فصل: تفسير الآية رقم (76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (76):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)}
قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ} هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى، قاله قتادة وغيره.
وقال ابن عباس: الأبكم عبد كان لعثمان رضي الله عنه، وكان يعرض عليه الإسلام فيأبى، ويأمر بالعدل عثمان. وعنه أيضا أنه مثل لابي بكر الصديق ومولى له كافر.
وقيل: الأبكم أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر العنسي، وعنس بالنون حي من مذحج، وكان حليفا لبنى مخزوم رهط أبى جهل، وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام ويعذب أمه سمية، وكانت مولاة لابي جهل، وقال لها ذات يوم: إنما آمنت بمحمد لأنك تحبينه لجماله، ثم طعنها بالرمح في قبلها فماتت، فهي أول شهيد مات في الإسلام، رحمها الله. من كتاب النقاش وغيره. وسيأتي هذا في آية الإكراه مبينا إن شاء الله تعالى.
وقال عطاء: الأبكم أبى بن خلف، كان لا ينطق بخير. {وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ} أي قومه لأنه كان يؤذيهم ويؤذى عثمان بن مظعون.
وقال مقاتل: نزلت في هشام بن عمرو بن الحارث، كان كافرا قليل الخير يعادى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: إن الأبكم الكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن جملة بجملة، روى عن ابن عباس وهو حسن لأنه يعم. والأبكم الذي لا نطق له. وقيل الذي لا يعقل. وقيل الذي لا يسمع ولا يبصر. وفى التفسير إن الأبكم ها هنا الوثن. بين أنه لا قدرة له ولا أمر، وأن غيره ينقله وينحته فهو كل عليه. والله الآمر بالعدل، الغالب على كل شي.
وقيل: {وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ} أي ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه. وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر:
أكول لمال الكل قبل شبابه ** إذا كان عظم الكل غير شديد

والكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد. والكل العيال، والجمع الكلول، يقال منه: كل السكين كلا أي غلظت شفرته فلم يقطع. {أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} قرأ الجمهور {يُوَجِّهْهُ} وهو خط المصحف، أي أينما يرسله صاحبه لا يأت بخير، لأنه لا يعرف ولا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه. وقرأ يحيى بن وثاب {أَيْنَما يُوَجِّهْهُ} على الفعل المجهول. وروى عن ابن مسعود أيضا {توجه} على الخطاب. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي هل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم.

.تفسير الآية رقم (77):

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)}
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} تقدم معناه وهذا متصل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي شرع التحليل والتحريم إنما يحسن ممن يحيط بالعواقب والمصالح وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بها فلم تتحكمون. {وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} وتجازون فيها بأعمالكم. والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة. واللمح النظر بسرعة، يقال لمحه لمحا ولمحانا. ووجه التأويل أن الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كلمح البصر.
وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتى في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها، أي يقول للشيء كن فيكون.
وقيل: إنما مثل بلمح البصر لأنه يلمح السماء مع ما هي عليه من البعد من الأرض.
وقيل: هو تمثيل للقرب، كما يقول القائل: ما السنة إلا لحظة، وشبهه.
وقيل: المعنى هو عند الله كذلك لا عند المخلوقين، دليله قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً}. {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} ليس {أَوْ} للشك بل للتمثيل بأيهما أراد الممثل.
وقيل: دخلت لشك المخاطب.
وقيل: {أَوْ} بمنزلة بل. {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقدم.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}
قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ذكر أن من نعمه أن أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشيء. وفية ثلاثة أقاويل: أحدها- لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم.
الثاني- لا تعلمون شيئا مما قضى عليكم من السعادة والشقاء.
الثالث- لا تعلمون شيئا من منافعكم، وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أي التي تعلمون بها وتدركون، لان الله جعل ذلك لعباده قبل إخراجهم من البطون وإنما أعطاهم ذلك بعد ما أخرجهم، أي وجعل لكم السمع لتسمعوا به الامر والنهى، والأبصار لتبصروا بها آثار صنعه، والأفئدة لتصلوا بها إلى معرفته. {وَالْأَفْئِدَةَ} جمع الفؤاد نحو غراب وأغربه. وقد قيل في ضمن قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} إثبات النطق لان من لم يسمع لم يتكلم، وإذا وجدت حاسة السمع وجد النطق. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة {أُمَّهاتِكُمْ} هنا وفى النور والزمر والنجم، بكسر الهمزة والميم. وأما الكسائي فكسر الهمزة وفتح الميم، وإنما كان هذا للاتباع. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم على الأصل. واصل الأمهات: أمات، فزيدت الهاء تأكيدا كما زادوا هاء في أهرقت الماء وأصله أرقت. وقد تقدم هذا المعنى في الفاتحة. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فيه تأويلان: أحدهما: تشكرون نعمه.
الثاني- يعني تبصرون آثار صنعته، لان إبصارها يؤدى إلى الشكر.

