فصل: سورة إبراهيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة إبراهيم:

سورة إبراهيم مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها مدنيتين وقيل: ثلاث، نزلت في الذين حاربوا الله ورسوله وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} [إبراهيم: 28] إلى قوله: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30].

.تفسير الآية رقم (1):

{الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}
قوله تعالى: {الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ} تقدم معناه. {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} أي بالكتاب، وهو القرآن، أي بدعائك إليه. {مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} أي من ظلمات الكفر الضلالة والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وهذا على التمثيل، لأن الكفر بمنزلة الظلمة، والإسلام بمنزلة النور.
وقيل: من البدعة إلى السنة، ومن الشك إلى اليقين، والمعنى متقارب. {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بتوفيقه إياهم ولطفه بهم، والباء في {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلقة ب {لِتُخْرِجَ} وأضيف الفعل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه الداعي والمنذر الهادي. {إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} هو كقولك: خرجت إلى زيد العاقل الفاضل من غير واو، لأنهما شيء واحد، والله هو العزيز الذي لا مثل له ولا شبيه.
وقيل: {الْعَزِيزِ} الذي لا يغلبه غالب.
وقيل: {الْعَزِيزِ} المنيع في ملكه وسلطانه. {الْحَمِيدِ} أي المحمود بكل لسان، والممجد في كل مكان على كل حال.
وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان قوم آمنوا بعيسى ابن مريم، وقوم كفروا به، فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر الذين آمنوا بعيسى، فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي.

.تفسير الآيات (2- 3):

{اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)}
قوله تعالى: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} أي ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا. وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما: {الله} بالرفع على الابتداء {الَّذِي} خبره.
وقيل: {الَّذِي} صفة، والخبر مضمر، أي الله الذي له ما في السموات وما في الأرض قادر على كل شي. الباقون بالخفض نعتا للعزيز الحميد فقدم النعت على المنعوت، كقولك: مررت بالظريف زيد.
وقيل: على البدل من {الْحَمِيدِ} وليس صفة، لأن أسم الله صار كالعلم فلا يوصف، كما لا يوصف بزيد وعمرو، بل يجوز أن يوصف به من حيث المعنى، لأن معناه أنه المنفرد بقدرة الإيجاد.
وقال أبو عمرو: والخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات وما في الأرض. وكان يعقوب إذا وقف على {الْحَمِيدِ} رفع، وإذا وصل خفض على النعت. قال ابن الأنباري: من خفض وقف على {وَما فِي الْأَرْضِ}. قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ} قد تقدم معنى الويل في البقرة وقال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهلكة. {مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ} أي من جهنم. {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا} أي يختارونها على الآخرة، والكافرون يفعلون ذلك. ف {الَّذِينَ} في موضع خفض صفة لهم.
وقيل: في موضع رفع خبر ابتداء مضمر، أي هم الذين.
وقيل: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ} مبتدأ وخبره. {أُولئِكَ}. وكل من آثر الدنيا وزهرتها، واستحب البقاء في نعيمها على النعيم في الآخرة، وصد عن سبيل الله- أي صرف الناس عنه وهو دين الله، الذي جاءت به الرسل، في قول ابن عباس وغيره- فهو داخل في هذه الآية، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون» وهو حديث صحيح. وما أكثر ما هم في هذه الأزمان، والله المستعان.
وقيل: {يَسْتَحِبُّونَ} أي يلتمسون الدنيا من غير وجهها، لأن نعمة الله لا تلتمس إلا بطاعته دون معصيته. {وَيَبْغُونَها عِوَجاً} أي يطلبون لها زيغا وميلا لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم. والسبيل تذكر وتؤنث. والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرضي، وفي كل ما لم يكن قائما، وبفتح العين في كل ما كان قائما، كالحائط والرمح ونحوه، وقد تقدم في آل عمران وغيرها. {أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي ذهاب عن الحق بعيد عنه.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)}
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ} أي قبلك يا محمد {إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ} أي بلغتهم، ليبينوا لهم أمر دينهم، ووحد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأن المراد اللغة، فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير، ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية، لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أرسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه».
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار». خرجه مسلم، وقد تقدم. {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} رد على القدرية في نفوذ المشيئة، وهو مستأنف، وليس بمعطوف على {لِيُبَيِّنَ} لأن الإرسال إنما وقع للتبيين لا للإضلال. ويجوز النصب في {يضل} لأن الإرسال صار سببا للإضلال، فيكون كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8] وإنما صار الإرسال سببا للإضلال لأنهم كفروا به لما جاءهم، فصار كأنه سبب لكفرهم {هُوَالْعَزِيزُ} تقدم معناه.

.تفسير الآية رقم (5):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا} أي بحجتنا وبراهيننا، أي بالمعجزات الدالة على صدقه. قال مجاهد: هي التسع الآيات. {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} نظيره قوله تعالى: لنبينا عليه السلام أول السورة: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} {أَنْ} هنا بمعنى أي، كقوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6] أي امشوا. قوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أي قل لهم قولا يتذكرون به أيام الله تعالى. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: بنعم الله عليهم، وقاله أبي بن كعب ورواه مرفوعا، أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم، وقد تسمى النعم الأيام، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غر طوال

وعن ابن عباس أيضا ومقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة، يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعها. قال ابن زيد: يعني الأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية، وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال: بلاؤه.
وقال الطبري: وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم، أي بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة، وقد كانوا عبيدا مستذلين، واكتفى بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «بينا موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله وأيام الله بلاؤه ونعماؤه» وذكر حديث الخضر، ودل هذا على جواز الوعظ المرفق للقلوب، المقوي لليقين. الخالي من كل بدعة، والمنزه عن كل ضلالة وشبهة. {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي في التذكير بأيام الله {لَآياتٍ} أي دلالات. {لِكُلِّ صَبَّارٍ} أي كثير الصبر على طاعة الله، وعن معاصيه. {شَكُورٍ} لنعم الله.
وقال قتادة: هو العبد، إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر. ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}». ونحوه عن الشعبي موقوفا. وتواري الحسن البصري عن الحجاج سبع سنين، فلما بلغه موته قال: اللهم قد أمته فأمت سنته، وسجد شكرا، وقرأ: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. وإنما خص بالآيات كل صبار شكور، لأنه يعتبر بها ولا يغفل عنها، كما قال: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها} [النازعات: 45] وإن كان منذرا للجميع.

