فصل: تفسير الآية رقم (57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (57):

{وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ} أي جعلناه عليكم كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب قاله الأخفش سعيد. قال الفراء: ويجوز غمائم وهي السحاب لأنها تغم السماء أي تسترها وكل مغطى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله. وغم الهلال إذا غطاه الغيم والغين مثل الغيم ومنه قوله عليه السلام: «إنه ليغان على قلبي». قال صاحب العين: غين عليه: غطى عليه. والغين: شجر ملتف.
وقال السدي: الغمام السحاب الأبيض. وفعل هذا بهم ليقيهم حر الشمس نهارا وينجلي في آخره ليستضيئوا بالقمر ليلا. وذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا} [المائدة: 42]. فعوقبوا في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة. روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيت كانوا بكرة أمس. وإذا كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لموسى: من لنا بالطعام! فأنزل الله عليهم المن والسلوى. قالوا: من لنا من حر الشمس! فظلل عليهم الغمام. قالوا: فبم نستصبح! فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم وذكر مكي عمود من نار. قالوا من لنا بالماء! فأمر موسى بضرب الحجر قالوا من لنا باللباس! فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان. والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى} اختلف في المن ما هو وتعيينه على أقوال فقيل الترنجبين- بتشديد الراء وتسكين النون ذكره النحاس ويقال الطرنجبين بالطاء وعلى هذا أكثر المفسرين وقيل صمغة حلوة وقيل عسل: وقيل شراب حلو.
وقيل: خبز الرقاق عن وهب بن منبه.
وقيل: {المن} مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: «الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين» في رواية: «من المن الذي أنزل الله على موسى» رواه مسلم قال علماؤنا: وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بنى إسرائيل أي مما خلقه الله لهم في التيه. قال أبو عبيد: إنما شبهها بالمن لأنه لا مئونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي منه أي من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف. روى أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه فإن ادخر منه شيئا فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لان يوم السبت يوم عبادة وما كان ينزل عليهم يوم السبت شي.
الثالثة: لما نص عليه السلام على أن ماء الكمأة شفاء للعين قال بعض أهل العلم بالطب: أما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة واما لغير ذلك فمركبة مع غيرها. وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتا في جميع مرض العين. وهذا كما أستعمل أبو وجزة العسل في جميع الأمراض كلها حتى في الكحل على ما يأتي بيانه في سورة النحل إن شاء الله تعالى.
وقال أهل اللغة: الكمء واحد وكمأن اثنان وأكمؤ ثلاثة فإذا زادوا قالوا- كمأة- بالتاء- على عكس شجرة وشجر. والمن اسم جنس لا واحد له من لفظه الخير والشر قاله الأخفش.
الرابعة: قوله تعالى: {وَالسَّلْوى} اختلف في السلوى فقيل هو السماني بعينه قاله الضحاك. قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي فقال:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ** ألذ من السلوى إذا ما نشورها

ظن السلوى العسل.
قلت: ما ادعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وذكر أنه كذلك بلغة كنانة سمى به لأنه يسلى به ومنه عين السلوان، وأنشد:
لو أشرب السلوان ما سليت ** ما بي غنى عنك وإن غنيت

وقال الجوهري: والسلوى العسل وذكر بيت الهذلي:
ألذ من السلوى إذا ما نشورها

ولم يذكر غلطا. والسلوانة بالضم: خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال:
شربت على سلوانة ماء مزنة ** فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو

واسم ذلك الماء السلوان.
وقال بعضهم: السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمونه المفرح. يقال: سليت وسلوت لغتان. وهو في سلوة من العيش أي في رغد عن أبى زيد.
الخامسة: واختلف في السلوى هل هو جمع أو مفرد فقال الأخفش: جمع لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر وهو يشبه أن يكون واحده سلوي مثل جماعته كما قالوا: دفلى للواحد والجماعة وسماني وشكاعي في الواحد والجميع.
وقال الخليل: واحده سلواة وأنشد:
وإني لتعروني لذكرك هزة ** كما انتفض السلواة من بلل القطر

وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوى.
السادسة: {السلوى} عطف على {المن} ولم يظهر فيه الاعراب لأنه مقصور. ووجب هذا في المقصور كله لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل: والألف حرف هوائي لا مستقر له فأشبه الحركة فاستحالت حركته.
وقال الفراء: لو حركت الألف صارت همزة.
السابعة: قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ}... {كُلُوا} فيه حذف تقديره وقلنا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظاهر عليه. والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.
الثامنة: قوله تعالى: {وَما ظَلَمُونا} يقدر قبله فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر. {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمقابلتهم النعم بالمعاصي.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} حذفت الألف من {قُلْنَا} لسكونها وسكون الدال بعدها والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنه من يدخل.
الثانية: قوله تعالى: {هذِهِ الْقَرْيَةَ} أي المدينة سميت بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قرى بكسر القاف مقصور. وكذلك ما قري به الضيف قاله الجوهري. والمقراة للحوض. والقري لمسيل الماء. والقرا للظهر ومنه قوله:
لاحق بطن بقرا سمين

والمقاري: الجفان الكبار قال:
عظام المقاري ضيفهم لا يفزع

وواحد المقاري مقراة وكله بمعنى الجمع غير مهموز. والقرية بكسر القاف لغة اليمن. واختلف في تعيينها فقال الجمهور: هي بيت المقدس.
وقيل: أريحاء من بيت المقدس. قال عمر بن شبة: كانت قاعدة ومسكن ملوك. ابن كيسان الشام. الضحاك: الرملة والأردن وفلسطين وتدمر. وهذه نعمه أخرى وهى أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه.
الثالثة: قوله تعالى: {فَكُلُوا} إباحة. و{رَغَداً} كثيرا واسعا وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغد. ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة فلذلك قال: {رَغَداً} الرابعة: قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً} الباب يجمع أبوابا وقد قالوا: أبوبه للازدواج قال الشاعر:
هتاك أخبية ولاج أبوبه ** يخلط بالبر منه الجد واللينا

ولو أفرده لم يجز. ومثله قول عليه السلام: «مرحبا بالقوم- أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى». وتبوبت بوابا اتخذته وأبواب مبوبة كما قالوا أصناف مصنفة. وهذا شيء من بابتك أي يصلح لك. وقد تقدم معنى السجود فلا معنى لإعادته. والحمد لله. والباب الذي أمروا بدخول هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بـ باب حطه عن مجاهد وغيره.
وقيل: باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و{سُجَّداً} قال ابن عباس: منحنين ركوعا. وقيل متواضعين خشوعا لا على هية متعينة.
الخامسة: قوله تعالى: {وَقُولُوا} عطف على أدخلوا. {حِطَّةٌ} بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة أو يكون حكاية. قال الأخفش: وقرئت {حطة} بالنصب على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة. قال النحاس: الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه قيل لهم قولوا مغفرة تفسير للنصب أي قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال قل خيرا والأئمة من القراء على الرفع وهو أولى في اللغة لما حكى عن العرب في معنى بدل قال أحمد بن يحيى: يقال بدلته أي غيرته ولم أزل عينه. وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال:
عزل الأمير للأمير المبدل

وقال الله عز وجل: {قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]. وحديث ابن مسعود قالوا {حِطَّةٌ} تفسير على الرفع. هذا كله قول النحاس.
وقال الحسن وعكرمة: {حِطَّةٌ} بمعنى حط ذنوبنا أمروا أن يقولوا: لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم وقال ابن جبير: معناه الاستغفار. أبان بن تغلب: التوبة قال الشاعر:
فاز بالحطة التي جعل اللَّ ** هـ بها ذنب عبده مغفورا

