فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (25):

{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}
قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} أي للحساب والجزاء. {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تقدم.

.تفسير الآية رقم (26):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ} يعني آدم عليه السلام {مِنْ صَلْصالٍ}. أي من طين يابس، عن ابن عباس وغيره. والصلصال: الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار، عن أبى عبيدة. وهو قول أكثر المفسرين. وأنشد أهل اللغة:
كعدو المصلصل الجوال

وقال مجاهد: هو الطين المنتن، واختاره الكسائي. قال: وهو من قول العرب: صل اللحم واصل إذا أنتن- مطبوخا كان أو نيئا- يصل صلولا. قال الحطيئة:
ذاك فتى يبذل ذا قدره ** لا يفسد اللحم لديه الصلول

وطين صلال ومصلال، أي يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد. فكان أول ترابا، أي متفرق الاجزاء ثم بل فصار طينا، ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا، أي متغيرا، ثم يبس فصار صلصالا، على قول الجمهور. وقد مضى في البقرة بيان هذا. والحمأ: الطين الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين، تقول منه: حميت البئر حمأ بالتسكين إذا نزعت حماتها. وحميت البئر حمأ بالتحريك كثرت حماتها. وأحماتها إحماء ألقيت الحمأة، عن ابن السكيت.
وقال أبو عبيدة: الحمأة بسكون الميم مثل الكمأة. والجمع حمأ، مثل تمرة وتمر. والحمأ المصدر، مثل الهلع والجزع، ثم سمى به. والمسنون المتغير. قال ابن عباس: هو التراب المبتل المنتن، فجعل صلصالا كالفخار. ومثله قول مجاهد وقتادة، قالا: المنتن المتغير، من قولهم: قد أسن الماء إذا تغير، ومنه {يَتَسَنَّهْ} و{ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ}. ومنه قول أبى قيس بن الأسلت:
سقت صداي رضابا غير ذى أسن ** كالمسك فت على ماء العناقيد

وقال الفراء: هو المتغير، وأصله من قولهم: سننت الحجر على الحجر إذا حككته به. وما يخرج من الحجرين يقال له: السنانة والسنين، ومنه المسن. قال الشاعر:
ثم خاصرتها إلى القبة الحم ** راء تمشى تمشى في مرمر مسنون

أي محكول مملس. حكى أن يزيد بن معاوية قال لأبيه: ألا ترى عبد الرحمن بن حسان يشبب بابنتك. فقال معاوية: وما قال؟ فقال قال:
هي زهراء مثل لؤلوة الغو ** اص ميزت من جوهر مكنون

فقال معاوية: صدق! فقال يزيد إنه يقول:
وإذا ما نسبتها لم تجدها ** في سناء من المكارم دون

فقال: صدق! فقال: أين قوله:
ثم خاصرتها

البيت. فقال معاوية: كذب.
وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب: سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. والسن الصب.
وروى علي بن أبى طلحة عن ابن عباس قال: المسنون الرطب، وهذا بمعنى المصبوب، لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب. النحاس: وهذا قول حسن، لأنه يقال: سننت الشيء أي صببته. قال أبو عمرو بن العلاء: ومنه الأثر المروي عن عمر: أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه. والشن بالشين تفريق الماء، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق.
وقال سيبويه: المسنون المصور. أخذ من سنة الوجه وهو صورته.
وقال ذو الرمة:
تريك سنة وجه مفرقة ** ملساء ليس بها خال ولا ندب

وقال الأخفش: المسنون. المنصوب القائم، من قولهم: وجه مسنون إذا كان فيه طول. وقد قيل: إن الصلصال للتراب المدقق، حكاه المهدوي. ومن قال: إن الصلصال هو المنتن فأصله صلال، فأبدل من إحدى اللامين الصاد. و{مِنْ حَمَإٍ} مفسر لجنس الصلصال، كقولك: أخذت هذا من رجل من العرب.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)}
قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل آدم.
وقال الحسن: يعني إبليس، خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام. وسمي جانا لتواريه عن الأعين. وفى صحيح مسلم من حديث ثابت عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لما صور الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به وينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك». {من نار السموم} قال ابن مسعود: نار السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من نار جهنم.
وقال ابن عباس: السموم الريح الحارة التي تقتل. وعنه: أنها نار لا دخان لها، الصواعق تكون منها، وهى نار تكون بين السماء والحجاب. فإذا أحدث الله أمرا اخترقت الحجاب فهوت الصاعقة إلى ما أمرت. فالهدة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب.
وقال الحسن: نار السموم نار دونها حجاب، والذي تسمعون من انغطاط السحاب صوتها. وعن ابن عباس أيضا قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة- قال- وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار. قلت: هذا فيه نظر، فإنه يحتاج إلى سند يقطع العذر، إذ مثله لا يقال من جهة الرأى. وقد خرج مسلم من حديث عروة عن عائشة قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم». فقوله: «خلقت الملائكة من نور» يقتضى العموم. والله أعلم.
وقال الجوهري: مارج من نار نار لا دخان لها خلق منها الجان، والسموم الريح الحارة تؤنث، يقال منه: سم يومنا فهو يوم مسموم، والجمع سمائم. قال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار. القشيري: وسميت الريح الحارة سموما لدخولها بلطفها في مسام البدن.

