فصل: تفسير الآية رقم (8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (8):

{عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)}
قوله تعالى: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} وهذا مما أخبروا به في كتابهم. و{عَسى} وعد من الله أن يكشف عنهم. و{عَسى} من الله واجبة. {أَنْ يَرْحَمَكُمْ} بعد انتقامه منكم، وكذلك كان، فكثر عددهم وجعل منهم الملوك. {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا} قال قتادة:
فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم يعطون الجزية بالصغار، وروى عن ابن عباس. وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره.
وقال القشيري: وقد حل العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار، ومرة على أيدي المسلمين. وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم. وعلى هذا يصح قول قتادة. {وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً} أي محبسا وسجنا، من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به. والحصير: الضيق البخيل. والحصير: البارية. والحصير: الجنب، قال الأصمعي: هو ما بين العرق الذي يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب. والحصير: الملك، لأنه محجوب. قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم ** جن لدى باب الحصير قيام

ويروى:
ومقامة غلب الرقاب

على أن يكون غلب بدلا من مقامة كأنه قال: ورب غلب الرقاب.
وروى عن أبى عبيدة:
لدى طرف الحصير قيام

أي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر. والحصير: المحبس، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً}. قال القشيري: ويقال للذي يفرش حصير، لحصر بعضه على بعض بالنسج.
وقال الحسن: أي فراشا ومهادا، ذهب إلى الحصير الذي يفرش، لان العرب تسمى البساط الصغير حصيرا. قال الثعلبي: وهو وجه حسن.

.تفسير الآيات (9- 10):

{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)}
قوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} لما ذكر المعراج ذكر ما قضى إلى بنى إسرائيل، وكان ذلك دلالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بين أن الكتاب الذي أنزله الله عليه سبب اهتداء. ومعنى {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب، ف {التي} نعت لموصوف محذوف، أي الطريقة إلى نص أقوم.
وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهى توحيد الله والايمان برسله. وقاله الكلبي والفراء. قوله تعالى: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ} تقدم. {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم. {أَجْراً كَبِيراً} أي الجنة. {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي ويبشرهم بأن لأعدائهم العقاب. والقرآن معظمة وعد ووعيد. وقرأ حمزة والكسائي {وَيُبَشِّرُ} مخففا بفتح الياء وضم الشين، وقد ذكر.

.تفسير الآية رقم (11):

{وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)}
قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ} قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللهم أهلكه، ونحوه. {دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ} أي كدعائه ربه أن يهب له العافية، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. نظيره: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ} وقد تقدم.
وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يدعو ويقول: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ}.
وقيل: هو أن يدعو في طلب المحظور كما يدعو في طلب المباح، قال الشاعر وهو ابن جامع:
أطوف بالبيت فيمن يطوف ** وارفع من مئزري المسبل

وأسجد بالليل حتى الصباح ** وأتلو من المحكم المنزل

عسى فارج الهم عن يوسف ** يسخر لي ربة المحمل

قال الجوهري: يقال ما على فلان محمل مثال مجلس أي معتمد. والمحمل أيضا: واحد محامل الحاج. والمحمل مثال المرجل: علاقة السيف. وحذفت الواو من {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ} في اللفظ والحظ ولم تحذف في المعنى لان موضعها رفع فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة، كقوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ} {وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ} {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} {يُنادِ الْمُنادِ} {فَما تُغْنِ النُّذُرُ}. {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا} أي طبعه العجلة، فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير.
وقيل: أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن يركب فيه الروح على الكمال. قال سلمان: أول ما خلق الله تعالى من آدم رأسه فجعل ينظر وهو يخلق جسده، فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لم ينفخ فيهما الروح فقال: يا رب عجل قبل الليل، فذلك قوله: {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا}.
وقال ابن عباس: لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر، فذلك قوله: {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا}.
وقال ابن مسعود: لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} ذكره البيهقي. وفى صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لما صور الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك» وقد تقدم.
وقيل: سلم عليه السلام أسيرا إلى سودة فبات يئن فسألته فقال: أنيني لشدة القد والأسر، فأرخت من كتافه فلما نامت هرب، فأخبرت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {قطع الله يديك} فلما أصبحت كانت تتوقع الآفة، فقال عليه السلام: «إنى سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي لأني بشر أغضب كما يغضب البشر» ونزلت الآية، ذكره القشيري أبو نصر رحمه الله. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفينه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة». وفى الباب عن عائشة وجابر.
وقيل: معنى {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا} أي يؤثر العاجل وإن قل، على الآجل وإن جل.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)}
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ} أي علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا. والآية فيهما: إقبال كل منهما من حيث لا يعلم، وإدباره إلى حيث لا يعلم. ونقصان أحدهما بزيادة الآخر وبالعكس آية أيضا. وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل. وقد مضى هذا.. {فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ} ولم يقل: فمحونا الليل، فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما. و{فَمَحَوْنا} معناه طمسنا. وفى الخبر أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وكان كالشمس في النور، والسواد الذي يرى في القمر من أثر المحو. قال ابن عباس: جعل الله الشمس سبعين جزءا والقمر سبعين جزءا، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس، فالشمس على مائة وتسع وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد. وعنه أيضا: خلق الله شمسين من نور عرشه، وجعل ما سبق في علمه أن يكون شمسا مثل الدنيا على قدرها ما بين مشارقها إلى مغاربها، وجعل القمر دون الشمس، فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجهه ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس ضوءه وبقي نوره، فالسواد الذي ترونه في القمر أثر المحو، ولو تركه شمسا لم يعرف الليل من النهار ذكر عنه الأول الثعلبي، والثاني المهدوي، وسيأتي مرفوعا.
وقال على رضي الله عنه وقتادة: يريد بالمحو اللطخة السوداء التي في القمر، ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل من النهار. {وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} أي جعلنا شمسه مضيئة للابصار. قال أبو عمرو بن العلاء: أي يبصر بها. قال الكسائي: وهو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء، وصار بحالة يبصر بها.
وقيل: هو كقولهم خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء. ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا، فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء. {لتبتغوا فضلا من ربكم} يريد التصرف في المعاش. ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار. وقد قال في موضع آخر: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً} {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} أي لو لم يفعل ذلك لما عرف الليل من النهار، ولا كان يعرف الحساب والعدد. {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا} أي من أحكام التكليف، وهو كقوله: {تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}. وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لما أبرم الله خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسين فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فخلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في علم الله أن يخلقها قمرا فخلقها دون الشمس في العظم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا كان الأجير يدرى إلى متى يعمل ولا الصائم إلى متى يصوم ولا المرأة كيف تعتد ولا تدرى أوقات الصلوات والحج ولا تحل الديون ولا حين يبذرون ويزرعون ولا متى يسكنون للراحة لأبدانهم وكان الله نظر إلى عباده وهو أرحم بهم من أنفسهم فأرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ} الآية».

