فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (16):

{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)}
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول للمشركين: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ثم أمره أن يقول لهم: هو الله إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك، وجهلوا من هو. {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} معنى، دليله قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38] أي فإذا اعترفتم فلم تعبدون غيره؟! وذلك الغير لا ينفع ولا يضر، وهو إلزام صحيح. ثم ضرب لهم مثلا فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ} فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق، والمشرك الذي لا يبصر الحق.
وقيل: الأعمى مثل لما عبدوه من دون الله، والبصير مثل الله تعالى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ} أي الشرك والإيمان. وقرأ ابن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي {يسوي} بالياء لتقدم الفعل، ولأن تأنيث {الظُّلُماتُ} ليس بحقيقي. الباقون بالتاء، واختاره أبو عبيد، قال: لأنه لم يحل بين المؤنث والفعل حائل. و{الظُّلُماتُ وَالنُّورُ} مثل الإيمان والكفر، ونحن لا نقف على كيفية ذلك. {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} هذا من تمام الاحتجاج، أي خلق غير الله مثل خلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم. {قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي قل لهم يا محمد: {اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، فلزم لذلك أن يعبده كل شي. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله. {وَهُوَ الْواحِدُ} قبل كل شيء. {الْقَهَّارُ} الغالب لكل شي، الذي يغلب في مراده كل مريد. قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع، أي سلهم عن خالق السماوات والأرض، فإنه يسهل تقرير الحجة فيه عليهم، ويقرب الأمر من الضرورة، فإن عجز الجماد وعجز كل مخلوق عن خلق السماوات والأرض معلوم، وإذا تقرر هذا وبان أن الصانع هو الله فكيف يجوز اعتداد الشريك له؟! وبين في أثناء الكلام أنه لو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين؟!.

.تفسير الآيات (17- 19):

{أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)}
قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً} ضرب مثلا للحق والباطل، فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، على ما نبينه. قال مجاهد:
{فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها} قال: بقدر ملئها.
وقال ابن جريج: بقدر صغرها وكبرها. وقرأ الأشهب العقيلي والحسن {بقدرها} بسكون الدال، والمعنى واحد.
وقيل: معناها بما قدر لها. والأودية. جمع الوادي، وسمي واديا لخروجه وسيلانه، فالوادي على هذا اسم للماء السائل.
وقال أبو علي: {فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ} توسع، أي سال ماؤها فحذف، قال: ومعنى {بِقَدَرِها} بقدر مياهها، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً} أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء، وتم الكلام، قاله مجاهد. ثم قال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} وهو المثل الثاني. {ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ} أي حلية الذهب والفضة. {أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} قال مجاهد: الحديد والنحاس والرصاص. وقوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} أي يعلو هذه الأشياء زبد كما يعلو السيل، وإنما احتمل السيل الزبد لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدا، كذلك ما يوقد عليه في النار من الجوهر ومن الذهب والفضة مما ينبث في الأرض من المعادن فقد خالطه التراب، فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض. وقوله: {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً} قال مجاهد: جمودا.
وقال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء: أجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب زبدها، وإذا جمد في أسفلها. والجفاء ما أجفاه الوادي أي رمى به. وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ {جفالا} قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. {وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} قال مجاهد: هو الماء الخالص الصافي.
وقيل: الماء وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، وهو أن المثلين ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد والخبث.
وقيل: المراد مثل ضربه الله للقرآن وما يدخل منه القلوب، فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} قال: قرآنا، {فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها} قال: الأودية قلوب العباد. قال صاحب سوق العروس إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن الله سبحانه مثل القرآن بالماء. ومثل القلوب بالأودية، ومثل المحكم بالصافي، ومثل المتشابه بالزبد.
وقيل: الزبد مخايل النفس وغوائل الشك ترتفع من حيث ما فيها فتضطرب من سلطان تلعها، كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع ما يجد في الوادي باقيا، وأما حلية الذهب والفضة فمثل الأحوال السنية. والأخلاق الزكية، التي بها جمال الرجال، وقوام صالح الأعمال، كما أن من الذهب والفضة زينة النساء. وبهما قيمة الأشياء. وقرأ حميد وابن محيصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، {يُوقِدُونَ} بالياء واختاره أبو عبيد، لقوله: {يَنْفَعُ النَّاسَ} فأخبر، ولا مخاطبة هاهنا. الباقون بالتاء لقوله في أول الكلام: {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} [الرعد: 16] الآية. وقوله: {فِي النَّارِ} متعلق بمحذوف، وهو في موضع الحال، وذو الحال الهاء التي في {عَلَيْهِ} التقدير: ومما توقدون عليه ثابتا في النار أو كائنا.
وفي قوله: {فِي النَّارِ} ضمير مرفوع يعود إلى الهاء التي هي اسم ذي الحال ولا يستقيم أن يتعلق {فِي النَّارِ} ب {يُوقِدُونَ} من حيث لا يستقيم أوقدت عليه في النار، لأن الموقد عليه يكون في النار، فيصير قوله: {فِي النَّارِ} غير مقيد. وقوله: {ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ} مفعول له. {زَبَدٌ مِثْلُهُ} ابتداء وخبر، أي زبد مثل زبد السيل.
وقيل: إن خبر {زَبَدٌ} قوله: {فِي النَّارِ} الكسائي: {زَبَدٌ} ابتداء، و{مِثْلُهُ} نعت له، والخبر في الجملة التي قبله، وهو {مِمَّا يُوقِدُونَ}. {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ} أي كما بين لكم هذه الأمثال فكذلك يضربها بينات. تم الكلام، ثم قال: {لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ} أي أجابوا، واستجاب بمعنى أجاب، قال:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقد تقدم، أي أجاب إلى ما دعاه الله من التوحيد والنبوات. {الْحُسْنى} لأنها في نهاية الحسن.
وقيل: من الحسنى النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا. {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ}
أي لم يجيبوا إلى الإيمان به. {لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أي من الأموال. {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} ملك لهم. {لَافْتَدَوْا بِهِ} من عذاب يوم القيامة، نظيره في آل عمران {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [آل عمران: 10]، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ} [آل عمران: 91] حسب ما تقدم بيانه هناك. {أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ} أي لا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة.
وقال فرقد السبخي قال لي إبراهيم النخعي: يا فرقد! أتدري ما سوء الحساب؟ قلت لا! قال أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يفقد منه شي. {وَمَأْواهُمْ} أي مسكنهم ومقامهم. {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ} أي الفراش الذي مهدوا لأنفسهم. قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى} هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وروي أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبي جهل لعنه الله. والمراد بالعمى عمى القلب، والجاهل بالدين أعمى القلب. {إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ}.

.تفسير الآية رقم (20):

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20)}
فيه مسألتان الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} هذا من صفة ذوي الألباب، أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله. والعهد اسم الجنس، أي بجميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله: {وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ} يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي إذا عقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه. قال قتادة: تقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية، ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه، هو الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم.
وقال القفال: هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات.
الثانية: روى أبو داود وغيره عن عوف بن مالك قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: «ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك حتى قالها ثلاثا، فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل: يا رسول الله! إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك؟ قال: «أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا- وأسر كلمة خفية- قال: لا تسألوا الناس شيئا». قال: ولقد كان بعض أولئك النفر يسقط- سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله إياه. قال ابن العربي: من أعظم المواثيق في الذكر ألا يسأل سواه، فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العباد سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يسألوا أحدا شيئا، الحديث، فقال أبو حمزة: رب! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه، وأنا أعاهدك ألا أسأل أحدا شيئا، قال: فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم، فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق، فلما حل في قعره قال: استغيث لعل أحدا يسمعني. ثم قال: إن الذي عاهدته يراني ويسمعني، والله! لا تكلمت بحرف للبشر، ثم لم يلبث إلا يسيرا إذ مر بذلك البئر نفر، فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا: إنه لينبغي سد هذا البئر، ثم قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوها بالتراب، فلما رأى ذلك أبو حمزة قال: هذه مهلكة، ثم أراد أن يستغيث بهم، ثم قال: والله! لا أخرج منها أبدا، ثم رجع إلى نفسه فقال: أليس قد عاهدت من يراك؟ فسكت وتوكل، ثم استند في قعر البئر مفكرا في أمره، فإذا بالتراب يقع عليه، والخشب يرفع عنه، وسمع في أثناء ذلك من يقول: هات يدك! قال: فأعطيته يدي فأقلني في مرة واحدة إلى فم البئر، فخرجت فلم أر أحدا، فسمعت هاتفا يقول: كيف رأيت ثمرة التوكل، وأنشد:
نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى ** فأغنيتني بالعلم منك عن الكشف