.تفسير الآيات (6- 7):

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} تقدم في البقرة مستوفى والحمد لله. قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} قيل: هو من قول موسى لقومه. وقيل هو من قول الله، أي وأذكر يا محمد إذ قال ربك كذا. و{تَأَذَّنَ} وأذن بمعنى أعلم، مثل أوعد وتوعد، روي معنى ذلك عن الحسن وغيره. ومنه الأذان، لأنه إعلام، قال الشاعر:
فلم نشعر بضوء الصبح حتى ** سمعنا في مجالسنا الأذينا

وكان ابن مسعود يقرأ: {وإذ قال ربكم} والمعنى واحد. {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي. الحسن: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي. ابن عباس: لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم من الثواب، والمعنى متقارب في هذه الأقوال، والآية تنص في أن الشكر سبب المزيد، وقد تقدم في البقرة ما للعلماء في معنى الشكر. وسيل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال: ألا تتقوى بنعمه على معاصيه. وحكي عن داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف أشكرك، وشكري لك نعمة مجددة منك علي. قال: يا داود الآن شكرتني. قلت: فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم. وألا يصرفها في غير طاعته، وأنشد الهادي وهو يأكل:
أنالك رزقه لتقوم فيه ** بطاعته وتشكر بعض حقه

فلم تشكر لنعمته ولكن ** قويت على معاصيه برزقه

فغص باللقمة، وخنقته العبرة.
وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة الشكر فتأهب للمزيد. {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} أي جحدتم حقي.
وقيل: نعمي، وعد بالعذاب على الكفر، كما وعد بالزيادة على الشكر، وحذفت الفاء التي في جواب الشرط من {إِنَّ} للشهرة.

.تفسير الآيات (8- 9):

{وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}
قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو الغني. {الحميد} أي المحمود. قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ} النبأ الخبر، والجمع الأنباء، قال:
ألم يأتيك والأنباء تنمي

ثم قيل: هو من قول موسى.
وقيل: من قول الله، أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا.
وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى. وخبر قوم نوح وعاد وثمود مشهور قصه الله في كتابه. وقوله: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} أي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يعرف نسبهم إلا الله، والنسابون وإن نسبوا إلى آدم فلا يدعون إحصاء جميع الأمم، وإنما ينسبون البعض، ويمسكون عن نسب البعض، وقد روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سمع النسابين ينسبون إلى معد بن عدنان ثم زادوا فقال: «كذب النسابون إن الله يقول: {لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}». وقد روي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل.
وقال بن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وكان ابن مسعود يقول حين يقرأ: {لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}. كذب النسابون. {جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} أي بالحجج والدلالات. {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ} أي جعل أولئك القوم أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوها غيظا مما جاء به الرسل، إذ كان فيه تسفيه أحلامهم، وشتم أصنامهم، قاله بن مسعود، ومثله قاله عبد الرحمن بن زيد، وقرأ: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119].
وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم.
وقال أبو صالح: كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم: أن أسكت، تكذيبا له، وردا لقوله، وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. والضميران للكفار، والقول الأول أصحها إسنادا، قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ} قال: عضوا عليها غيظا، وقال الشاعر:
لو أن سلمى أبصرت تخددي ** ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عودي ** عضت من الوجد بأطراف اليد

ود مضى هذا المعنى في آل عمران مجودا، والحمد لله.
وقال مجاهد وقتادة: ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم، فالضمير الأول للرسل، والثاني للكفار.
وقال الحسن وغيره: جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم، فالضمير الأول على هذا للكفار، والثاني للرسل. وقيل معناه: أومأوا للرسل أن يسكتوا.
وقال مقاتل: أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم.
وقيل: رد الرسل أيدي القوم في أفواههم.
وقيل: إن الأيدي هنا النعم، أي ردوا نعم الرسل بأفواههم، أي بالنطق والتكذيب، ومجيء الرسل بالشرائع نعم، والمعنى: كذبوا بأفواههم ما جاءت به الرسل. و{فِي} بمعنى الباء، يقال: جلست في البيت وبالبيت، وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض.
وقال أبو عبيدة: هو ضرب مثل، أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت: قد رد يده في فيه. وقاله الأخفش أيضا.
وقال القتبي: لم نسمع أحدا من العرب يقول: رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به، وقاله المغني: عضوا على الأيدي حنقا وغيظا، لقول الشاعر:
تردون في فيه غش الحسو ** د حتى يعض علي الأكفا

يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه.
وقال آخر:
قد أفني أنامل أزمة ** فأضحى يعض علي الوظيفا

وقالوا:- يعني الأمم للرسل: {إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي بالإرسال على زعمكم، لا أنهم أقروا أنهم أرسلوا. {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ} أي في ريب ومرية. {مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ} من التوحيد. {مُرِيبٍ} أي موجب للريبة، يقال: أربته إذ فعلت أمرا أوجب ريبة وشكا، أي نظن أنكم تطلبون الملك والدنيا.