.تفسير الآيات (13- 14):

{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)}
قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق.
وقال ابن عباس: {طائِرَهُ} عمله وما قدر عليه من خير وشر، وهو ملازمه أينما كان.
وقال مقاتل والكلبي: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به.
وقال مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلا وفى عنقه ورقة فيها مكتوب شقي أو سعيد.
وقال الحسن: {أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ} أي شقاوته وسعادته وما كتب له من خير وشر وما طار له من التقدير، أي صار له عند القسمة في الأزل.
وقيل: أراد به التكليف، أي قدرناه التزام الشرع، وهو بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به وينزجر عما زجر به أمكنه ذلك. {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً} يعني كتاب طائره الذي في عنقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد: {طيره} بغير ألف، ومنه ما روى في الخبر: «اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا رب غيرك». وقرأ ابن عباس والحسن ومجاهد وابن محيصن وأبو جعفر ويعقوب {ويخرج} بفتح الياء وضم الراء، على معنى ويخرج له الطائر كتابا، ف {كِتاباً} منصوب على الحال. ويحتمل أن يكون المعنى: ويخرج الطائر فيصير كتابا. وقرأ يحيى بن وثاب {ويخرج} بضم الياء وكسر الراء، وروى عن مجاهد، أي يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السميقع، وروى أيضا عن أبى جعفر: {ويخرج} بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول، ومعناه: ويخرج له الطائر كتابا. الباقون {وَنُخْرِجُ} بنون مضمومة وكسر الراء، أي ونحن نخرج. احتج أبو عمرو في هذه القراءة بقوله: {أَلْزَمْناهُ}. وقرأ أبو جعفر والحسن وابن عامر {يَلْقاهُ} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، بمعنى يؤتاه. الباقون بفتح الياء خفيفة، أي يراه منشورا. وقال: {مَنْشُوراً} تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ بالسيئة. قال أبو السوار العدوى وقرأ هده الآية. {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قال: هما نشرتان وزيه، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت. {اقْرَأْ كِتابَكَ} قال الحسن: يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي. {كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} أي محاسبا.
وقال بعض الصلحاء: هذا كتاب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه.، أنت كنت المملى على حفظتك، ما زيد فيه ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك.

.تفسير الآية رقم (15):

{مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)}
قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره، فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضل فعقاب كفره عليه. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} تقدم في الأنعام. وقا ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال لأهل مكة: اتبعون واكفروا بمحمد وعلى أو زاركم، فنزلت هذه الآية، أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه. يقال: وزر يزر وزرا، ووزره، أي أثم. والوزر: الثقل المثقل والجمع أوزار، ومنه {يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ} أي أثقال ذنوبهم. وقد وزر إذا حمل فهو وازر، ومنه وزير السلطان الذي يحمل ثقل دولته. والهاء في قوله كناية عن النفس، أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، حتى أن الوالدة تلقى ولدها يوم القيامة فتقول: يا بنى ألم يكن حجري لك وطاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن بطني لك وعاء،! فيقول: بلى يا! أمه فتقول يا بنى! فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عني منها ذنبا واحدا! فيقول: إليك عني يا أمه! فإنى بذنبي عنك اليوم مشغول.
مسألة: نزعت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية في الرد على ابن عمر حيث قال: {إن الميت ليعذب ببكاء أهله}. قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارضة بين الآية والحديث، فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة:
إذا مت فانعينى بما أنا أهله ** وشقي على الجيب يا بنت معبد

وقال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

وإلى هذا نحا البخاري. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه إنما يعذب بنوحهم، لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك، فيعذب بتفريطه في ذلك، وبترك ما أمره الله به من قوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً} لا بذنب غيره، والله أعلم. قوله تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
أي لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفى هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر. وقد تقدم في البقرة القول فيه. والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا، أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: {كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا}. قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الادلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الايمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. وهذه الآية أيضا يعطى احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم. وأما ما روى من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح، ولا يقتضى ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. قال المهدوي: وروى عن أبى هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولا إلى أهل الفطرة والأبكم والأخرس والأصم، فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في الدنيا، وتلا الآية، رواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة، ذكره النحاس. قلت: هذا موقوف، وسيأتي مرفوعا في آخر سورة طه إن شاء الله تعالى، ولا يصح. وقد استدل قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام وآمنوا فلا تكليف عليهم فيما مضى، وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، والله أعلم.