.تفسير الآيات (28- 29):

{وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} تقدم في البقرة. {إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ} من طين {فَإِذا سَوَّيْتُهُ} أي سويت خلقه وصورته. {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} النفخ إجراء الريح في الشيء. والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق إلى خالق، فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما، كقوله: «أرضى وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله». ومثله {وروح منه} وقد تقدم في النساء مبينا. وذكرنا في كتاب التذكرة الأحاديث الواردة التي تدل على أن الروح جسم لطيف، وأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد. وسيأتي ذلك إن شاء الله. ومن قال إن الروح هو الحياة قال أراد: فإذا ركبت فيه الحياة. {فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} أي خروا له ساجدين. وهو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة. ولله أن يفضل من يريد، ففضل الأنبياء على الملائكة. وقد تقدم في البقرة هذا المعنى.
وقال القفال: كانوا أفضل من آدم، وامتحنهم الله بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل. وهو مذهب المعتزلة.
وقيل: أمروا بالسجود لله عند آدم، وكان آدم قبلة لهم.

.تفسير الآيات (30- 31):

{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)}
قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ} فيه مسألتان: الأولى: لا شك أن إبليس كان مأمورا بالسجود، لقول: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وإنما منعه من ذلك الاستكبار والاستعظام، كما تقدم في البقرة بيانه. ثم قيل: كان من الملائكة، فهو استثناء من الجنس.
وقال قوم: لم يكن من الملائكة، فهو استثناء منقطع. وقد مضى في {البقرة} هذا كله مستوفى.
وقال ابن عباس: الجان أبو الجن وليسوا شياطين. والشياطين ولد إبليس، لا يموتون إلا مع إبليس. والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. فآدم أبو الانس. والجان أبو الجن. وإبليس أبو الشياطين، ذكره الماوردي. والذي تقدم في البقرة خلاف هذا، فتأمله هناك.
الثانية: الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي، حتى لو قال: لفلان على دينار إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا قفيز حنطة، وما جانس ذلك كان مقبولا، ولا يسقط عنه من المبلغ قيمة الثوب والحنطة. ويستوي في ذلك المكيلات والموزونات والمقدرات.
وقال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما: استثناء المكيل من الموزون والموزون من المكيل جائز، حتى لو استثنى الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم قبل. فأما إذا استثنى المقومات من المكيلات أو الموزونات، والمكيلات من المقومات، مثل أن يقول: على عشرة دنانير إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا دينارا لا يصح الاستثناء، ويلزم المقر جميع المبلغ.
وقال محمد بن الحسن: الاستثناء من غير الجنس لا يصح، ويلزم المقر جملة ما أقر به. والدليل لقول الشافعي أن لفظ الاستثناء يستعمل في الجنس وغير الجنس، قال الله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً} فاستثنى السلام من جملة اللغو. ومثله {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} وإبليس من جملة الملائكة، قال الله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}.
وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس

فاستثنى اليعافير وهي ذكور الظباء، والعيس وهى الجمال البيض من الأنيس، ومثله قول النابغة:
حلفت يمينا غير ذى مثنوية ** ولا علم إلا حسن ظن بصاحب

.تفسير الآيات (32- 35):

{قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)}
قوله تعالى: {قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ} أي ما المانع لك. {أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} أي في ألا تكون. {قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} بين تكبره وحسده، وأنه خير منه، إذ هو من نار والنار تأكل الطين، كما تقدم في الأعراف بيانه. {قالَ فَاخْرُجْ مِنْها} أي من السموات، أو من جنة عدن، أو من جملة الملائكة. {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي مرجوم بالشهب.
وقيل: ملعون مشئوم. وقد تقدم هذا كله مستوفى في البقرة والأعراف. {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} أي لعنتي، كما في سورة ص.

.تفسير الآيات (36- 38):

{قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} هذا السؤال من إبليس لم يكن عن ثقته منه بمنزلته عند الله تعالى، وأنه أهل أن يجاب له دعاء، ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه، كفعل الآيس من السلامة. وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون: ألا يموت، لان يوم البعث لا موت فيه ولا بعده. {قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} يعني من المؤجلين. قال ابن عباس: {أراد به النفخة الأولى}، أي حين تموت الخلائق.
وقيل: الوقت المعلوم الذي استأثر الله بعلمه، ويجهله إبليس. فيموت إبليس ثم يبعث، قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ}. وفى كلام الله تعالى له قولان: أحدهما- كلمه على لسان رسوله.
الثاني- كلمه تغليظا في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب.

.تفسير الآية رقم (39):

{قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)}
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} تقدم معنى الإغواء والزينة في الأعراف. وتزيينه هنا يكون بوجهين: إما بفعل المعاصي، وإما بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة. ومعنى: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي لأضلنهم عن طريق الهدى.
وروى ابن لهيعة عبد الله عن دراج أبى السمح عن أبى الهيثم عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن إبليس قال يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغوى بنى آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال الرب وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني».

.تفسير الآية رقم (40):

{إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}
قرأ أهل المدينة واهل الكوفة بفتح اللام، أي الذين استخلصتهم وأخلصتهم. وقرأ الباقون بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء. حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلصين لله فقال: «الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس».