فصل: تفسير الآية رقم (33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (33):

{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)}
قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} قد مضى الكلام فيه في الأنعام. قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً}. فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} أي بغير سبب يوجب القتل. {فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ} أي لمستحق دمه.. قال خويز: الولي يجب أن يكون ذكرا، لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير. وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ} ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر وليس لها الاستيفاء.
وقال المخالف: إن المراد ها هنا بالولي الوارث، وقد قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}، وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، وقال: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ} فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة، وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف. {سُلْطاناً} أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية، قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي.
وقال ابن وهب قال مالك: السلطان أمر الله. ابن عباس: السلطان الحجة.
وقيل: السلطان طلبه حتى يدفع إليه. قال ابن العربي: وهذه الأقوال متقاربة، وأوضحها قول مالك: إنه أمر الله. ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه، فقال ابن القاسم عن مالك وأبى حنيفة: القتل خاصة.
وقال أشهب: الخيرة، كما ذكرنا آنفا، وبه قال الشافعي. وقد مضى في سورة البقرة هذا المعنى.
الثانية: قوله تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} فيه ثلاثة أقوال: لا يقتل غير قاتله، قاله الحسن والضحاك ومجاهد وصعيد بن جبير.
الثاني: لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله.
الثالث: لا يمثل بالقاتل، قاله طلق بن حبيب، وكله مراد لأنه إسراف منهى عنه. وقد مضى في البقرة القول في هذا مستوفى. وقرأ الجمهور {يُسْرِفْ} بالياء، يريد الولي، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {تسرف} بالتاء من فوق، وهى قراءة حذيفة.
وروى العلاء بن عبد الكريم عن مجاهد قال: هو للقاتل الأول، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل.
وقال الطبري: هو على معنى الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأئمة من بعده. أي لا تقتلوا غير القاتل. وفى حرف أبى {فلا تسرفوا في القتل}.
الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً} أي معانا، يعني الولي. فإن قيل: وكم من ولى مخذول لا يصل إلى حقه. قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى.
وروى ابن كثير عن مجاهد قال: إن المقتول كان منصورا. النحاس: ومعنى قوله إن الله نصره بوليه.
وروى أنه في قراءة أبى {فلا تسرفوا في القتل إن ولى المقتول كان منصورا}. قال النحاس: إلا بين بالياء ويكون للولي، لأنه إنما يقال: لا يسرف إن كان له أن يقتل، فهذا للولي. وقد يجوز بالتاء ويكون للولي أيضا، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة. قال الضحاك: هذا أول ما نزل من القرآن في شأن القتل. وهى مكية.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قد مضى الكلام فيه في الأنعام.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} قد مضى الكلام فيه في غير موضع. قال قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. {إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا} عنه، فحذف، كقوله: {وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} به وقيل: إن العهد يسأل تبكيتا لناقضه فيقال: لم نقضت؟ كما تسأل الموءودة تبكيتا لوائدها.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ} تقدم الكلام فيه أيضا في الأنعام. وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، وقد مضى في سورة يوسف فلا معنى للإعادة. والقسطاس بضم القاف وكسرها: الميزان بلغة الروم، قاله ابن عزيز.
وقال الزجاج: القسطاس: الميزان صغيرا كان أو كبيرا.
وقال مجاهد: القسطاس العدل، وكان يقول: هي لغة رومية، وكان الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة في وزنكم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر {القسطاس} بضم القاف. وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {بِالْقِسْطاسِ} بكسر القاف وهما لغتان.
الثانية: قوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك وأبرك. {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي عاقبة. قال الحسن: ذكر لنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك».

.تفسير الآية رقم (36):

{وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ} أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك. قال قتادة: لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم، وقاله ابن عباس رضي الله عنهما. قال مجاهد: لا تذم أحدا بما ليس لك به علم، وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضا.
وقال محمد ابن الحنفية: هي شهادة الزور.
وقال القتبي: المعنى لا تتبع الحدس والظنون، وكلها متقاربة. واصل القفو البهت والقذف بالباطل، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «نحن بنو النضر ابن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا» أي لا نسب أمنا.
وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب ** ولا أقفو الحواصن إن قفينا

يقال: قفوته أقفوه، وقفته أقوفه، وقفيته إذا اتبعت أثره. ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر، لأنها تقفو البيت. ومنه اسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقفى، لأنه جاء آخر الأنبياء. ومنه القائد، وهو الذي يتبع أثر الشبه. يقال: قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك. وتقول: فقوت للأثر، بتقديم الفاء على القاف. ابن عطية: ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا: رعملى في لعمري. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات. وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب. وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة. وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي {تقف} بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ الجراح {والفاد} بفتح الفاء، وهى لغة لبعض الناس، وأنكرها أبو حاتم وغيره.
الثانية: قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة، لأنه لما قال: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} دل على جواز ما لنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص، لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علما اتساعا. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وفى الصحيح عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: «ألم ترى أن مجززا نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض هذه الاقدام لمن بعض». وفى حديث يونس بن يزيد: «وكان مجزز قائفا».
الثالثة: قال الامام أبو عبد الله المازري: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. قال القاضي عياض: وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة، وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء، حسبما يأتي في سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى.
الرابعة: استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد، بسرور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول هذا القائف، وما كان عليه السلام بالذي يسر بالباطل ولا يعجبه. ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشبه في حديث اللعان، على ما يأتي في سورة النور إن شاء الله تعالى.
الخامسة: واختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء، على قولين، فالأول: قول الشافعي ومالك رضي الله عنهما في رواية ابن وهب عنه، ومشهور مذهبه قصره على ولد الامة. والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقال الشافعي رضي الله عنه، لان الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة وأباه حران فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا مما لا يجوز عند الأصوليين. وكذلك اختلف هؤلاء، هل يكتفى بقول واحد من القافة أو لا بد من اثنين لأنها شهادة، وبالأول قال ابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه. وبالثاني قال مالك والشافعي رضي الله عنهما.
السادسة: قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأس من ذلك وسمع.
وقيل: المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده، ونظيره قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» فالإنسان راع على جوارحه، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسئولا، فهو على حذف مضاف. والمعنى الأول أبلغ في الحجة، فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي، كما قال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}، وقوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}. وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسئولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بأولئك.
وقال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ}: إنما قال: {رَأَيْتُهُمْ} في نجوم، لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل، وقد تقدم. وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

