فصل: تفسير الآية رقم (67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (67):

{وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}
الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ} قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون، فحذف {ما} ودل على حذفه قوله: {منه}.
وقيل:
المحذوف شي، والامر قريب.
وقيل: معنى {مِنْهُ} أي من المذكور، فلا يكون في الكلام حذف وهو أولى. ويجوز أن يكون قوله: {وَمِنْ ثَمَراتِ} عطفا على الأنعام، أي ولكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة. ويجوز أن يكون معطوفا على {مِمَّا} أي ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات.
الثانية: قولة تعالى: {سَكَراً} السكر ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين.
وقال بهذا القول ابن جبير والنخعي والشعبي وأبو ثور. وقد قيل: إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام.
وقيل: السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكرا لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. قال ابن العربي: أسد، هذه الأقوال قول ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى: أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم. والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فتكون منسوخة، فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني. قلت: فعلى أن السكر الخمر أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن. قال ابن عباس: الحبشة يسمون الخل السكر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبى ليلى والكلبي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، كلهم قالوا: السكر ما حرمه الله من ثمرتيهما. وكذا قال أهل اللغة: السكر اسم للخمر وما يسكر، وأنشدوا:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ** إذا جرى فيهم المزاء والسكر

والرزق الحسن: ما أحله الله من مرتيهما.
وقيل: إن قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} خبر معناه الاستفهام بمعنى الإنكار، أي أتتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا الخل والزبيب والتمر، كقوله: {فَهُمُ الْخالِدُونَ} أي أفهم الخالدون. والله أعلم.
وقال أبو عبيدة: السكر الطعم، يقال: هذا سكر لك أي طعم. وأنشد:
جعلت عيب الأكرمين سكرا

أي جعلت ذمهم طعما. وهذا اختيار الطبري أن السكر ما يطعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد، مثل {نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ} وهذا حسن ولا نسخ، إلا أن الزجاج قال: قول أبى عبيدة هذا لا يعرف، واهل التفسير على خلافه، ولا حجة له في البيت الذي أنشده، لان معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس.
وقال الحنفيون: المراد بقوله: {سَكَراً} ما لا يسكر من الأنبذة، والدليل عليه أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز، وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «حرم الله الخمر بعينها والسكر من غيرها». وبما رواه عبد الملك بن نافع عن ابن عمر قال: رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عند الركن، ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فرده إلى صاحبه، فقال له حينئذ رجل من القوم: يا رسول الله، إحرام هو؟ فقال: «عليَّ بالرجل» فأتى به فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال: «إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء».
وروى أنه عليه السلام كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم، فإذا كان من اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخادم إذا تغير، ولو كان حراما ما سقاه إياه. قال الطحاوي: وقد روى أبو عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب، خرجه الدارقطني أيضا.
ففي هذا الحديث وما كان مثله، أن غير الخمر لم تحرم عينه كما حرمت الخمر بعينها. قالوا: والخمر شراب العنب خلاف فيها، ومن حجتهم أيضا ما رواه شريك بن عبد الله، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون قال قال عمر بن الخطاب: إنا نأكل لحوم هذه الإبل وليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ. قال شريك: ورأيت الثوري يشرب النبيذ في بيت حبر أهل زمانه مالك بن مغول. والجواب أن قولهم: إن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده ولا يكون امتنانه إلا بما أحل فصحيح، بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر كما بيناه فيكون منسوخا كما قدمناه. قال ابن العربي: إن قيل كيف ينسخ هذا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ، قلنا: هذا كلام من لم يتحقق الشريعة، وقد بينا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي أو عن إعطاء ثواب فضلا من الله فهو الذي لا يدخله النسخ، فأما إذا تضمن الخبر حكما شرعيا فالأحكام تتبدل وتنسخ، جاءت بخبر أو أمر، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ وإنما يرجع إلى ما تضمنه، فإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}. المعنى أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ويكلف ما يشاء، ويرفع من ذلك بعدل ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب. قلت: هذا تشنيع شنيع حتى يلحق فيه العلماء الأخيار في قصور الفهم بالكفار، والمسألة أصولية، وهى أن الاخبار عن الأحكام الشرعية هل يجوز نسخها أم لا؟ اختلف في ذلك، والصحيح جوازه لهذه الآية وما كان مثلها، ولان الخبر عن مشروعية حكم ما يتضمن طلب ذلك المشروع، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي الذي يستدل على نسخه. والله أعلم. وأما ما ذكروا من الأحاديث فالأول والثاني ضعيفان، لأنه عليه السلام قد روى عنه بالنقل الثابت أنه قال: «كل شراب أسكر فهو حرام» وقال: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام» وقال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام». قال النسائي: وهؤلاء أهل الثبت والعدالة مشهورون بصحة النقل، وعبد الملك لا يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده من أشكاله جماعة، وبالله التوفيق. وأما الثالث وإن كان صحيحا فإنه ما كان يسقيه للخادم على أنه مسكر، وإنما كان يسقيه لأنه متغير الرائحة. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره أن توجد منه الرائحة، فلذلك لم يشربه، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب بأن قيل له: إنا نجد منك ريح مغافير، يعني ريحا منكرة، فلم يشربه بعد. وسيأتي في التحريم. وأما حديث ابن عباس فقد روى عنه خلاف ذلك من رواية عطاء وطاوس ومجاهد أنه قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»، ورواه عنه قيس بن دينار. وكذلك فتياه في المسكر، قاله الدارقطني. والحديث الأول رواه عنه عبد الله بن شداد وقد خالفه الجماعة، فسقط القول به مع ما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما ما روى عن عمر من قوله: ليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ، فإنه يريد غير المسكر بدليل ما ذكرنا. وقد روى النسائي عن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر بن الخطاب قد خلل. قال النسائي: ومما يدل على صحة هذا حديث السائب، قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم: حدثني مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إنى وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان مسكرا جلدته، فجلده عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد تاما. وقد قال في خطبته على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما بعد، أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة: من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل. وقد تقدم في المائدة. فإن قيل: فقد أحل شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه. قلنا: ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي، وهذه زلة من عالم وقد حذرنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة. وذكر النسائي أيضا عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحا إلا عن إبراهيم. قال أبو أسامة: ما رأيت رجلا أطلب للعلم من عبد الله بن المبارك الشامات ومصر واليمن والحجاز. وأما الطحاوي وسفيان لو صح ذلك عنهما لم يحتج بهما على من خالفهما من الأئمة في تحريم المسكر مع ما ثبت من السنة، على أن الطحاوي قد ذكر في كتابه الكبير في الاختلاف خلاف ذلك. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد له: قال أبو جعفر الطحاوي اتفقت الامة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر ومستحله كافر. واختلفوا في نقيع التمر إذا غلى وأسكر. قال: فهذا يدلك على أن حديث يحيى بن أبى كثير عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب» غير معمول به عندهم، لأنهم لو قبلوا الحديث لاكفروا مستحل نقيع التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذي قد اشتد وبلغ أن يسكر. قال: ثم لا يخلو من أن يكون التحريم معلقا بها فقط غير مقيس عليها غيرها أو يجب القياس عليها، فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا غلى وأسكر كثيره وكذلك نقيع الزبيب. قال: فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. قال: وقد روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «كل مسكر حرام» واستغنى عن سنده لقبول الجميع له، وإنما الخلاف بينهم في تأويله، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر.
وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكر عنده كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل. قلت: فهذا يدل على أنه محرم عند الطحاوي لقوله، فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. وقد روى الدارقطني في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها وإنما حرمها لعاقبتها، فكل شراب يكون عاقبته كعاقبة الخمر فهو حرام كتحريم الخمر. قال ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وما روى عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذي يسكر كثيره فللقوم ذنوب يستغفرون الله منها، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين: إما مخطئ أخطأ في التأويل على حديث سمعه، أو رجل أتى ذنبا لعله أن يكثر من الاستغفار لله تعالى، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الله على الأولين والآخرين من هذه الامة. وقد قيل في تأويل الآية: إنها إنما ذكرت للاعتبار، أي من قدر على خلق هذه الأشياء قادر على البعث، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالا أو حراما، فاتخاذ السكر لا يدل على التحريم، وهو كما قال تعالى: {قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ} والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (68):

{وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} قد مضى القول في الوحى وأنه قد يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها}. ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها. وقد أخبر عز وجل بذلك عن الموات فقال: {تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها}. قال إبراهيم الحربي. لله عز وجل في الموات قدرة لم يدر ما هي، لم يأتها رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرفها ذلك، أي ألهمها. ولا خلاف بين المتأولين أن الوحى هنا بمعنى الإلهام. وقرأ يحيى بن وثاب {إلى النحل} بفتح الحاء. وسمي نحلا لان الله عز وجل نحله العسل الذي يخرج منه، قاله الزجاج. الجوهري: والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والأنثى، حتى يقال: يعسوب. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.
وروى من حديث أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الذبان كلها في النار يجعلها عذابا لأهل النار إلا النحل» ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول.
وروى عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد، خرجه أبو داود أيضا، وسيأتي في النمل إن شاء الله تعالى.
الثانية: قوله تعالى: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ} هذا إذا لم يكن لها مليك. {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار وام فيما يعرش ابن آدم من الاجباح والخلايا والحيطان وغيرها. وعرش معناه هنا هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر، ومن هذا لفظة العرش. يقال: عرش يعرش ويعرش بكسر الراء وضمها، وقرى بهما. قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف في ذلك عن عاصم.
الثالثة: قال ابن العربي: ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك أن الاشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج، إلا الشكل المسدس، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة.

.تفسير الآية رقم (69):

{ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}
قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار. {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} أي طرق ربك. والسبل: الطرق، وأضافها إليه لأنه خالقها. أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر. {ذُلُلًا} جمع ذلول وهو المنقاد، أي مطيعة مسخرة. ف {ذُلُلًا} حال من النحل. أي تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها، لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا، قاله ابن زيد.
وقيل: المراد بقوله: {ذُلُلًا} السبل. واليعسوب سيد النحل، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت. قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ} فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها} رجع الخطاب إلى الخبر على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة فقال: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ} يعني العسل. وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وورد عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. فظاهر هذا أنه من غير الفم. وبالجملة فإنه يخرج ولا يدرى من فيها أو أسفلها، ولكن لا يتم صلاحه إلا بحمى أنفاسها. وقد صنع أرسطاطاليس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين، ذكره الغزنوي. وقال: {مِنْ بُطُونِها} لان استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن.
الثانية: قوله تعالى: {مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل، والام واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعى، ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «جرست نحله العرفط»حين شبهت رائحته برائحة المغافير.
الثالثة: قوله تعالى: {فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ} الضمير للعسل، قال الجمهور. أي في العسل شفاء للناس.
وروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك والفراء وابن كيسان: الضمير للقرآن، أي في القرآن شفاء. النحاس: وهذا قول حسن، أو فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس.
وقيل: العسل فيه شفاء، وهذا القول بين أيضا، لان أكثر الأشربة والمعجونات التي يتعالج بها أصلها من العسل. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصح عنهم، ولو صح نقلا لم يصح عقلا، فإن مساق الكلام كله للعسل، ليس للقرآن فيه ذكر. قال ابن عطية: وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبى جعفر العباسي، فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بنى هاشم، فاضحك الحاضرين وبهت الآخر وظهرت سخافة قوله.
الرابعة: اختلف العلماء في قوله تعالى: {فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ} هل هو على عمومه أم لا، فقالت طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد، فروى عن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا. وحكى النقاش عن أبى وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويستمشى بالعسل ويتداوى بالعسل.
وروى أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بالماء، فإن الله تعالى يقول: {وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً} ثم قال: ائتوني بعسل، فإن الله تعالى يقول: {فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ} وائتوني بزيت، فإن الله تعالى يقول: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ} فجاءوه بذلك كله فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ. ومنهم من قال: إنه على العموم إذا خلط بالخل ويطبخ فيأتي شرابا ينتفع به في كل حالة من كل داء. وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص ولا يقتضى العموم في كل علة وفى كل إنسان، بل إنه خبر عن أنه يشفى كما يشفى غيره من الأدوية في بعض وعلى حال دون حال، ففائدة الآية إخبار منه في أنه دواء لما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية في الأشربة والمعاجين، وليس هذا بأول لفظ خصص فالقرآن مملوء منه ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام. ومما يدل على أنه ليس على العموم أن {شِفاءٌ} نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم ومختلفى أهل الأصول. لكن قد حملته طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم. فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع والأمراض، وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والإيقان. ابن العربي: ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء، والكل من حكم الفعال لما يشاء.
