فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)}
فيها خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِلى ثَمُودَ} أي أرسلنا إلى ثمود {أَخاهُمْ} أي في النسب. {صالِحاً}. وقرأ يحيي بن وثاب {وإلى ثمود} بالتنوين في كل القرآن، وكذلك روي عن الحسن. واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع. وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف، إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال النحاس: الذي قال أبو عبيدة- رحمه الله- من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود، لأن ثمودا يقال له حي، ويقال له قبيلة، وليس الغالب عليه القبيلة، بل الأمر على ضد ما قال عند سيبويه. والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف، نحو قريش وثقيف وما أشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى. والتأنيث جيد بالغ حسن. وأنشد سيبويه في التأنيث:
غلب المساميح الوليد سماحة ** وكفى قريش المعضلات وسادها

الثانية: قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} تقدم. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدم في البقرة والأنعام وهم منه، وقيل: {أنشأكم في الأرض}. ولا يجوز إدغام الهاء من {غَيْرُهُ} في الهاء من {هُوَ} إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج. {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها} أي جعلكم عمارها وسكانها. قال مجاهد: ومعنى {اسْتَعْمَرَكُمْ} أعمركم من قوله: أعمر فلان فلانا داره، فهي له عمرى.
وقال قتادة: أسكنكم فيها، وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل، مثل استجاب بمعنى أجاب.
وقال الضحاك: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف. ابن عباس: أعاشكم فيها. زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار.
وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها.
الثالثة: قال ابن عربي قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب، قال القاضي أبو بكر: تأتى كلمة استفعل في لسان العرب على معان: منها، استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله: استحملته أي طلبت منه حملانا، وبمعنى اعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلا، أو وجدته سهلا، واستعظمته أي اعتقدته عظيما ووجدته، ومنه استفعلت بمعنى أصبت، كقولهم: استجدته أي أصبته جيدا: ومنها بمعنى فعل: كقوله: قر في المكان واستقر، وقالوا وقوله: {يَسْتَهْزِؤُنَ} و{يَسْتَسْخِرُونَ} منه، فقوله تعالى: {اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها} خلقكم لعمارتها، لا معنى استجدته واستسهلته، أي أصبته جيدا وسهلا، وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق، لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازا، ولا يصح ان يقال إنه طلب من الله لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما أنه يصح أن يقال: أنه استدعى عمارتها فأنه جاء بلفظ استفعل، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه أذا كان أمرا، وطلب للفعل أذا كان من الأدنى ألى الأعلى رغبة. قلت: لم يذكر استفعل بمعنى أفعل، مثل قوله: استوقد بمعنى أوقد، وقد ذكرناه، وهى: الرابعة: ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في البقرة في السكنى والرقبى. وأما العمرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدهما- أنها تمليك لمنافع الرقبة حياة المعمر مدة عمره، فإن لم يذكر عقبا فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها أو لورثته، هذا قول القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، واحد أقوال الشافعي، وقد تقدم في البقرة حجة هذا القول.
الثاني أنها تمليك الرقبة ومنافعا وهى هبة مبتولة وهو قول أبى حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن ابن حي وأحمد بن حنبل وابن شبرمة وأبى عبيد، قالوا من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته، وبعد وفاته لورثته، لأنه قد ملك رقبتها، وشرط المعطى الحياة والعمر باطل، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «العمرى جائزة»«والعمرى لمن وهبت له» الثالث- إن قال عمرك وليم يذكر العقب كان كالقول الأول: وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني، وبه قال الزهري وأبو ثور وأبو سلمه بن عبد الرحمن وابن أبى ذئب، وقد روى عن مالك، وهو ظاهر قوله في الموطأ. والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع الى المعمر، إذا انقرض عقب المعمر، إذا كان المعمر حيا، وإلا فإلى من كان حيا من ورثته، وأولى الناس بميراثه. ولا يملك المعمر بلفظ العمرى عند مالك في الحبس أيضا: إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه. وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه، وكذلك العمرى قياسا، وهو ظاهر الموطأ. وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال«أيما رجل أعمر رجل عمرى له ولعقبه فقال قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» وعنه قال: إن العمرى التي أجاز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها، قال معمر: وبذلك كان الزهري يفتي. قلت: معنى القرآن يجرى مع أهل القول الثاني، لأن الله سبحانه قال: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} بمعنى أعمركم، فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن، وبالعكس الرجل الفاجر، فالدنيا ظرف لهما حياة وموتا. وقد يقال: إن الثناء الحسن يجرى مجرى العقب. وفى التنزيل: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} أي ثناء حسنا.
وقيل: هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال: {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} وقال: {وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}.
الخامسة: قوله تعالى: {فَاسْتَغْفِرُوهُ} أي سلوه المغفره من عبادة الأصنام. {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي ارجعوا إلى عبادته. {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} أي قريب الإجابة لمن دعاه. قد مضى في البقرة عند قوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} القول فيه.