.تفسير الآية رقم (79):

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}
قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب {تروا} بالتاء على الخطاب، واختاره أبو عبيد. الباقون بالياء على الخبر. {مُسَخَّراتٍ} مذللات لأمر الله تعالى، قاله الكلبي.
وقيل: {مُسَخَّراتٍ} مذللات لمنافعكم. {فِي جَوِّ السَّماءِ} الجو ما بين السماء والأرض، وأضاف الجو الى السماء لارتفاعه عن الأرض. وفى قوله: {مُسَخَّراتٍ} دليل على مسخر سخرها ومدبر مكنها من التصرف. {ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} في حال القبض والبسط والاصطفاف. بين لهم كيف يعتبرون بها على وحدانيته. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ} أي علامات وعبرا ودلالات. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بالله وبما جاءت به رسلهم.

.تفسير الآية رقم (80):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ} معناه صير. وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت. وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهى التي للإقامة الطويلة. وقوله: {سَكَناً} أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره، إلا أن القول خرج على الغالب. وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، لو خلقه ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردده كيف وأين. والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع. ثم ذكر تعالى بيوت القلة والرحلة وهى:
الثانية: فقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها} أي من الأنطاع والأدم. {بُيُوتاً} يعني الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الاسفار. {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} الظعن: سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع، ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع ** وجرى ببينهم الغراب الأبقع

والظعن الهودج أيضا، قال:
ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا ** وإذ جادت بوشك البين غربان

وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر.
وقيل: يحتمل أن يعم به بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف، لان هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها، نحا إلى ذلك ابن سلام. وهو احتمال حسن، ويكون قوله: {وَمِنْ أَصْوافِها} ابتداء كلام، كأنه قال جعل أثاثا، يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك، قال الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ** بذي الزي الجميل من الأثاث

ويحتمل أن يريد بقوله: {مِنْ جُلُودِ الأنعام} بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا. ويكون قوله: {وَمِنْ أَصْوافِها} عطفا على قوله: {مِنْ جُلُودِ الأنعام} أي جعل بيوتا أيضا. قال ابن العربي: وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعزبت عنه بلادنا، فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف، وقد كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبة من أدم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعد ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترفا ولا رآه سرفا، لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان. ومن غريب ما جرى أنى زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك، فقال: هذا الخباء لنا كثير، وكان في صنعنا من الحقير، فقلت: ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها، فبهت، ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه.
الثالثة:: {مِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها} أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، كما أذن في الأعظم، وهو ذبحها واكل لحومها، ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا. وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها، وهذا كقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ} فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم، وسكت عن ذكر الثلج، لأنه لم يكن في بلادهم، وهو مثله في الصفة والمنفعة، وقد ذكرهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معا في التطهير فقال: «اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد». قال ابن عباس: الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط.
وقيل: إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف، إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف وهذا فيه نظر، فإنه سبحانه يقول: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ} حسبما تقدم بيانه في الأعراف وقال هنا: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ} فأشار إلى القطن والكتان في لفظة {سَرابِيلَ} والله أعلم. و{أَثاثاً} قال الخليل: متاعا منضما بعضه إلى بعض، من أث إذا كثر. قال:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ** أثيث كقنو النخلة المتعثكل

