فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (50):

{وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ} إذ في موضع نصب و{فرقنا} فلقنا فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي الجبل العظيم. واصل الفرق الفصل ومنه فرق الشعر ومنه الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه: {فَالْفارِقاتِ فَرْقاً} [المرسلات: 4] يعني الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل ومنه: {يَوْمَ الْفُرْقانِ} [الأنفال: 41] يعني يوم بدر كان فيه فرق بين الحق والباطل ومنه: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ} [الإسراء: 106] أي فصلناه وأحكمناه وقرأ الزهري: {فرقنا} بتشديد الراء أي جعلناه فرقا ومعنى: {بِكُمُ} أي لكم فالباء بمعنى اللام وقيل الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه أي صاروا بين الماءين فصار الفرق بهم وهذا أولى يبينه {فَانْفَلَقَ}.
قوله تعالى: {الْبَحْرَ} البحر معروف سمي بذلك لاتساعه. ويقال: فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره. ومن ذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مندوب فرس أبى طلحة: «وإن وجدناه لبحرا» والبحر: الماء الملح. ويقال: أبحر الماء: ملح قال نصيب:
وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني ** إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب

والبحر: البلدة يقال: هذه بحرتنا أي بلدتنا. قاله الأموي. والبحر: السلال يصيب الإنسان. ويقولون: لقيته صحرة بحرة أي بارزا مكشوفا. وفي الخبر عن كعب الأحبار قال: إن لله ملكا يقال له: صندفاييل البحار كلها في نقرة إبهامه. ذكره أبو نعيم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب قوله تعالى: {فَأَنْجَيْناكُمْ} أي أخرجناكم منه يقال نجوت من كذا نجاء ممدود ونجاة مقصور والصدق منجاة وأنجيت غيري ونجيته وقرى بهما {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ}... {فَأَنْجَيْناكُمْ}.
قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ} يقال: غرق في الماء غرقا فهو غرق وغارق أيضا ومنه قول أبي النجم:
من بين مقتول وطاف غارق

وأغرقه غيره وغرقه فهو مغرق وغريق. ولجام مغرق بالفضة أي محلى. والتغريق: القتل قال الأعشى:
ألا ليت قيسا عرقته القوابل

وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ذكرا كان أو أنثى حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة:
إذا غرقت أرباضها ثنى بكرة ** بتيهاء لم تصبح رءوما سلوبها

