

{الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}
قوله تعالى: {الر}. تقدم القول فيه. {كِتابٌ} بمعنى هذا كتاب. {أُحْكِمَتْ آياتُهُ} في موضع رفع نعت لكتاب. وأحسن ما قيل في معنى {أُحْكِمَتْ آياتُهُ} قول قتادة، أي جعلت محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل. والإحكام منع القول من الفساد، أي نظمت نظما محكما لا يلحقها تناقض ولا خلل.
وقال ابن عباس: أي لم ينسخها كتاب، بخلاف التوراة والإنجيل. وعلى هذا المعنى، أحكم بعض آياته بأن جعل ناسخا غير منسوخ. وقد تقدم القول فيه.
وقد يقع اسم الجنس على النوع، فيقال: أكلت طعام زيد، أي بعض طعامه.
وقال الحسن وأبو العالية: {أُحْكِمَتْ آياتُهُ} بالأمر والنهي. {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالوعد والوعيد والثواب والعقاب.
وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. مجاهد: أحكمت جملة، ثم بينت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها.
وقيل: جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت في التنزيل.
وقيل: {فصلت} أنزلت نجما نجما لتتدبر. وقرأ عكرمة {فصلت} مخففا أي حكمت بالحق. {مِنْ لَدُنْ} أي من عند. {حَكِيمٍ} أي محكم للأمور. {خَبِيرٍ} بكل كائن وغير كائن. قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} قال الكسائي والفراء: أي بألا، أي أحكمت ثم فصلت بألا تعبدوا إلا الله. قال الزجاج: لئلا، أي أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله. قيل: أمر رسوله أن يقول للناس ألا تعبدوا إلا الله. {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ} أي من الله. {نَذِيرٌ} أي مخوف من عذابه وسطوته لمن عصاه. {وَبَشِيرٌ} بالرضوان والجنة لمن أطاعه.
وقيل: هو من قول الله أولا وآخرا، أي لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير، أي الله نذير لكم من عبادة غيره، كما قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} عطف على الأول. {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة. قال الفراء: {ثُمَّ} هنا بمعنى الواو، أي وتوبوا إليه، لأن الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار.
وقيل: استغفروه من سالف ذنوبكم، وتوبوا إليه من المستأنف متى وقعت منكم. قال بعض الصلحاء: الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. وقد تقدم هذا المعنى في آل عمران مستوفى. وفي البقرة عند قوله: {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة: 231].
وقيل: إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب. ويحتمل أن يكون المعنى استغفروه من الصغائر، وتوبوا إليه من الكبائر. {يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً} هذه ثمرة الاستغفار والتوبة، أي يمتعكم بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم.
وقيل: يمتعكم يعمركم، واصل الإمتاع الإطالة، ومنه أمتع الله بك ومتع.
وقال سهل بن عبد الله: المتاع الحسن ترك الخلق والإقبال على الحق.
وقيل: هو القناعة بالموجود، وترك الحزن على المفقود. {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} قيل: هو الموت.
وقيل: القيامة.
وقيل: دخول الجنة. والمتاع الحسن على هذا وقاية كل مكروه وأمر مخوف، مما يكون في القبر وغيره من أهوال القيامة وكربها، والأول أظهر، لقوله في هذه السورة: {وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] وهذا ينقطع بالموت وهو الأجل المسمى. والله أعلم. قال مقاتل: فأبوا فدعا عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فابتلوا بالقحط سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة والقذر والجيف والكلاب. {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي يؤت كل ذي عمل من الأعمال الصالحات جزاء عمله.
وقيل: ويؤت كل من فضلت حسناته على سيئاته {فَضْلَهُ} أي الجنة، وهي فضل الله، فالكناية في قوله: {فَضْلَهُ} ترجع إلى الله تعالى.
وقال مجاهد: هو ما يحتسبه الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده أو رجله، أو ما تطوع به من ماله فهو فضل الله، يؤتيه ذلك إذا آمن، ولا يتقبله منه إن كان كافرا. {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} أي يوم القيامة، وهو كبير لما فيه من الأهوال.
وقيل: اليوم الكبير هو يوم بدر وغيره: و{تَوَلَّوْا} يجوز أن يكون ماضيا ويكون المعنى: وإن تولوا فقل لهم إنى أخاف عليكم. ويجوز أن يكون مستقبلا حذفت منه إحدى التاءين والمعنى: قل لهم إن تتولوا فإني أخاف عليكم. قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} أي بعد الموت. {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من ثواب وعقاب.