تلطفت في أمري فأبديت شاهدي ** إلى غائبي واللطف يدرك باللطف

تراءيت لي بالعلم حتى كأنما ** تخبرني بالغيب أنك في كف

أراني وبي من هيبتي لك وحشة ** فتؤنسني باللطف منك وبالعطف

وتحيي محبا أنت في الحب حتفه ** وذا عجب كيف الحياة مع الحتف

قال ابن العربي: هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال، فاقتدوا به إن شاء الله تهتدوا. قال أبو الفرج الجوزي: سكوت هذا الرجل في هذا المقام على التوكل بزعمه إعانة على نفسه، وذلك لا يحل، ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحالة، كما لم يخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التوكل بإخفائه الخروج من مكة، واستئجاره دليلا، واستكتامه ذلك الأمر، واستتاره في الغار، وقوله لسراقة: «أخف عنا». فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محظور، وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه، وبيان ذلك أن الله تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر، وآلة يجتلب بها النفع، فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان ذلك جهلا بالتوكل، وردا لحكمة التواضع، لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على الله تعالى، وليس من ضرورته قطع الأسباب، ولو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار، قاله سفيان الثوري وغيره، لأنه قد دل على طريقة السلامة، فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه.
وقال أبو الفرج: ولا التفات إلى قول أبي حمزة: «فجاء أسد فأخرجني» فإنه إن صح ذلك فقد يقع مثله اتفاقا، وقد يكون لطفا من الله تعالى بالعبد الجاهل، ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف به، إنما ينكر فعله الذي هو كسبه، وهو إعانته على نفسه التي هي وديعة لله تعالى عنده، وقد أمره بحفظها.

.تفسير الآيات (21- 24):

{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} قيل: في قطع الرحم.
وقيل: في جميع المعاصي. {وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ}. سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة، ومن نوقش الحساب عذب.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: معنى. {يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ} الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. الحسن: هو صلة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويحتمل رابعا: أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح، {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} فيما أمرهم بوصله، {وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ} في تركه، والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا، وبالله توفيقنا. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} قيل: {الَّذِينَ} مستأنف، لأن {صَبَرُوا} ماض فلا ينعطف على {يُوفُونَ} وقيل.: هو من وصف من تقدم، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي، وتارة بلفظ المستقبل، لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا، ولما كان {الَّذِينَ} يتضمن الشرط، والماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك، ولهذا قال: {الَّذِينَ يُوفُونَ} ثم قال: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا} ثم عطف عليه فقال: {وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} قال ابن زيد: صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله.
وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب.
وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم ابتغاء وجه الله. {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} أدوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها. {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} يعني الزكاة المفروضة، عن ابن عباس، وقد مضى القول في هذا في البقرة وغيرها. {وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون بالعمل الصالح السيئ من الأعمال، قاله ابن عباس. ابن زيد: يدفعون الشر بالخير. سعيد بن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. الضحاك: يدفعون الفحش بالسلام. جويبر: يدفعون الظلم بالعفو. ابن شجرة: يدفعون الذنب بالتوبة. القتبي: يدفعون سفه الجاهل بالحلم، فالسفه السيئة، والحلم الحسنة.
وقيل: إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا.
وقيل: يدفعون الشرك بشهادة أن لا اله إلا الله، فهذه تسعة أقوال، معناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم، ونظيره: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} [هود: 114] ومنه قول عليه السلام لمعاذ: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن}. قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} أي عاقبة الآخرة، وهي الجنة بدل النار، والدار غدا داران: الجنة للمطيع، والنار للعاصي، فلما ذكر وصف المطيعين فدارهم الجنة لا محالة.
وقيل: عني بالدار دار الدنيا، أي لهم جزاء ما عملوا من الطاعات في دار الدنيا. قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} أي لهم جنات عدن، ف {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدل من {عُقْبَى} ويجوز أن تكون تفسيرا ل {عُقْبَى الدَّارِ} أي لهم دخول جنات عدن، لأن {عُقْبَى الدَّارِ} حدث و{جَنَّاتُ عَدْنٍ} عين، والحدث إنما يفسر بحدث مثله، فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول. ويجوز أن يكون {جَنَّاتُ عَدْنٍ} خبر ابتداء محذوف. و{جَنَّاتُ عَدْنٍ} وسط الجنة وقصبتها، وسقفها عرش الرحمن، قال القشيري أبو نصر عبد الملك.
وفي صحيح البخاري: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» فيحتمل أن يكون {جَنَّاتُ} كذلك إن صح فذلك خبر.
وقال عبد الله بن عمرو: إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج والمروج، فيه ألف باب، على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. و{عَدْنٍ} مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام فيه، على ما يأتي بيانه في سورة الكهف إن شاء الله تعالى. {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} يجوز أن يكون معطوفا على {أُولئِكَ} المعنى: أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم لهم عقبى الدار. ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المرفوع في {يَدْخُلُونَها} وحسن العطف لما حال الضمير المنصوب بينهما. ويجوز أن يكون المعنى: يدخلونها ويدخلها من صلح من آبائهم، أي من كان صالحا، لا يدخلونها بالأنساب. ويجوز أن يكون موضع {مَنْ} نصبا على تقدير: يدخلونها مع من صلح من آبائهم، وإن لم يعمل مثل أعمالهم يلحقه الله بهم كرامة لهم.
وقال ابن عباس: هذا الصلاح الإيمان بالله والرسول، ولو كان لهم مع الإيمان طاعات أخرى لدخلوها بطاعتهم لا على وجه التبعية. قال القشيري: وفي هذا نظر، لأنه لا بد من الإيمان، فالقول في اشتراط العمل الصالح كالقول في اشتراط الإيمان. فالأظهر أن هذا الصلاح في جملة الأعمال، والمعنى: أن النعمة غدا تتم عليهم بأن جعلهم مجتمعين مع قراباتهم في الجنة، وإن دخلها كل إنسان بعمل نفسه، بل برحمة الله تعالى. قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ} أي بالتحف والهدايا من عند الله تكرمة لهم. {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي يقولون: سلام عليكم، فأضمر القول، أي قد سلمتم من الآفات والمحن.
وقيل: هو دعاء لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي سلمكم الله، فهو خبر معناه الدعاء، ويتضمن الاعتراف بالعبودية. {بِما صَبَرْتُمْ} أي بصبركم، ف {ما} مع الفعل بمعنى المصدر، والباء في {بما} متعلقة بمعنى. {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} ويجوز أن تتعلق بمحذوف، أي هذه الكرامة بصبركم، أي على أمر الله تعالى ونهيه، قاله سعيد بن جبير.
وقيل: على الفقر في الدنيا، قاله أبو عمران الجوني.
وقيل: على الجهاد في سبيل الله، كما روي عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هل تدرون من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا: الله ورسول أعلم، قال: المجاهدون الذين تسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار».
وقال محمد بن إبراهيم: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان، وذكره البيهقي عن أبي هريرة قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. ثم كان أبو بكر بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله، وكان عمر بعد أبى بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله.
وقال الحسن البصري رحمه الله: {بِما صَبَرْتُمْ} عن فضول الدنيا.
وقيل: {بِما صَبَرْتُمْ} على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية، قال معناه الفضيل بن عياض. ابن زيد: {بِما صَبَرْتُمْ} عما تحبونه إذا فقدتموه. ويحتمل سابعا- {بِما صَبَرْتُمْ} عن اتباع الشهوات. وعن عبد الله بن سلام وعلي بن الحسين رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، قالوا: قبل الحساب؟ قالوا نعم! فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معاصي الله وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا. قال علي بن الحسين: فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.
وقال ابن سلام: فتقول لهم الملائكة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها، عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه، فالعقبى على هذا اسم، و{الدَّارِ} هي الدنيا.
وقال أبو عمران الجوني: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الجنة عن النار. وعنه: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الجنة عن الدنيا.