.تفسير الآيات (62- 68):

{قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)}
قوله تعالى: {قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا} أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا، أي قبل دعوتك النبوة.
وقيل: كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا: انقطع رجاؤنا منك. {أَتَنْهانا} استفهام معناه الإنكار. {أَنْ نَعْبُدَ} أي عن أن نعبد. {ما يَعْبُدُ آباؤُنا} فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر. {وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ} وفى سورة إبراهيم {وَإِنَّا} والأصل وإننا، فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة. {مِمَّا تَدْعُونا} الخطاب لصالح، وفى سورة إبراهيم {تَدْعُونَنا} لأن الخطاب للرسل صلوات الله وسلامه عليهم {إِلَيْهِ مُرِيبٍ} من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة. قال الهذلي:
كنت إذا أتوته من غيب

يشم عطفي ويبز ثوبي

كأنما أربته بريب

قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً} تقدم معناه في قول نوح. {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} استفهام معنا هـ النفي، أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد. {فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي تضليل وأبعاد من الخير، قاله الفراء.
والتخسير لهم لا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كأنه قال: غير تخسير لكم لا لي.
وقيل: المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم، عن ابن عباس. قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ} ابتداء وخبر. {لَكُمْ آيَةً} نصب على الحال، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في {هذه 11}. وإنما قيل: ناقة الله، لأنه أخرجها من جبل- على ما طلبوا- على أنهم يؤمنون.
وقيل: أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، فلما خرجت الناقة- على ما طلبوا- قال لهم نبى الله صالح: {هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}. {فَذَرُوها تَأْكُل} أمر وجوابه، وحذفت النون من {فَذَرُوها}. لأنه أمر. ولا يقال: وذر ولا وأذر إلا شاذا. وللنحويين فيه قولان، قال سيبويه: استغنوا عنه بترك.
وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه، قال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز رفع {تَأْكُلْ} على الحال والاستئناف. {وَلا تَمَسُّوها} جزم بالنهي. {بِسُوءٍ} قال الفراء: بعقر. {فَيَأْخُذَكُمْ} جواب النهى. {عَذابٌ قَرِيبٌ} أي قريب من عقرها. قوله تعالى: {فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {فَعَقَرُوها} إنما عقرها بعضهم، وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين. وقد تقدم الكلام في عقرها في الأعراف. ويأتي أيضا. {فَقالَ تَمَتَّعُوا} أي قال لهم صالح تمتعوا، أي بنعم الله عز وجل قبل العذاب. {فِي دارِكُمْ} أي في بلدكم، ولو أراد المنزل لقال في دوركم.
وقيل: أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه، كقوله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي كل واحد طفلا. وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميت لا يتلذذ ولا يتمتع بشيء، فعقرت يوم الأربعاء، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد. وإنما أقاموا ثلاثة أيام، لأن الفصيل رغا ثلاثا على ما تقدم في الأعراف فاصفرت ألوانهم في اليوم الأول، ثم احمرت في اليوم الثاني، ثم اسودت في اليوم الثالث، وهلكوا في الرابع، وقد تقدم في الأعراف.
الثانية: استدل علماؤنا بإرجاء العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يجمع على إقامة أربع ليال قصر، لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة. وقد تقدم في النساء ما للعلماء في هذا. قوله تعالى: {ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي غير كذب.
وقيل: غير مكذوب فيه. قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا} أي عذابنا. {نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} تقدم. {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي ونجيناهم من خزي يومئذ، أي من فضيحته وذلته. وقيل الواو زائدة، أي نجيناهم من خزي يومئذ. ولا يجوز زيادتها عند سيبويه واهل البصرة، وعند الكوفيين يجوز زيادتها مع {لما} {وحتى} لا غير. وقرأ نافع والكسائي {يومئذ} بالنصب. الباقون بالكسر على إضافة {يوم} إلى {إذ}.
وقال أبو حاتم: حدثنا أبو زيد عن أبى عمر أنه قرأ {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أدغم الياء في الياء، وأضاف، وكسر الميم في {يَوْمِئِذٍ}. قال النحاس: الذي يرويه النحويون- مثل سيبويه ومن قاربه عن أبى عمرو في مثل هذا- الإخفاء، فأما الإدغام فلا يجوز، لأنه يلتقي ساكنان، ولا يجوز كسر الزاي. قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا، وذكر لأن الصيحة والصياح واحد. قيل: صيحة جبريل.
وقيل: صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا.
وقال هنا: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وقال في الأعراف {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وقد تقدم بيانه هناك وفى التفسير: أنهم لما أيقنوا بالعذاب قال بعضهم لبعض ما مقامكم أن يأتيكم الأمر بغتة؟! قالوا: فما نصنع؟ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم، وكانوا فيما يقال اثنى عشر ألف قبيلة، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل، فوقفوا على الطرق والفجاج، زعموا يلاقون العذاب، فأوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها، فأدناها من رؤوسهم فاشتوت أيديهم، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش، ومات كل ما كان معهم من البهائم. وجعل الماء يتفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء، لا يسقط على شيء إلا أهلكه من شده حره، فما زالوا كذلك، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم إلى أن غربت الشمس، فصيح بهم فأهلكوا. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} أي ساقطين على وجوههم، قد لصقوا بالتراب كالطير إذ جثمت. {أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} تقدم معناه.

