فصل: تفسير الآية رقم (124):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (124):

{إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)}
قوله تعالى: {إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي لم يكن في شرع إبراهيم ولا في دينه، بل كان سمحا لا تغليظ فيه، وكان السبت تغليظا على اليهود في رفض الأعمال وترك التبسيط في المعاش بسبب اختلافهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقال: تفرغوا للعبادة في كل سبعة أيام يوما واحدا. فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فاختاروا الأحد. وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من الاختلاف، فقالت طائفة: إن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فناظروه أن السبت أفضل، فقال الله له: «دعهم وما اختاروا لأنفسهم».
وقيل: إن الله تعالى لم يعينه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعينت اليهود السبت، لان الله تعالى فرغ فيه من الخلق. وعينت النصارى يوم الأحد، لان الله تعالى بدأ فيه بالخلق. فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده. وعين الله لهذه الامة يوم الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة، فكانت خير الأمم أمة. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له- قال يوم الجمعة- فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى» فقوله: «فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه» يقوى قول من قال: إنه لم يعين لهم، فإنه لو عين لهم وعاندوا لما قيل«اخْتَلَفُوا». وإنما كان ينبغي أن يقال فخالفوا فيه وعاندوا. ومما يقويه أيضا قوله عليه السلام: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا». وهذا نص في المعنى. وقد جاء في بعض طرقه«فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم اختلفوا فيه». وهو حجة للقول الأول. وقد روى: «إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع». قوله تعالى: {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} يريد في يوم الجمعة كما بيناه، اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى. ووجه الاتصال بما قبله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر باتباع الحق، وحذر الله الامة من الاختلاف عليه فيشدد عليهم كما شدد على اليهود.

.تفسير الآية رقم (125):

{ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}
فيه مسألة واحدة- هذه الآية نزلت بمكة في وقت الامر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجى إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (126):

{وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم احد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفى كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا، لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله. ولكن ما روى الجمهور أثبت، روى الدارقطني عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى منظرا ساءه، رأى حمزة قد شق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال: «لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلا» ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهه وجعل على رجليه من الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} إلى قوله: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} فصبر. رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبى هريرة، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد.
الثانية: واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها.
وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك». رواه الدارقطني. وقد تقدم هذا في البقرة مستوفى ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الامر فقال له: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك». وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال، لان الخيانة لاحقة في ذلك، وهى رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه، فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكان الله حكم له، كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة، نسختها {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
الثالثة: في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم هذا المعنى في البقرة مستوفى، والحمد لله.
الرابعة: سمى الله تعالى الاذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب دباجة القول، وهذا بعكس قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة، قاله ابن عطية.

.تفسير الآيات (127- 128):

{وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}
فيه مسألة واحدة- قال ابن زيد: هي منسوخة بالقتال. وجمهور الناس على أنها محكمة. أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا في المثلة. {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي على قتلى أحد فإنهم صاروا إلى رحمة الله. {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ} ضيق جمع ضيقة، قال الشاعر:
كشف الضيقة عنا وفسح

وقراءة الجمهور بفتح الضاد. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، ورويت عن نافع، وهو غلط ممن رواه. قال بعض اللغويين: الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر. قال الأخفش: الضيق والضيق مصدر ضاق يضيق. والمعنى: لا يضيق صدرك من كفرهم.
وقال الفراء: الضيق ما ضاف عنه صدرك، والضيق ما يكون في الذي يتسع ويضيق، مثل الدار والثوب.
وقال ابن السكيت: هما سواء، يقال: في صدره ضيق وضيق. القتبي: ضيق مخفف ضيق، أي لا تكن في أمر ضيق فخفف، مثل هين وهين.
وقال ابن عرفة: يقال ضاق الرجل إذا بخل، وأضاق إذا افتقر. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أي اتقوا الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد. وتقدم معنى الإحسان. وقيل لهرم بن حبان عند موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ} إلى آخرها. تمت سورة النحل، والحمد لله رب العالمين.