والارباض: الحبال. والبكرة: الناقة الفتية وثنيها: بطنها الثاني وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.
القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل:
فذكر الطبري أن موسى عليه السلام أوحى إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فأعلم فرعون فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الاتباع مشرقين كما قال تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]. وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه. وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف.
وقيل: إن فرعون اتبعه في ألف ألف حصان سوى الإناث وقيل دخل إسرائيل- وهو يعقوب عليه السلام مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده وولد ولده فأنمي الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيوخ والذرية والنساء وذكر أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت ثم قال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع لي ستمائة ألف من القبط قال: فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له أفرق فقال له البحر: لقد استكبرت يا موسى! وهل فرقت لاحد من ولد آدم فأفرق لك! قال: ومع موسى رجل على حصان له قال فقال له ذلك الرجل أين أمرت يا نبي الله؟ قال ما أمر ت إلا بهذا الوجه قال: فأقحم فرسه فسبح فخرج. فقال أين أمرت يا نبي الله؟ قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال: والله ما كذبت ولا كذبت ثم أقتحم الثانية فسبح به حتى خرج فقال أين أمرت يا نبي الله؟ فقال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال: والله ما كذبت ولا كذبت قال فأوحى الله إليه {أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ} [الأعراف 160] فضربه موسى بعصاه {فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء 63] فكان فيه اثنا عشر فرقا لاثني عشر سبطا لكل سبط طريق يتراءون وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقانا وشبابيك يرى منها بعضهم بعضا فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم ويذكر أن البحر هو بحر القلزم وأن الرجل الذي كان مع موسى على الفرس هو فتاه يوشع بن نون. وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب البحر وكناه أبا خالد. ذكره ابن أبي شيبة أيضا. وقد أكثر المفسرون في قصص هذا المعنى وما ذكرناه كاف وسيأتي في سورة يونس والشعراء زيادة بيان إن شاء الله تعالى فصل ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا اليوم الذي تصومونه» فقالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن أبن عباس وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه: «أنتم أحق بموسى منهم فصوموا».
مسألة في صوم يوم عاشوراء:
ظاهر هذه الأحاديث تدل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبر به اليهود وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه أخرجه البخاري ومسلم.
فإن قيل يحتمل أن تكون قريش إنما صامتة بإخبار اليهود لها لأنهم كانوا يسمعون منهم لأنهم كانوا عندهم أهل علم فصامه النبي عليه السلام كذلك في الجاهلية أي بمكة فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال: «نحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه اتباعا لموسى وأمر بصيامه أي أوجبه وأكد أمره حتى كانوا يصومونه الصغار. قلنا: هذه شبهة من قال إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعله كان متعبدا بشريعة موسى وليس كذلك على ما يأتي بيانه في الأنعام عند قول تعالى: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
مسألة: اختلف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرم أو العاشر؟
فذهب الشافعي إلى أنه التاسع لحديث الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما.
قلت: هكذا كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه؟ قال نعم خرجه مسلم. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وجماعة من السلف إلى أنه العاشر. وذكر الترمذي حديث الحكم ولم يصفه بصحة ولا حسن ثم أردفه: أنبأنا قتيبة أنبأنا عبد الوارث عن يونس عن الحسن عن ابن عباس قال أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصوم عاشوراء يوم العاشر. قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. قال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود. وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. قال غيره وقول ابن عباس للسائل: فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر بل وعد أن يصوم التاسع مضافا إلى العاشر. قالوا: فصيام اليومين جمع بين الأحاديث. وقول ابن عباس للحكم لما قال له: هكذا كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه؟ قال نعم معناه أن لو عاش وإلا فما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صام التاسع قط. يبينه ما خرجه ابن ماجه في سننه ومسلم في صحيحه عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع».
فضيلة:
- روى أبو قتادة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» أخرجه مسلم والترمذي وقال لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال: «صيام يوم عاشوراء كفارة سنة» إلا في حديث أبي قتادة.
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة في موضع الحال ومعناه بأبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة وقد قيل إنهم أخرجوا لهم حتى رأوهم فهذه منة بعد منة وقيل المعنى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي ببصائركم الاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار وقيل المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر كما تقول هذا الامر منك بمرأى ومسمع أي بحال تراه وتسمعه إن شئت. وهذا القول والأول أشبه بأحوال بني إسرائيل لتوالي عدم الاعتبار فيما صدر من بني إسرائيل بعد خروجهم من البحر وذلك أن الله تعالى لما أنجاهم وغرق عدوهم قالوا يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن إن فرعون قد غرق! حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه. ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عباد أن بني إسرائيل قالت: ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا! قال فلما أن سمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل فلما اطمأنوا وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حتى زجرهم موسى وقال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين أي عالمي زمانه. ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون. وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال فقالوا أتريد أن تجعلنا لحمة للجبارين! فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيرا لنا قال: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] إلى قوله: {قاعِدُونَ} حتى دعا عليهم وسماهم فاسقين فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى وبالغمام على ما يأتي بيانه ثم سار موسى إلى طور سيناء ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل- على ما يأتي بيانه- ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس ف ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ على ما يأتي وكان موسى عليه السلام شديد الحياء ستيرا فقالوا: إنه آدر. فلما أغتسل وضع على الحجر ثوبه فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل وموسى على أثره عريان وهو يقول يا حجر ثوبي! فذلك قول تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا} [الأحزاب: 69] على ما يأتي بيانه ثم لما مات هارون قالوا له: أنت قتلت هارون وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه- وسيأتي في المائدة- ثم سألوه أن يعلموا أية في قبول قربانهم فجعلت نار تجئ من السماء فتقبل قربانهم ثم سألوه أن بين لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا فكان من أذنب ذنبا أصبح على بابه مكتوب: «عملت كذا وكفارته قطع عضو من أعضائك» يسميه له ومن أصابه بول لم يطهر حتى يقرضه ويزيل جلدته من بدنه ثم بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضا ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم. فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم. وسيأتي بيان كل فصل من هذه الفصول مستوفى في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال الطبري: وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه السلام بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بني إسرائيل قائم عليهم بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قرأ أبو عمرو {وعدنا} بغير ألف، واختاره أبو عبيد ورجحه وأنكر {واعَدْنا} قال: لان المواعدة إنما تكون من البشر فأما الله عز وجل فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن، كقوله عز وجل: {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} [الفتح: 29] وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ} [الأنفال: 7]. قال مكي: وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى، وليس فيه وعد من موسى، فوجب حمله على الواحد، لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق. قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا {وعدنا} بغير ألف، لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه. قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع. قال مكي: المواعدة أصلها من اثنين، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد. فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا، فتكون القراءتان بمعنى واحد. والاختبار {واعَدْنا} بالألف لأنه بمعنى وعدنا في أحد معنييه، ولأنه لأبد لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة. قال النحاس: وقراءة {واعَدْنا} بالألف أجود وأحسن، وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي، وليس قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} من هذا في شي، لآن {واعَدْنا مُوسى} إنما هو من باب الموافاة، وليس هذا من الوعد والوعيد في شي، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا. والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. قال أبو إسحاق الزجاج: {واعَدْنا} هاهنا بالألف جيد، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله عز وجل وعد، ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة. قال ابن عطية. ورجح أبو عبيدة وعدنا وليس بصحيح، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.
الثانية: قوله تعالى: {مُوسى} موسى اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف. والقبط على- ما يروي- يقولون للماء: مو، وللشجر: شا. فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمى موسى. قال السدي: لما خافت عليه أمه جعلته في التابوت وألقته في اليم- كما أوحى الله إليها- فألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه، فسمي باسم المكان. وذكر النقاش وغيره: أن اسم الذي التقطته صابوث. قال ابن إسحاق: وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث ابن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
الثالثة: قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أربعين نصب على المفعول الثاني، وفي الكلام حذف قال الأخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة كما قال: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} والأربعون كلها داخلة في الميعاد. والأربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأل قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا فيما ذكر المفسرين عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل وقال لهم السامري: هذا إلهكم واله موسى فاطمأنوا إلى قوله ونهاهم هارون وقال: {يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى} [طه: 90]. فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من أستقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا: يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل! فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبة من بقي وجعل من قتل في الشهداء على ما يأتي.
الرابعة: إن قيل لم خص الليالي بالذكر دون الأيام؟ قيل له: لان الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها.
الخامسة: قال النقاش: في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها. قال ابن عطية: سمعت أبي يقول: سمعت الشيخ الزاهد الامام الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول أين حال موسى في القرب من الله! ووصال ثمانين من الدهر من قول حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم {آتِنا غَداءَنا} [الكهف: 62].
قلت: وبهذا أستدل علماء الصوفية على الوصال وأن أفضله أربعون يوما. وسيأتي الكلام في الوصال في أي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى. ويأتي في الأعراف زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخوارة وفي طه إن شاء الله تعالى.
السادسة: قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} أي اتخذتموه إلها من بعد موسى. وأصل اتخذتم ائتخذتم من الأخذ ووزنه افتعلتم سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء إيتخذتم فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفا في ياتخذ وواوا في موتخذ فبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم أجلبت ألف الوصل للنطق وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} [البقرة: 80] فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر:
استحدث الركب عن أشياعهم خبرا ** أم راجع القلب من أطرابه طرب

ونحوه في القرآن {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 78] {أَصْطَفَى الْبَناتِ} [الصافات: 153] {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ} [ص: 75]. ومذهب أبي علي الفارسي أن {اتَّخَذْتُمُ} من تخذلا من أخذ. {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} جملة في موضع الحال. وقد تقدم معنى الظلم. والحمد لله.