.تفسير الآيات (69- 71):

{وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى} هذه قصة لوط عليه السلام، وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لحا، وكانت قرى لوط بنواحي الشام، وإبراهى م ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط ومروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم، فظنهم أضيافا. وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليم السلام، قاله ابن عباس. الضحاك: كانوا تسعة. السدى: أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه، ذوو وضاءة وجمال بارع. {بِالْبُشْرى} قيل: بالولد.
وقيل: بإهلاك قوم لوط.
وقيل: بشروه بأنهم رسل الله عز وجل، وأنه لا خوف عليه. {قالُوا سَلاماً} نصب بوقوع الفعل عليه، كما تقول: قالوا خيرا. وهذا اختيار الطبري. وأما قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} فالثلاثة اسم غير قول مقول. ولو رفعا جميعا أو نصبا جميعا {قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ} جاز في العربية.
وقيل: انتصب على المصدر.
وقيل: {قالُوا سَلاماً} أي فاتحوه بصواب من القول، كما قال: {وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} أي صو أبا، فسلاما معنى قولهم لا لفظه، قال معناه ابن العربي واختاره. قال ألا ترى أن الله تعالى لما أراد ذكر اللفظ قاله بعينه فقال مخبرا عن الملائكة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ} {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ}. وقيل دعوا له، والمعنى سلمت سلاما. {قالَ سَلامٌ} في رفعه وجهان: أحدهما- على إضمار مبتدأ أي هو سلام، وأمري سلام. والآخر بمعنى سلام عليكم إذا جعل بمعنى التحية، فأضمر الخبر. وجاز سلام على التنكير لكثرة استعماله، فحذف الألف والام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم. وقرى {سلم} قال الفراء: السلم والسلام بمعنى، مثل الحل والحلال. قوله تعالى: {فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} فيه أربع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ} {أَنْ} بمعنى حتى، قاله كبراء النحويين، حكاه ابن العربي. التقدير: فما لبث حتى جاء.
وقيل: {أَنْ} في موضع نصب بسقوط حرف الجر، التقدير: فما لبث عن أن جاء، أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل، فلما حذف حرف الجر بقي {أَنْ} في محل النصب. وفى {لَبِثَ} ضمير اسم إبراهيم. و{سَلاماً} نافيه، قاله سيبويه.
وقال الفراء: فما لبث مجيئه، أي ما أبطأ مجيئه، فإن في موضع رفع، ولا ضمير في {لَبِثَ} و{سَلاماً} نافية، ويصح أن تكون {سَلاماً} بمعنى الذي، وفي {لَبِثَ} ضمير إبراهيم و{أَنْ جاءَ} خبر {سَلاماً} أي فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ. و{حَنِيذٍ} مشوي. وقيل هو المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار. يقال حنذت الشاة أحنذها حنذا أي اشويها، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ. وحنذت الفرس أحنذه حنذا، وهو أن تحضره شوطا أو شوطين ثم تظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق، فهو محنوذ وحنيذ. فإن لم يعرق قيل: كبا. وحنذ موضع قريب من المدينة.
وقيل: الحنيذ السميط. ابن عباس وغيره: حنيذ نضيج. وحنيذ بمعنى محنوذ، وأنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أمواله.
الثانية: في هذه الآية من أدب الضيف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في البقرة وليست بواجبة عند عامة أهل العلم لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة». والجائزة العطية والصلة التي أصلها على الندب.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه». وإكرام الجار ليس بواجب إجماعا، فالضيافه مثله. والله أعلم. وذهب الليث إلى وجوبها تمسكا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ليله الضيف حق» إلى غير ذلك من الأحاديث. وفيما أشرنا إليه كفاية، والله الموفق للهداية. قال ابن العربي: وقد قال قوم: إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهذا ضعيف، فأن الوجوب لم يثبت، والناسخ لم يرد وذكر حديث أبى سعيد الخدري خرجه الأئمة، وفيه: «فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا فلدغ سيد ذلك الحي» الحديث. وقال: هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقا للأم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القوم الذين أبوا، ولبين لهم ذلك.
الثالثة: اختلف العلماء فيمن يخاطب بها، فذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية.
وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر حكى اللغتين صاحب العين وغيره. واحتجوا بحديث ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر». وهذا حديث لا يصح، وإبراهيم ابن أخى عبد الرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب، وهذا مما انفرد به، ونسب إلى وضعه، قاله أبو عمر بن عبد البر. قال ابن العربي: الضيافة حقيقة فرض على الكفاية، ومن الناس من قال: إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات، ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة، فإن كان غريبا فهي فريضة.
الرابعة: قال ابن العربي قال بعض علمائنا: كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل، من أبن علم أنه قليل؟! بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة، جبريل وميكائيل وإسرافيل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعجل لثلاثة عظيم، فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأى؟! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه.
الخامسة: السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدم إليه بالأكل، فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم، وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول، فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم، لأنهم خرجوا عن العادة، وخالفوا السنة، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه.
وروى أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم. {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي أضمر.
وقيل: أحس، والوجوس الدخول، قال الشاعر:
جاء البريد بقرطاس يخب به ** فأوجس القلب من قرطاسه جزعا

{خِيفَةً} خوفا، أي فزعا. وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا، فقالت الملائكة {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ}.
السادسة: من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر. روى أن أعرابيا أكل مع سليمان ابن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الإعرابي شعرة فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك، فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي؟! والله لا أكلت معك. قلت وقد ذكر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبد الملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عنده وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل ** يلاحظ أطراف الأكيل على عمد

السابعة: قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} يقول: أنكرهم، تقول: نكرتك وأنكرتك واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته، قال الشاعر:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ** من الحوادث إلا الشيب والصلعا

فجمع بين اللغتين. ويقال: نكرت لما تراه بعينك. وأنكرت لما تراه بقلبك.
الثامنة: قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ} ابتداء وخبر، أي قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل: كانت من وراء الستر. وقيل كانت تخدم الملائكة وهو جالس.
وقال محمد ابن اسحق: قائمة تصلى.
وفي قراءة عبد الله بن مسعود {وامرأته قائمة وهو قاعد}.
التاسعة قوله تعالى: {فَضَحِكَتْ} قال مجاهد وعكرمة: حاضت، وكانت آيسة، تحقيقا للبشارة، وأنشد على ذلك اللغويون:
وإني لآتي العرس عند طهورها ** وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا

وقال آخر:
وضحك الأرانب فوق الصفا ** كمثل دم الجوف يوم اللقا

والعرب تقول: ضحكت الأرنب إذا حاضت، وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة، أخذ من قولهم: ضحكت الكافورة- وهى قشرة الطلعة- إذا انشقت. وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت.
وقال الجمهور: هو الضحك المعروف، واختلفوا فيه، فقيل: هو ضحك التعجب، قال أبو ذؤيب:
فجاء بمزج لم يرى الناس مثله ** هو الضحك إلا أنه عمل النحل

