فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (4):

{إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)}
قوله تعالى: {إِذْ قالَ يُوسُفُ} {إِذْ} في موضع نصب على الظرف، أي اذكر لهم حين قال يوسف. وقراءة العامة بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف {يؤسف} بالهمز وكسر السين. وحكى أبو زيد: {يؤسف} بالهمزة وفتح السين. ولم ينصرف لأنه أعجمي، وقيل: هو عربي. وسيل أبو الحسن الأقطع- وكان حكيما- عن {يوسف} فقال: الأسف في اللغة الحزن، والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف، فلذلك سمي يوسف. {لِأَبِيهِ يا أَبَتِ} بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال: رجل نكحة وهزأة، قال النحاس: إذا قلت {يا أَبَتِ} بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة، ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء، وله على قوله دلائل: منها- أن قولك: {يا أبه} يؤدي عن معنى {يا أبي}، وأنه لا يقال: {يا أبت} إلا في المعرفة، ولا يقال: جاءني أبت، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة، ولا يقال: {يا أبتي} لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما. وزعم الفراء أنه إذا قال: {يا أَبَتِ} فكسر دل على الياء لا غير، لأن الياء في النية. وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون الياء في النية وليس يقال: {يا أبتي}؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبد الله بن عامر {يا أبت} بفتح التاء، قال البصريون: أرادوا {يا أبتي} بالياء، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت {يا أبتا} فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء.
وقيل: الأصل الكسر، ثم أبدل من الكسرة فتحة، كما يبدل من الياء ألف فيقال: يا غلاما أقبل. وأجاز الفراء {يا أبت} بضم التاء. {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال: جاءني أحد عشر، ورأيت ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما، جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات. قال السهيلي: أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا، رواه الحارث بن أبي أسامة قال: جاء بستانه- وهو رجل من أهل الكتاب- فسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال: «الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان، رآها يوسف عليه السلام تسجد له». قال ابن عباس وقتادة: الكواكب إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه.
وقال قتادة أيضا: الشمس خالته، لأن أمه كانت قد ماتت، وكانت خالته تحت أبيه. {رَأَيْتُهُمْ} توكيد. وقال: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} فجاء مذكرا، فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة السجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنهما كما يخبر عمن يعقل. وقد تقدم هذا المعنى في قوله: {وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ}. والعرب تجمع مالا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزله، وإن كان خارجا عن الأصل.

.تفسير الآية رقم (5):

{قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)}
وفيه إحدى عشرة مسألة: الأولى قوله تعالى: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} أي يحتالون في هلاكك، لأن تأويلها ظاهر، فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ. واللام في {لَكَ} تأكيد، كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ}.
الثانية: الرؤيا حالة شريفة، ومنزلة رفيعة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له». وقال: «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا». وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وروى«من سبعين جزءا من النبوة».
وروى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما«جزءا من أربعين جزءا من النبوة».
ومن حديث ابن عمر«جزء من تسعة وأربعين جزءا».
ومن حديث العباس«جزء من خمسين جزءا من النبوة».
ومن حديث أنس«من ستة وعشرين» وعن عبادة بن الصامت«من أربعة وأربعين من النبوة». والصحيح منها حديث الستة والأربعين، ويتلوه في الصحة حديث السبعين، ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ، قاله ابن بطال. قال أبو عبد الله المازري: والأكثر والأصح عند أهل الحديث«من ستة وأربعين». قال الطبري: والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول، فأما قوله: «إنها جزء من سبعين جزءا من النبوة» فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة، ولكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان، وأما قوله: «إنها من أربعين- أوستة وأربعين» فإنه يريد بذلك من كان صاحبها بالحال التي ذكرت عن الصديق- رضي الله عنه- أنه كان بها، فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات، والصبر في الله على المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فرؤياه صالحة- إن شاء الله- جزء من أربعين جزءا من النبوة، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزءين، ما بين الأربعين إلى الستين، ولا تنقص عن سبعين، وتزيد على الأربعين، وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر ابن عبد البر فقال: اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلاف متضاد متدافع- والله أعلم- لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين، فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفناه تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد، فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه، كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب: كما أن الأنبياء يتفاضلون، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ}. قلت: فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون البعض وطرحه، ذكره أبو سعيد الأسفاقسى عن بعض أهل العلم قال: معنى قوله: «جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النبوة ثلاثة وعشرين عاما- فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما- فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا، وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه المعلم واختاره القونوى في تفسيره من سورة يونس عند قوله تعالى: {هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}. وهو فاسد من وجهين:
أحدهما- ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحى كانت عشرين سنة، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشر سنين، وهو قول عروة والشعبي وابن شهاب والحسن وعطاء والخراساني وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه، وهى رواية ربيعة وأبى غالب عن أنس، وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك التأويل- الثاني: أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى.
الثالثة: إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة، لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب، كما قال عليه السلام: «إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم» الحديث. وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان» وأن التصديق بها حق، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه، ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأى والأثر، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشر ذمة من المعتزلة.
الرابعة: إن قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحه صادقة، كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن، ورؤيا بخت نصر، التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنام عاتكة، عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمره وهى كافرة، وقد ترجم البخاري باب رؤيا أهل السجن- فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحى ولا من النبوة، إذ ليس كل من صدق في حديثه عن غيب يكون خبره ذلك نبوة، وقد تقدم في الأنعام أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء، قال المهلب: إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة.
الخامسة: الرؤيا المضافة إلى الله تعالى التي خلصت من الأضغاث والأوهام، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ، والتي هي من خبر الأضغاث هي الحلم، وهى المضافة إلى الشيطان، وإنما سميت ضغثا، لأن فيها أشياء متضادة، قال معناه المهلب. وقد قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرؤيا أقساما تغنى عن قول كل قائل، روى عوف ابن مالك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة». قال قلت: سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال نعم! سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السادسة: قوله تعالى: {قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ} الآية. الرؤيا مصدر رأى في المنام، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى، والفة للتأنيث ولذلك لم ينصرف. وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا، فقيل: هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة، كالنوم المستغرق وغيره، ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم، فيخلق الله تعالى للرائي علما ناشئا، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح الإدراك، قال ابن العربي: ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، ولذلك لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال، وإنما يرى الجائزات المعتادات. وقيل إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورا محسوسة، فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفى الحالتين تكون مشرة أو منذرة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح مسلم وغيره: «رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى».
و«رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتها رجل من أهل بيتي يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون». و«رأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة». و«رأيت في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي». إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال، ومنها ما يظهر معناه أولا فأول، ومنها ما لا يظهر الأبعد التفكر، وقد رأى النائم في زمن يوسف عليه السلام بقرا فأولها يوسف السنين، وراي أحد عشر كوكبا فأولها بإخوته وأبويه.
السابعة: إن قيل: إن يوسف عليه السلام كان صغيرا حين رؤياه، والصغير لأحكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ}؟ فالجواب- أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام، وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض، ورى أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة.
الثامنة: هذه الآية أصل في ألا نقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها، روى أبو رزين العقيلي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة». و«الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا» أخرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح، وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر. وقيل لمالك: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت، قيل: فهل يعبرها على الخير وهى عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه؟ فقال: لا! ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.
التاسعة: وفى هذه الآية دليل على أن مباحا أن يحذر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة، لأن يعقوب- عليه السلام- قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له، وفيها ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذى نعمة محسود». وفيها دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا، فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم، ولم يبال بذلك من نفسه، فإن الرجل يود أن يكون ولده خير منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه. ويدل أيضا على أن يعقوب عليه السلام كان أحس من بنيه حسد يوسف وبغضه، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوفا أن تغل بذلك صدورهم، فيعملوا الحيلة في هلاكه، ومن هذا ومن فعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء في ذلك الوقت، ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء، وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي، وعن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، والتآمر في قتله، ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبى، إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعا من الكبائر، وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها، وإنما اختلفوا في الصغائر على ما تقدم ويأتي.
العاشرة: روى البخاري عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة» وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك، فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقا به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه، فإن أدرك تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك، وقد تقدم في يونس في تفسير قوله تعالى: {لهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} [يونس: 64] أنها الرؤيا الصالحة. وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب، والله أعلم.
الحادية عشر- روى البخاري عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره». قال علماؤنا: فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها، ألا ترى قول أبي قتادة: إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئا. وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه».
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل». قال علماؤنا: وهذا كله ليس بمتعارض، وإنما هذا الأمر بالتحول، والصلاة زيادة، فعلى الرائي أن يفعل الجميع، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع، لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور، لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه، وإذا تمضمض تفل وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة، وذلك السحر من الليل.