وقال ابن فارس في المجمل {حِطَّةٌ} كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم. وقاله الجوهري أيضا في الصحاح.
قلت: يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه وهو الظاهر من الحديث روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قيل لبني إسرائيل ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة». وأخرجه البخاري وقال: «فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة». في غير الصحيحين: «حنطة في شعر».
وقيل: قالوا هطاسمهاثا. وهي لفظة عبرانية تفسيرها: حنطة حمراء حكاها ابن قتيبة وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد. وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزءوا فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب.
وقال ابن زيد: كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا. وروي أن الباب جعل قصيرا ليدخلوه ركعا فدخلوه متوركين على أستاههم. والله أعلم.
السادسة: استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله. وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه.
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكمال وهو قول الجمهور. ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة.
وقال مجاهد: انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التاء والياء ونحو هذا. وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ولا يغيرونه.
وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال قال عمر بن الخطاب: من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم.
وروى نحوه عن عبد الله بن عمرو وزيد بن أرقم. وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ. وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ولكن أكثر العلماء على خلافه والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال: ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقلناه إليكم حسبكم المعنى.
وقال قتادة عن زرارة بن أوفى: لقيت عدة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى. وكان النخعي والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني وقال الحسن: إذا أصبت المعنى أجزأك.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا قلت لكم إنى أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى.
وقال وكيع رحمه الله إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلقة والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والإلغاء والزيادة والنقصان وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلان يجوز بالعربية أولى. احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي وهو الصحيح في الباب. فإن قيل: فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نضر الله امرا سمع مقالتي فبلغها كما سمعها» وذكر الحديث. وما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه: «آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت» فقال الرجل: ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ونبيك الذي أرسلت». قالوا: أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال: «فأداها كما سمعها». قيل لهم: أما قوله: «فأداها كما سمعها» فالمراد حكمها لا لفظها لان اللفظ غير معتد به. ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: «فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه». ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوقات مختلفة لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة وذلك أدل دليل على الجواز. وأما رده عليه السلام الرجل من قوله: «ورسولك إلى قوله ونبيك» لان لفظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع. ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام! وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة. فلما قال: «ونبيك» جاء بالنعت الامدح ثم قيده بالرسالة بقوله: «الذي أرسلت». وأيضا فإن نقله من قوله: «ورسولك إلى قوله ونبيك» ليجمع بين النبوة والرسالة. ومستقبح في الكلام أن تقول: هذا رسول فلان الذي أرسله وهذا قتيل زيد الذي قتله لأنك تجتزئ بقولك: رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل و- القاتل إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول. وإنما يحسن أن تقول: هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أو في وقعة كذا. والله ولي التوفيق.
فإن قيل: إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغير ألفاظ الأول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها. قيل له: الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا فإن عدمت لم يجز. قال ابن العربي: الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق. والله أعلم. قال بعض علمائنا: لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل. نعم لو قال: المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله أعلم.
السابعة: قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ} قراءة نافع بالياء مع ضمها. وابن عامر بالتاء مع ضمها وهى قراءة مجاهد. وقرأها الباقون بالنون مع نصبها وهي أبينها لان قبلها {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا} فجرى {نغفر} على الاخبار عن الله تعالى والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سجدا نغفر ولان بعده {وَسَنَزِيدُ} بالنون. و{خَطاياكُمْ} أتباعا للسواد وأنه على بابه. ووجه من قرأ بالتاء أنه أنث لتأنيث لفظ الخطايا لأنها جمع خطيئة على التكسير. ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدم في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ} [البقرة: 37]. وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا} لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغنى عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة.
الثامنة: واختلف في أصل خطايا جمع خطيئة بالهمزة فقال الخليل: الأصل في خطايا أن يقول: خطايئ ثم قلب فقيل: خطائي بهمزة بعدها ياء ثم تبدل من الياء ألفا بدلا لازما فتقول: خطاء فلما اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الألف صرت كأنك جمعت بين ثلاث ألفات فأبدلت من الهمزة ياء فقلت: خطايا. وأما سيبويه فمذهبه أن الأصل مثل الأول خطايئ ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول:
خطائئ ولا تجتمع همزتان في كلمة فأبدلت من الثانية ياء فقلت: خطائي ثم عملت كما عملت في الأول.
وقال الفراء: خطايا جمع خطية بلا همز، كما تقول: هدية وهدايا. قال الفراء: ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت: خطاء.
وقال الكسائي: لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت: دواب.
التاسعة: قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي في إحسان من لم يعبد العجل. ويقال: يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد. ويقال: يغفر خطايا من هو عاص وسيزيد في إحسان من هو محسن أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم وهو اسم فاعل من أحسن. والمحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره. وفي حديث جبريل عليه السلام: «ما الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت» وذكر الحديث. خرجه مسلم.