فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (39):

{يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)}
قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ} أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به. {وَيُثْبِتُ} ما يشاء، أي يؤخره إلى وقته، يقال: محوت الكتاب محوا، أي أذهبت أثره. {وَيُثْبِتُ} أي ويثبته، كقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ} [الأحزاب: 35] أي والذاكرات الله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {وَيُثْبِتُ} بالتخفيف، وشدد الباقون، وفي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها، لقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27].
وقال ابن عمر: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ إلا السعادة والشقاوة والموت».
وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء، الخلق والخلق والأجل والرزق والسعادة والشقاوة، وعنه: هما كتابان سوى أم الكتاب، يمحو الله منهما ما يشاء ويثبت. {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ} الذي لا يتغير منه شي. قال القشيري: وقيل السعادة والشقاوة والخلق والخلق والرزق لا تتغير، فالآية فيما عدا هذه الأشياء، وفي هذا القول نوع تحكم. قلت: مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم، وهذا يروي معناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الكلبي. وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب.
وقال ابن مسعود: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء، فإنك: تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وكان أبو وائل يكثر أن يدعو: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
وقال كعب لعمر بن الخطاب: لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ}.
وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها: اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقد تقدم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «من سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه». ومثله عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من أحب» فذكره بلفظه سواء، وفية تأويلان: أحدهما- معنوي، وهو ما يبقى بعده من الثناء الجميل والذكر الحسن، والأجر المتكرر، فكأنه لم يمت. والآخر- يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ، والذي في علم الله ثابت لا تبدل له، كما قال: {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ}. وقيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه» كيف يزاد في العمر والأجل؟! فقال: قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2]. فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني- يعني المسمى عنده- من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله، فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ، ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في أجل البرزخ فإذا تحتم الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان، لقوله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] فتوافق الخبر والآية، وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم.
وقال مجاهد: يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة، وقد مضى القول فيه.
وقال الضحاك: يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، وروى معناه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال الكلبي: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم سئل الكلبي عن هذه الآية فقال: يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير: يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب، ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس، قال النحاس: وحدثنا بكر بن سهل، قال حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ} يقول: يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه، {وَيُثْبِتُ} ما يشاء فلا يبدله، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ} يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ.
وقال سعيد بن جبير أيضا: يغفر ما يشاء- يعني- من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره.
وقال عكرمة: يمحو ما يشاء- يعني بالتوبة- جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً} [الفرقان: 70] الآية. وقال الحسن: {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ} من جاء أجله، {وَيُثْبِتُ} من لم يأت أجله.
وقال الحسن: يمحو الآباء، ويثبت الأبناء. وعنه أيضا. ينسي الحفظة من الذنوب ولا ينسى.
وقال السدي: {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ} يعني: القمر، {وَيُثْبِتُ} يعني: الشمس، بيانه قوله: {فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] وقال الربيع بن أنس: هذا في الأرواح حالة النوم، يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه، بيانه قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} الآية [الزمر: 42].
وقال علي بن أبي طالب يمحو الله ما يشاء من القرون، كقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [يس: 31] ويثبت ما يشاء منها، كقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [المؤمنون: 31] فيمحو قرنا، ويثبت قرنا.
وقيل: هو الرجل يعمل الزمن الطويل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصية الله فيموت على ضلاله، فهو الذي يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بمعصية الله الزمان الطويل ثم يتوب، فيمحوه الله من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات، ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس.
وقيل: يمحو الله ما يشاء- يعني الدنيا- ويثبت الآخرة.
وقال قيس بن عباد في اليوم العاشر من رجب: هو اليوم الذي يمحو الله فيه ما يشاء، ويثبت فيه ما يشاء، وقد تقدم عن مجاهد أن ذلك يكون في رمضان.
وقال ابن عباس: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء، لها دفتان من ياقوتة حمراء، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وروي أبو الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إن الله سبحانه يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل فينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء». والعقيدة أنه لا تبديل لقضاء الله، وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء، وقد تقدم أن من القضاء ما يكون واقعا محتوما، وهو الثابت، ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو، والله أعلم.
وقال الغزنوي: وعندي أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة، فيحتمل التبديل، لأن إحاطة الخلق بجميع علم الله محال، وما في علمه من تقدير الأشياء لا يبدل. {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ} أصل ما كتب من الآجال وغيرها.
وقيل: أم الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. وقد قيل: إنه يجري فيه التبديل.
وقيل: إنما يجري في الجرائد الأخر. وسيل ابن عباس عن أم الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، ولا تبديل في علم الله، وعنه أنه الذكر، دليله قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] وهذا يرجع معناه إلى الأول، وهو معنى قول كعب. قال كعب الأحبار: أم الكتاب علم الله تعالى بما خلق وبما هو خالق.