.سورة الإسراء:

هذه السورة مكية، إلا ثلاث آيات: قوله عز وجل {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} نزلت حين جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء. وقوله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}. وقوله تعالى {إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ} الآية. وقال مقاتل: وقوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} الآية. وقال ابن مسعود رضي الله عنه في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي، يريد من قديم كسبه.

.تفسير الآية رقم (1):

{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {سُبْحانَ}اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن، لأنه لا يجرى بوجوه الاعراب، ولا تدخل عليه الالف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف لان في آخره زائدتين، تقول: سبحت تسبيحا وسبحانا، مثل كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا. ومعناه التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص. فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره، فأما قول الشاعر:
أقول لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر

فإنما ذكره على طريق النادر. وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما معنى سبحان الله؟ فقال: «تنزيه الله من كل سوء». والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه، إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء، واشتمل الصماء، فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها، فوقع {سبحان الله} مكان قولك تنزيها.
الثانية: قوله تعالى: {أَسْرى بِعَبْدِهِ} {أَسْرى} فيه لغتان: سرى وأسرى، كسقي وأسقى، كما تقدم. قال:
أسرت عليه من الجوزاء سارية ** تزجي الشمال عليه جامد البرد

وقال آخر:
حي النضيرة ربة الخدر ** أسرت إلي ولم تكن تسرى

فجمع بين اللغتين في البيتين. والاسراء: سير الليل، يقال: سريت مسري وسرى، وأسريت إسراء، قال الشاعر:
وليلة ذات ندى سريت ** ولم يلتنى من سراها ليت

وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره، والأول أعرف.
الثالثة: قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} قال العلماء: لو كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية.
وفي معناه أنشدوا:
يا قوم قلبي عند زهراء ** يعرفه السامع والرائي