وهذا أمر يوقف عنده. وأما البيت فالرواية فيه الأقوام والله اعلم.

.تفسير الآيات (37- 38):

{وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} هذا نهى عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح.
وقيل: التكبر في المشي.
وقيل: تجاوز الإنسان قدره.
وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي.
وقيل: هو البطر والأشر.
وقيل: هو النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين: أحدهما مذموم والآخر محمود، فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود. وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما، ففي الحديث الصحيح«لله أفرج بتوبة العبد من رجل...»الحديث. والكسل مذموم شرعا والنشاط ضده. وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا، وذلك على أعداء الله والظلمة. أسند أبو حاتم بن حبان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من الغيرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التي يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل» وأخرجه أبو داود في مصنفه وغيره. وأنشدوا:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا ** فكم تحتها قوم هموا منك أرفع

وإن كنت في عز وحرز ومنعة ** فكم مات من قوم هموا منك أمنع

الثانية: إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفية تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنى. وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه، ويجم فيها نفسه في اطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو صلاة، فليس بداخل في هذه الآية. قوله تعالى: {مَرَحاً} قراءة الجمهور بفتح الراء. وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل. والأول أبلغ، فإن قولك: جاء زيد ركضا أبلغ من قولك: جاء زيد راكضا، فكذلك قولك مرحا. والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مرحا.
الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا} أي لن تساوى الجبال بطولك ولا تطاولك. ويقال: خرق الثوب أي شقه، وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها. {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا} بعظمتك، أي مقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك. والمحاط محصور ضعيف، لا يليق بك التكبر والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة، والله اعلم.
وقال الأزهري: معناه لن تقطعها. النحاس: وهذا أبين، لأنه مأخوذ من الخرق وهى الصحراء الواسعة. ويقال: فلان أخرق من فلان، أي أكثر سفرا وعزة ومنعة. ويروى أن سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا، وقتل سادة وسبى- وبه سمى سبأ- ودان له الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال: إنى لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أول عبادة الشمس، فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح، نعوذ بالله من ذلك.
الرابعة: قوله تعالى: {كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} {ذلِكَ} إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه. {ذلِكَ} يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزه والكسائي ومسروق {سَيِّئُهُ} على إضافة سيئ إلى الضمير، ولذلك قال: {مَكْرُوهاً} نصب على خبر كان. والسيء: هو المكروه، وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآي من قوله: {وَقَضى رَبُّكَ}- إلى قوله- كان {سَيِّئُهُ} مأمورات بها ومنهيات عنها، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه. واختار هذه القراءة أبو عبيد. ولان في قراءة أبى. {كل ذلك كان سيئاته} فهذه لا تكون إلا للإضافة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {سيئة} بالتنوين، أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة. وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ثم قال: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، {وَلا تَمْشِ}، ثم قال: {كل ذلك كان سيئة} بالتنوين.
وقيل: إن قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه، فجعلوا {كلا} محيطا بالمنهي عنه دون غيره. وقوله: {مَكْرُوهاً} ليس نعتا لسيئة، بل هو بدل منه، والتقدير: كان سيئة وكان مكروها. وقد قيل: إن {مَكْرُوهاً} خبر ثان لكان حمل على لفظه كل، و{سيئة} محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل.
وقال بعضهم: وهو نعت لسيئة، لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر. وضعف أبو على الفارسي هذا وقال: إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون مبعدة مذكرا، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر، ألا ترى قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها

مستقبح عندهم. ولو قال قائل: أبقل أرض لم يكن قبيحا. قال أبو على: ولكن يجوز في قوله: {مَكْرُوهاً} أن يكون بدلا من {سيئة}. ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في {عِنْدَ رَبِّكَ} ويكون {عِنْدَ رَبِّكَ} في موضع الصفة لسيئة.
الخامسة: استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه. قال الامام أبو الوفاء ابن عقيل: قد نص القرآن على النهى عن الرقص فقال: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} وذم المختال. والرقص أشد المرح والبطر. أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقها في الاطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعها. فما أقبح من ذى لحية، وكيف إذا كان شبيه، يرقص ويصفق على إيقاع الالحان والقضبان، وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط، صم هو إلى إحدى الدارين، يشمس بالرقص شمس البهائم، ويصفق تصفيق النسوان، والله لقد رأيت مشايخ في عمرى ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخاطتي لهم.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ولقد حدثني بعض المشايخ عن الامام الغزالي رضي الله عنه أنه قال: الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا بالعب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في الكهف وغيرها إن شاء الله تعالى.