فصل: تفسير الآيات (52- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (52- 53):

{ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}
قوله تعالى: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} اختلف فيمن قاله، فقيل: هو من قول امرأة العزيز، وهو متصل بقولها: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي أقررت بالصدق ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي بالكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وحدت عن الخيانة، ثم قالت: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} بل أنا راودته، وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع، ولهذا قالت: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وقيل: هو من قول يوسف، أي قال يوسف: ذلك الأمر الذي فعلته، من رد الرسول {لِيَعْلَمَ} العزيز {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قاله الحسن وقتادة وغيرهما. ومعنى {بِالْغَيْبِ} وهو غائب. وإنما قال يوسف ذلك بحضرة الملك، وقال: {لِيَعْلَمَ} على الغائب توقيرا للملك.
وقيل: قاله إذ عاد إليه الرسول وهو في السجن بعد، قال ابن عباس: جاء الرسول إلى يوسف عليه السلام بالخبر وجبريل معه يحدثه، فقال يوسف: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ} أي لم أخن سيدي بالغيب، فقال له جبريل عليه السلام: يا يوسف! ولا حين حللت الإزار، وجلست مجلس الرجل من المرأة؟! فقال يوسف: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} الآية.
وقال السدي: إنما قالت له امرأة العزيز ولا حين حللت سراويلك يا يوسف؟! فقال يوسف: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي}.
وقيل: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ} من قول العزيز، أي ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، وأني لم أغفل عن مجازاته على أمانته. {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ} معناه: أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم. قوله تعالى: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} قيل: هو من قول المرأة.
وقال القشيري: فالظاهر أن قوله: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ} وقوله: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} من قول يوسف. قلت: إذا أحتمل أن يكون من قول المرأة فالقول به أولى حتى نبرئ يوسف من حل الإزار والسراويل، وإذا قدرناه من قول يوسف فيكون مما خطر بقلبه، على ما قدمناه من القول المختار في قوله: {وَهَمَّ بِها}. قال أبو بكر الأنباري: من الناس من يقول: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} من كلام امرأة العزيز، لأنه متصل بقولها: {أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] وهذا مذهب الذين ينفون الهم عن يوسف عليه السلام، فمن بنى على قولهم قال: من قوله: {قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف: 51] إلى قوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} كلام متصل بعضه ببعض، ولا يكون فيه وقف تام على حقيقة، ولسنا نختار هذا القول ولا نذهب إليه.
وقال الحسن: لما قال يوسف {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} لأن تزكية النفس مذمومة، قال الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] وقد بيناه في النساء.
وقيل: هو من قول العزيز، أي وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف. {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} أي مشتهية له. {إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي} في موضع نصب بالاستثناء، و{ما} بمعنى من، أي إلا من رحم ربي فعصمه، و{ما} بمعنى من كثير، قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 3] وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء، وفي الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما تقولون في صاحب لكم إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شر غاية وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية» قالوا: يا رسول الله! هذا شر صاحب في الأرض. قال: «فوالذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم».

.تفسير الآية رقم (54):

{وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}
قوله تعالى: {وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وجلده عظمت منزلته عنده، وتيقن حسن خلاله قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} فانظر إلى قول الملك أولا- حين تحقق علمه- {ائْتُونِي بِهِ} فقط، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيا قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} وروي عن وهب بن منبه قال: لما دعي يوسف وقف بالباب فقال: حسبي ربي من خلقه، عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره. ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخر له ساجدا، ثم أقعده الملك معه على سريره فقال. {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ} قال له يوسف {اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ} [يوسف: 55] للخزائن {عَلِيمٌ} بوجوه تصرفاتها.
وقيل: حافظ للحساب، عليم بالألسن.
وفي الخبر: «يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك سنة».
وقيل: إنما تأخر تمليكه إلى سنة لأنه لم يقل إن شاء الله. وقد قيل في هذه القصة: إن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك من شره وشر غيره، ثم سلم على الملك بالعربية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلما تكلم الملك بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأعجب الملك أمره، وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، ثم أجلسه على سريره وقال: أحب أن أسمع منك رؤياي، قال يوسف نعم أيها الملك! رأيت سبع بقرات سمان شهبا غرا حسانا، كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافها لبنا، فبينا أنت تنظر إليهن وتتعجب من حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه، وبدا أسه، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف،، لهن أنياب وأضراس، واكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهن افتراس السباع، فأكلن لحومهن، ومزقن جلودهن، وحطمن عظامهن، ومشمشن مخهن، فبينا أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل! ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن! إذا بسبع سنابل خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا وماء، وإلى جانبهن سبع يابسات ليس فيهن ماء ولا خضرة في منبت واحد، عروقهن في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك: أي شيء هذا؟! هؤلاء خضر مثمرات، وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد، وأصولهن في الماء، إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن، فصرن سودا مغبرات، فانتبهت مذعورا أيها الملك، فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبا بأعجب مما سمعت منك! فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، فإنك لو زرعت على حجر أو مدر لنبت، وأظهر الله فيه النماء والبركة، ثم ترفع الزرع في قصبه وسنبله تبني له المخازن العظام، فيكون القصب والسنبل علفا للدواب، وحبه للناس، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم إلى أهرائك الخمس، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: ومن لي بتدبير هذه الأمور؟ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا، ولم يكونوا فيه أمناء، فقال يوسف عليه السلام عند ذلك: {اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55] أي على خزائن أرضك، وهي جمع خزانة، ودخلت الألف واللام عوضا من الإضافة، كقول النابغة:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ** من الجود والأحلام غير كواذب

قوله تعالى: {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} جزم لأنه جواب الأمر، وهذا يدل على أن قوله: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} جرى في السجن. ويحتمل أنه جرى عند الملك ثم قال في مجلس آخر: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50] تأكيدا {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي اجعله خالصا لنفسي، أفوض إليه أمر مملكتي، فذهبوا فجاءوا به، ودل على هذا: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي كلم الملك يوسف، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف، ف {قالَ} الملك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي متمكن نافذ القول، {أَمِينٌ} لا تخاف غدرا.

.تفسير الآية رقم (55):

{قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ} قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خزانة الأرض، أما سمعت إلى قوله: {اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ} أي على حفظها، فحذف المضاف. {إِنِّي حَفِيظٌ} لما وليت {عَلِيمٌ} بأمره.
وفي التفسير: إني حاسب كاتب، وأنه أول من كتب في القراطيس.
وقيل: {حَفِيظٌ} لتقدير الأقوات {عَلِيمٌ} بسني المجاعات. قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك عنه سنة». قال ابن عباس: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه ورداه بسيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكللا بالدر والياقوت، وضرب عليه حلة من إستبرق، وكان طول السرير ثلاثين ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وستون مرفقه، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوجا، لونه كالثلج، ووجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه من صفاء لون وجهه، فجلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه. قال ابن زيد: كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلم سلطانه كله إليه، وهلك قطفير تلك الليالي، فزوج الملك يوسف راعيل امرأة العزيز، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟! فقالت: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله من الحسن فغلبتني نفسي. فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: إفراثيم بن يوسف، ومنشأ بن يوسف.
وقال وهب بن منبه: إنما كان تزويجه زليخاء امرأة العزيز بين دخلتي الإخوة، وذلك أن زليخاء مات زوجها ويوسف في السجن، وذهب مالها وعمي بصرها بكاء على يوسف، فصارت تتكفف الناس، فمنهم من يرحمها ومنهم من لا يرحمها، وكان يوسف يركب في كل أسبوع مرة في موكب زهاء مائة ألف من عظماء قومه، فقيل لها: لو تعرضت له لعله يسعفك بشيء، ثم قيل لها: لا تفعلي، فربما ذكر بعض ما كان منك من المراودة والسجن فيسيء إليك، فقالت: أنا أعلم بخلق حبيبي منكم، ثم تركته حتى إذا ركب في موكبه، قامت فنادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم، فقال يوسف: ما هذه؟ فأتوا بها، فقالت: أنا التي كنت أخدمك على صدور قدمي، وأرجل جمتك بيدي، وتربيت في بيتي، وأكرمت مثواك، لكن فرط ما فرط من جهلي وعتوي فذقت وبال أمري، فذهب مالي، وتضعضع ركني، وطال ذلي، وعمي بصري، وبعد ما كنت مغبوطة أهل مصر صرت مرحومتهم، أتكفف الناس، فمنهم من يرحمني، ومنهم من لا يرحمني، وهذا جزاء المفسدين، فبكى يوسف بكاء شديدا، ثم قال لها: هل بقيت تجدين مما كان في نفسك من حبك لي شيئا؟ فقالت: والله لنظره إلى وجهك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، لكن ناولني صدر سوطك، فناولها فوضعته على صدرها، فوجد للسوط في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها، فبكى ثم مضى إلى منزله فأرسل إليها رسولا: إن كنت أيما تزوجناك، وإن كنت ذات بعل أغنيناك، فقالت للرسول: أعوذ بالله أن يستهزئ بي الملك! لم يردني أيام شبابي وغناي ومالي وعزي أفيريدني اليوم وأنا عجوز عمياء فقيرة؟! فأعلمه الرسول بمقالتها، فلما ركب في الأسبوع الثاني تعرضت له، فقال لها: ألم يبلغك الرسول؟ فقالت: قد أخبرتك أن نظرة واحدة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا وما فيها، فأمر بها فأصلح من شأنها وهيئت، ثم زفت إليه، فقام يوسف يصلي ويدعو الله، وقامت وراءه، فسأل الله تعالى أن يعيد إليها شبابها وجمالها وبصرها، فرد الله عليها شبابها وجمالها وبصرها حتى عادت أحسن ما كانت يوم راودته، إكراما ليوسف عليه السلام لما عف عن محارم الله، فأصابها فإذا هي عذراء، فسألها، فقالت: يا نبي الله إن زوجي كان عنينا لا يأتي النساء، وكنت أنت من الحسن والجمال بما لا يوصف، قال: فعاشا في خفض عيش، في كل يوم يجدد الله لهما خيرا، وولدت له ولدين، إفراثيم ومنشأ. وفيما روي أن الله تعالى ألقى في قلب يوسف من محبتها أضعاف ما كان في قلبها، فقال لها: ما شأنك لا تحبينني كما كنت في أول مرة؟ فقالت له: لما ذقت محبة الله تعالى شغلني ذلك عن كل شي.
الثانية: قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك.
وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز، والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه. والله أعلم. قال الماوردي: فان كان المولي ظالما فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما- جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده، لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره.
الثاني- أنه لا يجوز ذلك، لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم، فأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين: أحدهما- أن فرعون يوسف كان صالحا، وإنما الطاغي فرعون موسى.
الثاني- أنه نظر في أملاكه دون أعماله، فزالت عنه التبعة فيه. قال الماوردي: والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام: أحدها- ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات، فيجوز توليه من جهة الظالم، لأن النص على مستحقه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التقليد. والقسم الثاني- ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفيء، فلا يجوز توليه من جهة الظالم، لأنه يتصرف بغير حق، ويجتهد فيما لا يستحق. والقسم الثالث- ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذا للحكم بين متراضيين، وتوسطا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز.
الثالثة: ودلت الآية أيضا على جواز أن يخطب الإنسان عملا يكون له أهلا، فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها». وعن أبي بردة قال قال أبو موسى: أقبلت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستاك، فقال: «ما تقول يا أبا موسى- أو يا عبد الله بن قيس». قال قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني علما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت، فقال: «لن- أولا نستعمل على عملنا من أراده» وذكر الحديث، خرجه مسلم أيضا وغيره، فالجواب: أولا- أن يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أن ذلك فرض متعين عليه فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب، لقول عليه السلام لعبد الرحمن: «لا تسأل الإمارة» وأيضا فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك، وهذا معنى قوله عليه السلام: «وكل إليها» ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو معنى قوله: «أعين عليها».
الثاني- أنه لم يقل: إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ولا قال: إني جميل مليح، إنما قال: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال».
الثالث- إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}.
الرابع- أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه، لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم. الرابعة ودلت الآية أيضا على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل، قال الماوردي: وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله، فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله، ولما يرجو من الظفر بأهله.