لا تدعني إلا بيا عبدها ** فإنه أشرف أسمائي

وقد تقدم. قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعا للامة.
الرابعة: ثبت الاسراء في جميع مصنفات الحديث، ورى عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش: ممن رواه عشرين صحابيا. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه- قال- فركبته حتى أتيت بيت المقدس- قال- فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء- قال- ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة- قال- ثم عرج بنا إلى السماء...»وذكر الحديث. ومما ليس في الصحيحين ما خرجه الآجري والسمرقندي، قال الآجري عن أبى سعيد الخدري في قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ} قال أبو سعيد: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ليلة أسرى به، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل له أذنان يضطربان وهو البراق الذي كانت الأنبياء تركبه قبل فركبته فانطلق تقع يداه عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه ثم سمعت نداء عن يساري يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج ثم أتيت بيت المقدس الأقصى فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها ثم دخلت المسجد وصليت فيه فقال لي جبريل عليه السلام ما سمعت يا محمد فقلت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج فقال ذلك داعي اليهود ولو وقفت لتهودت أمتك- قال- ثم سمعت نداء عن يساري على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه فقال ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت لتنصرت أمتك- قال- ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك فمضيت ولم أعرج عليها فقال تلك الدنيا لو وقفت لاخترت الدنيا على الآخرة- قال- ثم أتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقيل لي خذ فاشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقال لي جبريل أصبت الفطرة ولو أنك أخذت الخمر غوت أمتك ثم جاء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بنى آدم فإذا هو أحسن ما رأيت أو لم تروا إلى الميت كيف يحد بصره إليه فعرج بنا حتى أتينا باب السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من هذا؟ قال: جبريل قالوا: ومن معك؟ قال: محمد قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال نعم ففتحوا لي وسلموا على وإذا ملك يحرس السماء يقال له إسماعيل معه سبعون ألف ملك مع كل ملك مائة ألف- قال وما يعلم جنود ربك إلا هو...»وذكر الحديث إلى أن قال: «ثم مضينا إلى السماء الخامسة وإذا أنا بهارون بن عمران المحب في قومه وحوله تبع كثير من أمته فوصفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال طويل اللحية تكاد لحيته تضرب في سرته ثم مضينا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى فسلم على ورحب بى- فوصفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال- رجل كثير الشعر ولو كان عليه قميصان خرج شعره منهما...»الحديث.
وروى البزار أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بفرس فحمل عليه، كل خطوة منه أقصى بصره... وذكر الحديث. وقد جاء في صفة البراق من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «بينا أنا نائم في الحجر إذ أتانى آت فحركني برجله فاتبعت الشخص فإذا هو جبريل عليه السلام قائم على باب المسجد معه دابة دون البغل وفوق الحمار وجهها وجه إنسان وخفها خف حافر وذنبها ذنب ثور وعرفها عرف الفرس فلما أدناها منى جبريل عليه السلام نفرت ونفشت عرفها فمسحها جبريل عليه السلام وقال يا برقة لا تنفري من محمد فوالله ما ركبك ملك مقرب ولا نبى مرسل أفضل من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أكرم على الله منه قالت قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وإني أحب أن أكون في شفاعته فقلت أنت في شفاعتي إن شاء الله تعالى...»الحديث.
وذكر أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري عن أبى سعيد الخدري قال: «لما مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإدريس عليه السلام في السماء الرابعة قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح الذي وعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة قال فإذا فيها مريم بنت عمران لها سبعون قصرا من لؤلؤ ولام موسى بن عمران سبعون قصرا من مرجانة حمراء مكللة باللؤلؤ أبوابها وأسرتها من عرق واحد فلما عرج المعراج إلى السماء الخامسة وتسبيح أهلها سبحان من جمع بين الثلج والنار من قالها مرة واحدة كان له مثل ثوابهم استفتح الباب جبريل عليه السلام ففتح له فإذا هو بكهل لم ير قط كهل أجمل منه عظيم العينين تضرب لحيته قريبا من سرته قد كان أن تكون شمطة وحوله قوم جلوس يقص عليهم فقلت يا جبريل من هذا قال هارون المحب في قومه..»وذكر الحديث. فهذه نبذة مختصرة من أحاديث الاسراء خارجة عن الصحيحين، ذكرها أبو الربيع سليمان ابن سبع بكمالها في كتاب شفاء الصدور له. ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة في حين الاسراء حين عرج به إلى السماء. واختلفوا في تاريخ الاسراء وهيئة الصلاة، وهل كان إسراء بروحه أو جسده، فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهى مما ينبغي الوقوف عليها والبحث عنها، وهى أهم من سرد تلك الأحاديث، وأنا أذكر ما وقفت عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى. فأما المسألة الأولى: وهى هل كان إسراء بروحه أو جسده، اختلف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصه مضجعه، وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق، ورؤيا الأنبياء حق. ذهب إلى هذا معاوية وعائشة، وحكى عن الحسن وابن إسحاق. وقالت طائفة: كان الاسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فجعل المسجد الأقصى غاية الاسراء. قالوا: ولو كان الاسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فإنه كان يكون أبلغ في المدح. وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه كان إسراء بالجسد وفى اليقظة، وأنه ركب البراق بمكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلي فيه ثم أسرى بجسده. وعلى هذا تدل الاخبار التي أشرنا إليها والآية. وليس في الاسراء بجسده وحال يقظته استحالة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، ولو كان مناما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده. وقوله: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى} يدل على ذلك. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس فيكذبوك، والأفضل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبه قريش فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر، وقد قال له المشركون: إن كنت صادقا فخبرنا عن عيرنا ابن لقيتها؟ قال: «بمكان كذا وكذا مررت عليها ففزع فلان» فقيل له: ما رأيت يا فلان، قال: ما رأيت شيئا! غير أن الإبل قد نفرت. قالوا: فأخبرنا متى تأتينا العير؟ قال: «تأتيكم يوم كذا وكذا». قالوا: أية ساعة؟ قال: «ما أدرى، طلوع الشمس من ها هنا أسرع أم طلوع العير من ها هنا». فقال رجل: ذلك اليوم؟ هذه الشمس قد طلعت.