ابن عباس: {أَثاثاً} ثيابا. وتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالاصواف والأوبار والاشعار على كل حال، ولذلك قال أصحابنا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ، وكذلك روت أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل»لأنه مما لا يحله الموت، سواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا، كشعر ابن آدم والخنزير، فإنه طاهر كله، وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال: القرن والسن والعظم مثل الشعر، قال: لان هذه الأشياء كلها لا روح فيها لا تنجس بموت الحيوان.
وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي: إن الشعور كلها نجسة ولكنها تطهر بالغسل. وعن الشافعي ثلاث روايات: الأولى: طاهرة لا تنجس بالموت.
الثانية: تنجس.
الثالثة: الفرق بين شعر ابن آدم وغيره، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس. ودليلنا عموم قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوافِها} الآية. فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها، ولم يخصي شعر الميتة من المذكاة، فهو عموم إلا أن 0 يمنع منه دليل. وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع، فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل. فإن قيل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وذلك عبارة عن الجملة. قلنا: نخصه بما ذكرنا، فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف، وليس في آيتكم ذكره صريحا، فكان دليلنا أولى. والله أعلم. وقد عول الشيخ الامام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خلقة، فهو ينمى بنمائه ويتنجس بموته كسائر الاجزاء. وأجيب بأن الماء ليس بدليل على الحياة، لان النبات ينمى وليس بحي. وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الإبانة التي تدل على عدم الاحساس الذي يدل على عدم الحياة. وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم.
وقال ابن وهب مثل قول أبى حنيفة. ولنا قول ثالث- هل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعر، قولان. وكذلك الشعرى من الريش حكمه حكم الشعر، والعظمى منه حكمه حكمه. ودليلنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» وهذا عام فيها وفى كل جزء منها، إلا ما قام دليله، ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى: {قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}، وقال تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها}، وقال: {فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً}، وقال: {أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً} فالأصل هي العظام، والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد. وفى حديث عبد الله بن عكيم: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب». فإن قيل: قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى اله عليه وسلم قال في شاة ميمونة: «ألا انتفعتم بجلدها»؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة. فقال: «إنما حرم أكلها» والعظم لا يؤكل. قلنا: العظم يؤكل، وخاصة عظم الحمل الرضيع والجدى والطير، وعظم الكبير يشوى ويؤكل. وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه، وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت. والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى- {مِنْ جُلُودِ الأنعام} عام في جلد الحي والميت، فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، وبه قال ابن شهاب الزهري والليث بن سعد. قال الطحاوي: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث. قال أبو عمر: يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح، وهو قول أباه جمهور أهل العلم. وقد روى عنهما خلاف هذا القول، والأول أشهر. قلت: قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري، وحديث بقية عن الزبيدي، وحديث محمد بن كثير العبدى وأبى سلمة المنقري عن سليمان بن كثير عن الزهري، وقال في آخرها: هذه أسانيد صحاح.
السادسة- اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا، فذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك. وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبد الحكم أيضا. قال ابن خويز منداد: وهو قول الزهري والليث. قال: والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبد الحكم، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه. وفى المدونة لابن القاسم:
من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته. وحكى أذلك قول مالك.
وذكر أبو الفرج أن مالكا قال: من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شيء عليه. قال إسماعيل: إلا أن يكون لمجوسي.
وروى ابن وهب، وابن عبد الحكم عن مالك جواز بيعه، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده، لان الزكاة لا تعمل فيه، فالدباغ أولى. قال أبو عمر: وكل جلد ذكى فجائز استعماله للوضوء وغيره. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، ومرة قال: إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه، وتكره الصلاة عليه وبيعه، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه. وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر». وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث،. وهو اختيار ابن وهب.
السابعة: ذهب الامام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء وإن دبغت، لأنها كلحم الميتة. والاخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله. واحتج بحديث عبد الله بن عكيم- رواه أبو داود- قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأرض جهينة وأنا غلام شاب: «ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب». وفى رواية: «قبل موته بشهر». رواه القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عكيم، قال: حدثنا مشيخة لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إليهم.. قال داود بن على: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فضعفه وقال: ليس بشيء، إنما يقول حدثني الأشياخ، قال أبو عمر: ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم، لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم«ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب» قبل الدباغ، وإذا احتمل ألا يكون مخالف أفليس لنا أن نجعله مخالفا، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن، وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه«أيما إهاب دبغ فقد طهر» قبل موته بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم.
الثامنة: المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي. وعند الأوزاعي وأبى ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه.
وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه. قال ابن وضاح: وسمعت سحنونا يقول لا بأس به، وكذلك قال محمد بن عبد الحكم وداود بن على وأصحابه، لقوله عليه السلام: «أيما مسك دبغ فقد طهر». قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها، فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة. ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل: إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل، وما عداه فإنما يقال له: جلد لا إهاب. قلت: وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أكل كل ذى ناب من السباع حرام» فليست الذكاة فيها ذكاة، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة.
وروى النسائي عن المقدام بن معد يكرب قال: «نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحرير والذهب ومياثر النمور».
التاسعة: اختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة ما هو؟ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه: كل شيء دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به. وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول داود. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما- هذا، والآخر أنه لا يطهر إلا الشب والقرظ، لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي صلى اله عليه وسلم، وعليه خرج الخطابي- والله أعلم- ما رواه النسائي عن ميمونة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لو أخذتم إهابها» قالوا. إنها ميتة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يطهرها الماء والقرظ».
العاشرة: قوله تعالى: {أَثاثاً} الأثاث متاع البيت، واحدها أثاثة، هذا قول أبى زيد الأنصاري.
وقال الأموي: الأثاث متاع البيت، وجمعه آثة وأثث.
وقال غيرهما: الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه.
وقال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر، ومنه شعر أثيث أي كثير. وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف، قال امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ** أثيث كقنو النخلة المتعثكل

وقيل: الأثاث ما يلبس ويفترش. وقد تأثثت إذا اتخذت أثاثا. وعن ابن عباس رضي الله عنه {أَثاثاً} مالا. وقد تقدم القول في الحين، وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث. ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ** بذي الزي الجميل من الأثاث