.تفسير الآية رقم (5):

{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)}
قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أخبر عن معاداة المشركين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، ويظنون أنه تخفي على الله أحوالهم. {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يطوونها على عداوة المسلمين ففيه هذا الحذف، قال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة، ويظهرون خلافه. نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنطق، يلقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يجب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء.
وقال مجاهد: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} شكا وامتراء.
وقال الحسن: يثنونها على ما فيها من الكفر.
وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه وغطى وجهه، لكيلا يراه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيدعوه إلى الإيمان، حكي معناه عن عبد الله بن شداد فالهاء في {مِنْهُ} تعود على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: قال المنافقون إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فنزلت الآية.
وقيل: إن قوما من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فبين الله تعالى أن التنسك ما اشتملت قلوبهم قلوبهم من معتقد، وأظهروه من قول وعمل.
وروى ابن جرير عن محمد ابن عباد بن جعفر قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: {ألا أنهم تثنوي صدورهم ليستحفوا منه} قال: كانوا لا يجامعون النساء، ولا يأتون الغائط وهم يفضون إلى السماء، فنزلت هذه الآية.
وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس: {ألا إنهم تثنوي صدورهم} بغير نون بعد الواو، في وزن تنطوي، ومعنى {تثنوي} والقراءتين الأخريين متقارب، لأنها لا تثنوي حتى يثنوها.
وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض يساره في الطعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفي على الله تعالى: {لِيَسْتَخْفُوا} أي ليتواروا عنه، أي عن محمد أو عن الله. {لِيَسْتَخْفُوا} أي ليتواروا عنه، أي عن محمد أو عن الله.
{أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ} أي يغطون رؤسهم بثيابهم. قال قتادة: أخفى ما يكون العبد إذا حنى ظهره، واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه همه.

.تفسير الآية رقم (6):

{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)}
قوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} {ما} نفي و{مِنْ} زائدة و{دَابَّةٍ} في موضع رفع، التقدير: وما دابة. {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} {عَلَى} بمعنى {من}، أي من الله رزقها، يدل عليه قول، مجاهد: كل ما جاءها من رزق فمن الله.
وقيل: {عَلَى اللَّهِ} أي فضلا لا وجوبا.
وقيل: وعدا منه حقا. وقد تقدم بيان هذا المعنى في {النساء} وأنه سبحانه لا يجب عليه شي. {رِزْقُها} رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة، وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص، لأن كثيرا من الدواب هلك قبل أن يرزق.
وقيل: هي عامة في كل دابة: وكل دابة لم ترزق رزقا تعيش به فقد رزقت روحها، ووجه النظم به قبل: أنه سبحانه أخبر برزق الجميع، وأنه لا يغفل عن تربيته، فكيف تخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم؟! والدابة كل حيوان يدب. والرزق حقيقته ما يتغذى به الحي ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده. ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك، لأن البهائم ترزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها، وهكذا الأطفال ترزق اللبن ولا يقال: إن اللبن الذي في الثدي ملك للطفل.
وقال تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] وليس لنا في السماء ملك، ولأن الرزق لو كان ملكا لكان إذا أكل الإنسان من ملك غيره أن يكون قد أكل من رزق غيره، وذلك محال، لأن العبد لا يأكل إلا رزق نفسه. وقد تقدم في البقرة هذا المعنى والحمد لله. وقيل لبعضهم: من أين تأكل؟ وقال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق.
وقيل لأبى أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحانه الله والله أكبر! إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد!. وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله، فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأن ماله إلا السماء! يا هذا الأرض له والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض، وأنشد:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ** ورازق هذا الخلق في العسر واليسر

تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ** وللضب في البيداء والحوت في البحر

وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول بإسناده عن زيد بن أسلم: أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعه يقرأ هذه الآية {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله، فرجع ولم يدخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوعده، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينها مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاءوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقضي به حاجته، فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به، قال: «ما أرسلت إليكم طعاما» فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره ما صنع، وما قال لهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ذلك شيء رزقكموه الله».
قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها} أي من الأرض حيث تأوي إليه. {وَمُسْتَوْدَعَها} أي الموضع الذي تموت فيه فتدفن، قاله مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الربيع بن أنس: {مُسْتَقَرَّها} أيام حياتها. {وَمُسْتَوْدَعَها} حيث تموت وحيث تبعث.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: {مُسْتَقَرَّها} في الرحم {وَمُسْتَوْدَعَها} في الصلب.
وقيل: {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها} في الجنة أو النار. {وَمُسْتَوْدَعَها} في القبر، يدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة واهل النار: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً} [الفرقان: 76] {ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً} [الفرقان: 66]. {كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} أي في اللوح المحفوظ.