وقال رجل: هذه عيركم قد طلعت، واستخبروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صفة بيت المقدس فوصفه لهم ولم يكن رآه قبل ذلك. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراى فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط- قال- فرفعه الله لي أنظر إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به» الحديث. وقد اعترض قول عائشة ومعاوية«إنما أسرى بنفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» بأنها كانت صغيرة لم تشاهد، ولا حدثت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما معاوية فكان كافرا في ذلك الوقت غير مستشهد للحال، ولم يحدث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليقف على كتاب الشفاء للقاضي عياض يجد من ذلك الشفاء. وقد احتج لعائشة بقوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} فسماها رؤيا. وهذا يرده قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ولا يقال في النوم أسرى. وأيضا فقد يقال لرؤية العين: رؤيا، على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وفى نصوص الاخبار الثابتة دلالة واضحة على أن الاسراء كان بالبدن، وإذا ورد الخبر بشيء هو مجوز في العقل في قدرة الله تعالى فلا طريق إلى الإنكار، لا سيما في زمن خرق العوائد، وقد كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معارج، فلا يبعد أن يكون البعض بالرؤيا، وعليه يحمل قوله عليه السلام في الصحيح: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان» الحديث. ويحتمل أن يرد من الاسراء إلى نوم. والله أعلم.
المسألة الثانية- في تاريخ الاسراء، وقد اختلف العلماء في ذلك أيضا، واختلف في ذلك على ابن شهاب، فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسرى به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة.
وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبعة أعوام.
وروى عن الوقاصي قال: أسرى به بعد مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحرمت الخمر بعد أحد.
وقال ابن إسحاق: أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة في القبائل.
وروى عنه يونس بن بكير قال: صلت خديجة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسيأتي. قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الاسراء كان قبل الهجرة بأعوام، لان خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بثلاث وقيل بأربع. وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدم.
وقال الحربي: أسرى به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة.
وقال أبو بكر محمد بن على ابن القاسم الذهبي في تاريخه: أسرى به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبي، ولم يسند قول إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم. المسألة الثالثة- وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الاسراء حين عرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره. وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت، فروى عن عائشة رضي الله عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين. وبذلك قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق. قال الشعبي: إلا المغرب. قال يونس بن بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين فرضت عليه الصلاة يعني في الاسراء فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوضأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلى ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء.
وروى عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفى السفر ركعتين. وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبى الحسن البصري، وهو قول ابن جريج، وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يوافق ذلك. ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الاسراء عند الزوال، فعلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة ومواقيتها.
وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبى المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى، ثم صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعا فصارت سنه، وأقرت الصلاة للمسافر وهى تمام. قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله: «فصارت سنة» قول منكر، وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قول لا معنى له. وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملا ونقلا مستفيضا، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها.
الخامسة- قد مضى الكلام في الأذان المائدة والحمد لله. ومضى في آل عمران: «أن أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى. وأن بينهما أربعين عاما» من حديث أبى ذر، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الأقصى ودعاؤه له من حديث عبد الله بن عمرو ووجه الجمع في ذلك، فتأمله هناك فلا معنى للإعادة. ونذكر هنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس». خرجه مالك من حديث أبى هريرة. وفية ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد، لهذا قال العلماء: من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل، ويصلى في مسجده، إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها. وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده: فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لأنه طاعة الله عز وجل. وقد زاد أبو البختري في هذا الحديث مسجد الجند، ولا يصح وهو موضوع، وقد تقدم في مقدمة الكتاب.
السادسة: قوله تعالى: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} سمى الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة ثم قال: {الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ} قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار.
وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين، وبهذا جعله مقدسا.
وروى معاذ بن جبل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يقول الله تعالى يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي» أصله سام فعرب {لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا} هذا من باب تلوين الخطاب والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} تقدم.