الخامسة: إن قال قائل: قد رأينا من ينفعه العسل ومن يضره، فكيف يكون شفاء للناس؟ قيل له: الماء حياة كل شيء وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يضاده من علة في البدن، وقد رأينا شفاء العسل في أكثر هذه الأشربة، قال معناه الزجاج. وقد اتفق الأطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السكنجبين في كل مرض، وأصله العسل وكذلك سائر المعجونات، على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حسم داء الاشكال وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكى بطنه بشرب العسل، فلما أخبره أخوه بأنه لم يزده إلا استطلاقا أمره بعود الشراب له فبرئ، وقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك».
السادسة: اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال، فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفى المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طوية، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم. وأما ما حكى من الإجماع فدليل على جهله بالنقل حيث لم يقيد وأطلق. قال الامام أبو عبد الله المازري: ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، منها الإسهال الحادث عن التخم والهيضات، والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشرب العسل فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب.
السابعة: في قوله تعالى: {فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ} دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافا لمن كره ذلك من جلة العلماء، وهو يرد على الصوفية الذين يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضى بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يجوز له مداواة. ولا معنى لمن أنكر ذلك، روى الصحيح عن جابر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله».
وروى أبو داود والترمذي عن أسامة بن شريك قال قالت الاعراب: ألا نتداوى يا رسول الله؟ قال: «نعم. يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحد» قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: «الهرم» لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ورو ي عن أبى خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: «هي من قدر الله» قال: حديث حسن، ولا يعرف لابي خزامة غير هذا الحديث.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار وما أحب أن أكتوى»أخرجه الصحيح. والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وعلى إباحة التداوي والاسترقاءجمهور العلماء. روى أن ابن عمر اكتوى من اللقوة ورقي من العقرب. وعن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقى ولده الترياق.
وقال مالك: لا بأس بذلك. وقد احتج من كره ذلك بما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «دخلت أمة بقضها وقضيضها الجنة كانوا لا يسرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ». قالوا: فالواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاما بالله وتوكلا عليه وثقه به وانقطاعا إليه، فإن الله تعالى قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها}. وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل الفضل والأثر، وهو قول ابن مسعود وأبى الدرداء رضوان الله عليهم. دخل عثمان بن عفان على ابن مسعود في مرضه الذي قبض فيه فقال له عثمان: ما تشتكي؟ قال ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال رحمة ربى. قال: ألا أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني... وذكر الحديث. وسيأتي بكماله في فضل الواقعة إن شاء الله تعالى. وذكر وكيع قال: حدثنا أبو هلال عن معاوية بن قرة قال: مرض أبو الدرداء فعادوه وقالوا: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أضجعني. وإلى هذا ذهب الربيع بن خيثم. وكره سعيد بن جبير الرقى. وكان الحسن يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل. وأجاب الأولون عن الحديث بأنه لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه بدليل كي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبيا يوم الأحزاب على أكحله لما رمى. وقال: «الشفاء في ثلاثة» كما تقدم. ويحتمل أن يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ} على ما يأتي بيانه. ورقي أصحابه وأمرهم بالرقية، على ما يأتي بيانه.
الثامنة: ذهب مالك وجماعة أصحابه إلى أن لا زكاة في العسل وإن كان مطعوما مقتاتا. واختلف فيه قول الشافعي، والذي قطع به في قوله الجديد: أنه لا زكاة فيه.
وقال أبو حنيفة بوجوب زكاة العسل في قليله وكثيره، لان النصاب عنده فيه ليس بشرط.
وقال محمد بن الحسن: لا شيء فيه حتى يبلغ ثمانية أفراق، والفرق ستة وثلاثون رطلا من أرطال العراق.
وقال أبو يوسف: في كل عشرة أزقاق زق، متمسكا بما رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «في العسل في كل عشرة أزقاق زق» قال أبو عيسى: في إسناده مقال، ولا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الباب كبير شي، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شي.
التاسعة: قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي يعتبرون، ومن العبرة في النحل بإنصاف النظر وإلطاف الفكر في عجيب أمرها. فيشهد اليقين بأن ملهمها الصنعة اللطيفة مع البنية الضعيفة، وحذقها باحتيالها في تفاوت أحوالها هو الله سبحانه وتعالى، كما قال: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية. ثم أنها تأكل الحامض والمر والحلو والمالح والحشائش الضارة، فيجعله الله تعالى عسلا حلوا وشفاء، وفى هذا دليل على قدرته.