.تفسير الآيات (40- 41):

{وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41)}
قوله تعالى: {وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} {ما} زائدة، والتقدير: وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله: {لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} [الرعد: 34] وقوله: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ} [الرعد: 31] أي إن أريناك بعض ما وعدناهم {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ} فليس عليك إلا البلاغ، أي التبليغ، {وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} أي الجزاء والعقوبة. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} يعني، أهل مكة، {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ} أي نقصدها. {نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} اختلف فيه، فقال ابن عباس ومجاهد: {نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} موت علمائها وصلحائها قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف، وقد قال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم، ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز، إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى.
وقال مجاهد أيضا وقتادة والحسن: هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين، وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها، وعن مجاهد: نقصانها خرابها وموت أهلها. وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. قال أبو عمر بن عبد البر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا، تلقاه أهل العلم بالقبول. قلت: وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، {نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} قال: موت الفقهاء والعلماء، ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شي، وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم من قول ابن عباس.
وقال عكرمة والشعبي: هو النقصان وقبض الأنفس. قال أحدهما: ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك.
وقال الآخر: لضاق عليك حش تتبرز فيه. قيل: المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم، والمعنى: أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم؟! أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها.
وقيل: نقصها بجور ولاتها. قلت: وهذا صحيح معنى، فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغيير. {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ} أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن.
وقيل: لا يحتاج في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان، حسب ما تقدم في البقرة بيانه.

.تفسير الآيات (42- 43):

{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)}
قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم. {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه.
وقيل: فلله خير المكر، أي يجازيهم به. {يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من خير وشر، فيجازي عليه. {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} كذا قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. الباقون {الكفار}9 على الجمع.
وقيل: عني به أبو جهل. {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة، وهذا تهديد ووعيد. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} قال قتادة: هم مشركو العرب، أي لست بنبي ولا رسول، وإنما أنت متقول، أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك. {قُلْ كَفى بِاللَّهِ} أي قل لهم يا محمد: {كَفى بِاللَّهِ} أي كفى الله {شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بصدقي وكذبكم. {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} وهذا احتجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب- من آمن منهم- في التفاسير.
وقيل: كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم، وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير.
وروى الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: لما أريد قتل عثمان جاء عبد الله بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك، قال: أخرج إلى الناس فأطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل، قال فخرج عبد الله بن سلام إلى الناس فقال: أيها الناس! إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله، ونزلت في آيات من كتاب الله، فنزلت في. {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] ونزلت في. {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} الحديث. وقد كتبناه بكماله في كتاب التذكرة.
وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وكان اسمه في الجاهلية حصين فسماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله.
وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}؟ قال: هو عبد الله بن سلام. قلت: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة؟! ذكره الثعلبي.
وقال القشيري: وقال ابن جبير السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة، فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام، فمن عنده علم الكتاب جبريل، وهو قول ابن عباس.
وقال الحسن ومجاهد والضحاك: هو الله تعالى، وكانوا يقرءون {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} وينكرون على من يقول: هو عبد الله بن سلام وسلمان، لأنهم يرون أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليماني أنه قرأ كذلك- {ومن عنده} بكسر الميم والعين والدال {علم الكتاب} بضم العين ورفع الكتاب.
وقال عبد الله بن عطاء: قلت، لأبي جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك قال محمد ابن الحنفية.
وقيل: جميع المؤمنين، والله أعلم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما من قال إنه علي فعول على أحد وجهين: إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك، بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه. ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وهو حديث باطل، النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدينة علم وأصحابه أبوابها، فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم. وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق، لأن كل مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصدقه. قلت: فالكتاب على هذا هو القرآن. وأما من قال هو عبد الله بن سلام فعول على حديث الترمذي، وليس يمتنع أن ينزل في عبد الله بن سلام شيئا ويتناول جميع المؤمنين لفظا، ويعضده من النظام أن قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني قريشا، فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان. قال النحاس: وقول من قال هو عبد الله بن سلام وغيره يحتمل أيضا، لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرا مؤكدا، والله أعلم بحقيقة ذلك.