وقال مقاتل: ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه، وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم. وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك، قال الفراء: لم أسمعه من ثقة، وإنما هو كناية.
وروى أن الملائكة مسحت العجل، فقام من موضعه فلحق بأمه، فضحكت سارة عند ذلك فبشروها بإسحاق. ويقال: كان إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة تخدمهم، فذلك قوله: {وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ} أي قائمة في خدمتهم. ويقال: {قائِمَةٌ} لروع إبراهيم {فَضَحِكَتْ} لقولهم: {لا تَخَفْ} سرورا بالأمن.
وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، المعنى: فبشرناها بإسحاق فضحكت، أي ضحكت سرورا بالولد، وقد هرمت، والله أعلم أي ذلك كان. قال النحاس فيه أقوال: أحسنها- أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم، فلما قالوا لا تخف، وأخبروه أنهم رسل الله، فرح بذلك، فضحكت امرأته سرورا بفرحة.
وقيل: أنها كانت قالت له: أحسب أن هؤلاء القوم سينزل بهم عذاب فضم لوطا إليك، فلما جاءت الرسل بما قالته سرت به فضحكت، قال النحاس: وهذا إن صح إسناده فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه، تقول رأيت فلانا ضاحكا، أي مشرقا. وأتيت على روضة تضحك، أي مشرقة، وفى الحديث«إن الله سبحانه يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك». جعل انجلاءه عن البرق ضحكا، وهذا كلام مستعار.
وروى عن رجل من قراء مكة يقال له محمد بن زياد الأعرابي. {ضحكت} بفتح الحاء، قال المهدوي: وفتح الحاء من {فضحكت} غير معروف. وضحك يضحك ضحكا وضحكا وضحكا وضحكا أربع لغات. والضحكة المرة الواحدة، ومنه قول كثير:
غلقت لضحكته رقاب المال

قاله الجوهري:
العاشرة: روى مسلم عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عرسه، فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهى العروس. قال سهل: أتدرون ما سقت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور، فلما أكل سقته إياه. وأخرجه البخاري وترجم له باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس. قال علماؤنا: فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها. وفية أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه، ويستخدمهن لهم. ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب والله أعلم الحادية عشرة: ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا: لا نأكل طعاما إلا بثمن، فقال لهم: ثمنه أن تذكروا الله في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا. قال علماؤنا: ولم يأكلوا لأن الملائكة لا تأكل. وقد كان من الجائز كما يسر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمي جسدا وهيئة أن ييسر لهم أكل الطعام، إلا أنه في قول العلماء أرسلهم في صفة الآدمي وتكلف إبراهيم عليه السلام الضيافة حتى إذا رأى التوقف وخاف جاءته البشرى فجأة الثانية عشرة: ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا، وقد جاء في الإسرائيليات أن إبراهيم كان لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه، فلقى يوما رجلا، فلما جلس معه على الطعام، قال له إبراهيم: سم الله، قال الرجل لا أدرى ما الله؟ فقال له: فاخرج عن طعامي، فلما خرج نزل إليه جبريل فقال له: يقول الله إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم فزعا يجر رداءه، وقال: ارجع، فقال: لا أرجع حتى تخبرني لم تردني لغير معنى؟ فأخبره بالأمر، فقال هذا رب كريم، آمنت، ودخل وسمي الله واكل مؤمنا الثالثة عشرة: قوله تعالى: {فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ} لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبيا ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} قرأ حمزة وعبد الله بن عامر {يَعْقُوبَ} بالنصب. ورفع الباقون، فالرفع على معنى: ويحدث لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالفعل الذي يعمل في {مِنْ} كأن المعنى: وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالابتداء، ويكون في موضع الحال، أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب. والنصب على معنى: ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب. وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون {يَعْقُوبَ} في موضع جر على معنى: وبشرناها من وراء إسحاق يعقوب. قال الفراء: ولا يجوز الخفض إلا بإعادة الحرف الخافض، قال سيبويه ولو قلت: مررت بزيد أول من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا، لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو، كما تفرق بين الجار والمجرور، لأن الجار لا يفصل بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو.