فصل: تفسير الآيات (45- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (45- 47):

{وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ} أي دعاه. {فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق، ففي الكلام حذف. {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} يعني الصدق.
وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله: {وَأَهْلَكَ} وترك قوله: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] فلما كان عنده من أهله قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} يدل على ذلك قوله: {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ} أي لا تكن ممن لست منهم، لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} إلا وذلك عنده كذلك إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم، وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الإيمان، فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب، أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت.
وقال الحسن: كان منافقا، ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته، دليله قراءة علي {ونادى نوح ابنها}. {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ} ابتداء وخبر. أي حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق.
الثانية: قوله تعالى: {قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي ليس من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم، قاله سعيد بن جبير.
وقال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك، فهو على حذف مضاف، وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب. {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي {إنه عمل غير صالح} أي من الكفر والتكذيب، واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون {عَمَلٌ} ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف، قاله الزجاج وغيره. قال:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ** فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار. وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد. ويجوز أن تكون الهاء للسؤال، أي إن سؤالك إياي أن أنجيه. عمل غير صالح. قاله قتادة.
وقال الحسن: معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه. وكان لغير رشدة، وقال أيضا مجاهد. قال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه، قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فقال: لم يقل مني، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر، فقلت له: إن الله حكى عنه أنه قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} {وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ} ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه، فقال الحسن: ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب! إنهم يكذبون. وقرأ: {فَخانَتاهُما} [التحريم: 10].
وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنة، وكان ولد على فراشه، وكانت امرأته خانته فيه، ولهذا قال: {فَخانَتاهُما}.
وقال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وأنه كان ابنه لصلبه. وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم، وأنه كان ابنه لصلبه. وقيل لسعيد بن جبير يقول نوح: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أكان من أهله؟ أكان ابنه؟ فسبح الله طويلا ثم قال: لا اله إلا الله! يحدث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ابنه، وتقول إنه ليس ابنه! نعم كان ابنه، ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، وهذا هو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به، وإن قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ليس مما ينفي عنه أنه ابنه. وقوله: {فَخانَتاهُما} [التحريم: 10] يعني في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى؟ قال: إذا فار التنور، فخرجت تقول لقومها: يا قوم والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور، فهذه خيانتها. وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف على ما سيأتي إن شاء الله. والله أعلم.
وقيل: الولد قد يسمى عملا كما يسمى كسبا، كما في الخبر {أولادكم من كسبكم}. ذكره القشيري.
الثالثة: في هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس، فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت، فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله.
وقال تعالى في آية أخرى: {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 75] فسمى جميع من ضمه منزله من أهله.
الرابعة: ودلت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما: أن الولد للفراش، ولذلك قال نوح ما قال آخذا بظاهر الفراش. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: نرى رسول الله صلى عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل ابن نوح عليه السلام، ذكره أبو عمر في كتاب التمهيد.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» يريد الخيبة.
وقيل: الرجم بالحجارة. وقرأ عروة بن الزبير. {ونادى نوح ابنها} يريد ابن امرأته، وهي تفسير القراءة المتقدمة عنه، وعن علي رضي الله عنه، وهي حجة للحسن ومجاهد، إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها لها. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين، أي الآثمين. ومنه قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} [النور: 17] أي يحذركم الله وينهاكم.
وقيل: المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين، ف {قالَ} نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} الآية وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه. {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي} ما فرط من السؤال. {وَتَرْحَمْنِي} أي بالتوبة. {أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ} أي أعمالا. فقال: {يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا}.

.تفسير الآية رقم (48):

{قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)}
قوله تعالى: {قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} أي قالت له الملائكة، أو قال الله تعالى له: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى الأرض، فقد ابتلعت الماء وجفت. {بِسَلامٍ مِنَّا} أي بسلامة وأمن.
وقيل: بتحية. {وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ} أي نعم ثابتة، مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته وإقامته. ومنه البركة لثبوت الماء فيها.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نوح آدم الأصغر، فجميع الخلائق الآن من نسله، ولم يكن معه في السفينة من الرجال والنساء إلا من كان من ذريته، على قول قتادة وغيره، حسب ما تقدم، وفي التنزيل {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} [الصافات: 77]. {وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} قيل: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة. ودخل في قوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ} كل كافر إلى يوم القيامة، روي ذلك عن محمد بن كعب. والتقدير على هذا: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم.
وقيل: {من} للتبعيض، وتكون لبيان الجنس. {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} ارتفع و{أُمَمٍ} على معنى وتكون أمم. قال الأخفش سعيد كما تقول: كلمت زيدا وعمرو جالس. وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما، وتقديره: ونمتع أمما. وأعيدت {عَلى} مع {أُمَمٍ} لأنه معطوف على الكاف من {عَلَيْكَ} وهي ضمير المجرور، ولا يعطف على ضمير المجرور إلا بإعادة الجار على قول سيبويه وغيره. وقد تقدم في النساء بيان هذا مستوفى في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} [النساء: 1] بالخفض. والباء في قوله: {بِسَلامٍ} متعلقة بمحذوف، لأنها في موضع الحال، أي اهبط مسلما عليك. و{مِنَّا} في موضع جر متعلق بمحذوف، لأنه نعت للبركات. {وَعَلى أُمَمٍ} متعلق بما تعلق به {عَلَيْكَ}، لأنه أعيد من أجل المعطوف على الكاف. و{من} في قوله: {مِمَّنْ مَعَكَ} متعلق بمحذوف، لأنه في موضع جر نعت للأمم. و{مَعَكَ} متعلق بفعل محذوف، لأنه صلة {لمن} أي ممن استقر معك، أو آمن معك، أو ركب معك.

.تفسير الآية رقم (49):

{تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}
قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ} أي تلك الأنباء، وفي موضع آخر {ذلِكَ} أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك. {نُوحِيها إِلَيْكَ} أي لتقف عليها. {ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ} أي كانوا غير عارفين بأمر الطوفان، والمجوس الآن ينكرونه. {مِنْ قَبْلِ هذا} خبر أي مجهولة عندك وعند قومك. {فَاصْبِرْ} على مشاق الرسالة وأذائه القوم كما صبر نوح.
وقيل: أراد جهلهم بقصة ابن نوح وإن سمعوا أمر الطوفان فإنه على الجملة. {فَاصْبِرْ} أي اصبر يا محمد على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من أذى العرب الكفار، كما صبر نوح على أذى قومه. {إِنَّ الْعاقِبَةَ} في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز. {لِلْمُتَّقِينَ} عن الشرك والمعاصي.

.تفسير الآيات (50- 60):

{وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}
قوله تعالى: {وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً} أي وأرسلنا، فهو معطوف على {أَرْسَلْنا نُوحاً}. وقيل له أخوهم لأنه منهم، وكانت القبيلة تجمعهم، كما تقول: يا أخا تميم.
وقيل: إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم، وقد تقدم هذا في الأعراف وكانوا عبدة الأوثان.
وقيل: هم عادان، عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم الأولى، وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى: {إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ} [الفجر: 7]. وعاد اسم رجل ثم استمر على قوم انتسبوا إليه. {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} بالخفض على اللفظ، و{غَيْرُهُ} بالرفع على الموضع، و{غَيْرُهُ} بالنصب على الاستثناء. {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} أي ما أنتم في اتخاذكم إلها غيره إلا كاذبون عليه جل وعز. قوله تعالى: {يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} تقدم معناه. والفطرة ابتداء الخلق. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل. قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} تقدم في أول السورة. {يُرْسِلِ السَّماءَ} جزم لأنه جواب وفية معنى المجازاة. {عَلَيْكُمْ مِدْراراً} نصب على الحال، وفية معنى التكثير، أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا، والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب، وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل، وقد جاء هاهنا من فعل، لأنه من درت السماء تدر وتدر فهي مدرار. وكان قوم هود- أعني عادا- أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن كما تقدم في الأعراف. {وَيَزِدْكُمْ} عطف على يرسل. {قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ} قال مجاهد: شدة على شدتكم. الضحاك: خصبا إلى خصبكم. علي بن عيسى: عزا على عزكم. عكرمة: ولدا إلى ولدكم.
وقيل: إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد، فقال لهم هود: إن آمنتم أحيى الله بلادكم ورزقكم المال والولد، فتلك القوة.
وقال الزجاج: المعنى يزدكم قوة في النعم. {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر. قوله تعالى: {قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ} أي حجة واضحة. {وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} إصرارا منهم على الكفر. قوله تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ} أي أصابك. {بَعْضُ آلِهَتِنا} أي أصنامنا. {بِسُوءٍ} أي بجنون لسبك إياها، عن ابن عباس وغيره. يقال: عراه الأمر واعتراه إذا ألم به. ومنه {وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]. {قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} أي على نفسي. {وَاشْهَدُوا} أي وأشهدكم، لا أنهم كانوا أهل شهادة، ولكنه نهاية للتقرير، أي لتعرفوا {أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا} أي من عبادة الأصنام التي تعبدونها. {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أي أنتم وأوثانكم في عداوتي وضرى. {ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} أي لا تؤخرون. وهذا القول مع كثرة الأعداء يدل على كمال الثقة بنصر الله تعالى. وهو من أعلام النبوة، أن يكون الرسول وحده يقول لقومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً}. وكذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقريش.
وقال نوح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ} [يونس: 71] الآية. قوله تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي رضيت بحكمه، ووثقت بنصره. {ما مِنْ دَابَّةٍ} أي نفس تدب على الأرض، وهو في موضع رفع بالابتداء. {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها} أي يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء، أي فلا تصلون إلى ضري. وكل ما فيه روح يقال له داب ودابه، والهاء للمبالغة.
وقال الفراء: مالكها، والقادر عليها.
وقال القتبي: قاهرها، لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته.
وقال الضحاك: يحييها ثم يميتها، والمعنى متقارب. والناصية قصاص الشعر في مقدم الرأس. ونصوت الرجل أنصوه نصوا أي مددت ناصيته. قال ابن جريج: إنما خص الناصية، لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع، فيقولون. ما ناصية فلان إلا بيد فلان، ألا إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه، فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم. وقال، الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قوله تعالى: {ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها} وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقدر نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور أخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير. وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة». ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم، ولذلك ما قوي هود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قال: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها}. وإنما سميت ناصية لأن الأعمال قد نصت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة، ثم وضعت حركات كل من دب على الأرض حيا في جبهته بين عينيه، فسمي ذلك الموضع منه ناصية، لأنها تنص حركات العباد بما قدر، فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها. ووصف ناصية أبي جهل فقال: {ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ} [العلق: 16] يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة، فعلى سبيل ما تأولوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ. والله أعلم. {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال النحاس: الصراط في اللغة المنهاج الواضح، والمعنى أن الله جل ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذهم إلا بالحق.
وقيل: معناه لا خلل في تدبيره، ولا تفاوت في خلقه سبحانه. قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} في موضع جزم، فلذلك حذفت منه النون، والأصل تتولوا، فحذفت التاء لاجتماع تاءين. {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} بمعنى قد بينت لكم. {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه. {وَيَسْتَخْلِفُ} مقطوع مما قبله فلذلك ارتفع، أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله: {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ}. وروي عن حفص عن عاصم {ويستخلف} بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها، مثل: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186]. قوله تعالى: {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} أي بتوليكم وإعراضكم. {إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي لكل شيء حافظ. {عَلى} بمعنى اللام، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا} أي عذابنا بهلاك عاد. {نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} لأن أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى، وإن كانت له أعمال صالحة.
وفي صحيح مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ«لن ينجي أحدا منكم عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه».
وقيل: معنى {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} بأن بينا لهم الهدى الذي هو رحمة. وكانوا أربعة آلاف.
وقيل: ثلاثة آلاف. {وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} أي عذاب يوم القيامة.
وقيل: هو الريح العقيم كما ذكر الله في الذاريات وغيرها وسيأتي. قال القشيري أبو نصر: والعذاب الذي يتوعد به النبي أمته إذا حضر ينجي الله منه النبي والمؤمنين معه، نعم! لا يبعد أن يبتلي الله نبيا وقومه فيعمهم ببلاء فيكون ذلك عقوبة للكافرين، وتمحيصا للمؤمنين إذا لم يكن مما توعدهم النبي به. قوله تعالى: {وَتِلْكَ عادٌ} ابتداء وخبر. وحكى الكسائي أن من العرب من لا يصرف {عادا} فيجعله اسما للقبيلة. {جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} أي كذبوا بالمعجزات وأنكروها. {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} يعني هودا وحده، لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه. ونظيره قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ} [المؤمنون: 51] يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هاهنا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل.
وقيل: عصوا هودا والرسل قبله، وكانوا بحيث لو أرسل إليهم ألف رسول لجحدوا الكل. {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي اتبع سقاطهم رؤساءهم. والجبار المتكبر. والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له. قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند المعارض بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم عاند.
وقال الراجز:
إني كبير لا أطيق العندا

قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً} أي ألحقوها. {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ} أي واتبعوا يوم القيامة مثل ذلك، فالتمام على قوله: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ}. {أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ} قال الفراء: أي كفروا نعمة ربهم، قال: ويقال كفرته وكفرت به، مثل شكرته وشكرت له. {أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله. والبعد الهلاك. والبعد التباعد من الخير. يقال: بعد يبعد بعدا إذا تأخر وتباعد. وبعد يبعد بعدا إذا هلك، قال:
لا يبعدن قومي الذين هم ** سم العداة وآفة الجزر

وقال النابغة:
فلا تبعدن إن المنية منهل ** وكل امرئ يوما به الحال زائل