فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (39):

{ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)}
الإشارة {بذلك} إلى هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل عليه السلام. أي هذه من الافعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والافعال الفاضلة. ثم عطف قوله: {وَلا تَجْعَلْ} على ما تقدم من النواهي. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المراد كل من سمع الآية من البشر. والمدحور: المهان المبعد المقصي. وقد تقدم في هذه السورة. ويقال في الدعاء: اللهم ادحر عنا الشيطان، أي أبعده.

.تفسير الآية رقم (40):

{أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)}
هذا يرد على من قال من العرب: الملائكة بنات الله، وكان هم بنات أيضا مع النبيين، ولكنه أراد: أفأخلص لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه. {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً}
أي في الإثم عند الله عز وجل.

.تفسير الآية رقم (41):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا} أي بينا. وقيل كررنا. {فِي هذَا الْقُرْآنِ} قيل: {فِي} زائدة، والتقدير: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ، مثل: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي أصلح ذريتي. والتصريف: صرف الشيء من جهة إلى جهة. والمراد بهذا التصريف البيان والتكرير.
وقيل: المغايرة، أي غايرنا بين المواعظ ليذكروا ويعتبروا ويتعظوا. وقراءة العامة {صَرَّفْنا}
بالتشديد على التكثير حيث وقع. وقرأ الحسن بالتخفيف. وقوله: {فِي هذَا الْقُرْآنِ} يعني الأمثال والعبر والحكم والمواعظ والأحكام والاعلام قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الامام الشيخ أبى الطيب: لقوله تعالى: {صَرَّفْنا} معنيان، أحدهما لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها ونهيا وأمرا وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وصريف الافعال من الماضي والمستقبل والامر والنهى والفعل والفاعل والمفعول ونحوها. والثاني أنه لم ينزل مرة واحدة بل نجوما، نحو قوله: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ} ومعناه: أكثرنا صرف جبريل عليه السلام إليك. {لِيَذَّكَّرُوا} قراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي {لِيَذَّكَّرُوا} مخففا، وكذلك في الفرقان {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا}. الباقون بالتشديد. واختاره أبو عبيد، لان معناه ليتذكروا وليتعظوا. قال المهدوي: من شدد {لِيَذَّكَّرُوا} أراد التدبر. وكذلك من قرأ {لِيَذَّكَّرُوا}. ونظير الأول {وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} والثاني- {وَاذْكُرُوا ما فِيهِ} {وَما يَزِيدُهُمْ} أي التصريف والتذكير. {إِلَّا نُفُوراً} أي تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار، وذلك لأنهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر.

.تفسير الآيات (42- 43):

{قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)}
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} هذا متصل بقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ} وهو رد على عباد الأصنام. {كَما يَقُولُونَ} قرأ ابن كثير وحفص {يَقُولُونَ} بالياء. الباقون {تقولون} بالتاء على الخطاب. {إِذاً لَابْتَغَوْا} يعني الآلهة. {إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} قال ابن العباس رضى الله تعالى عنهما: لطلبوا مع الله منازعة وقتالا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض.
وقال سعيد بن جبير رضى الله تعالى عنه: المعنى إذا لطلبوا طريقا إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه، لأنهم شركاؤه.
وقال قتادة: المعنى إذا لابتغت الآلهة القربة إلى ذى العرش سبيلا، والتمست الزلفة عنده لأنهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل أنها آلهة. {سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً} نزه سبحانه نفسه وقدسه ومجده عما لا يليق به. والتسبيح: التنزيه. وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (44):

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)}
قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله: {وَمَنْ فِيهِنَّ} يريد الملائكة والانس والجن، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. واختلف في هذا العموم، هل هو مخصص أم لا، فقالت فرقة: ليس مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا مفهوما، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وأجيبوا بأن المراد بقوله: {لا تَفْقَهُونَ} الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء. وقالت فرقة: قوله: {مِنْ شَيْءٍ} عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات. ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح.
وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرة، يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح، وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا.
قلت: ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول» قال: فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا». فقوله عليه الصلاة والسلام. «ما لم ييبسا» إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان، فإذا يبسا صارا جمادا. والله اعلم. وفى مسند أبى داود الطيالسي: فتوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال: «لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلوتهما شي». قال علماؤنا: ويستفاد من هذا غرس، الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن. وقد بينا هذا المعنى في كتاب التذكرة بيانا شافيا، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه. والحمد لله على ذلك. وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك، فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح. قلت: ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ}، وقوله: {وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}- على قول مجاهد-، وقوله: {وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً}.
وذكر ابن المبارك في دقائقه أخبرنا مسعر عن عبد الله بن واصل عن عوف بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الجبل يقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال نعم سبه. ثم قرأ عبد الله {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً} الآية. قال: أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير. وفية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا تنادى بقاع الأرض بعضها بعضا. يا جاراه، هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة». رواه ابن ماجه في سننه، ومالك في موطئة من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه. وخرج البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. في غير هذه الرواية عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه: كنا نأكل مع وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطعام ونحن نسمع تسبيحه. وفى صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث إنى لأعرفه الآن». قيل: إنه الحجر الأسود، والله اعلم. والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلئية في شرح العشرينيات النبوية للفادارى رحمه الله، وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا الباب خرجه البخاري في مواضع من كتابه. وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شيء من ذلك، فكل شيء يسبح للعموم. وكذا قال النخعي وغيره: هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فه حتى صرير الباب. واحتجوا بالأخبار التي ذكرنا.
وقيل: تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول: سبحان الله! لعدم الإدراك منها.
وقال الشاعر:
تلقى بتسبيحه من حيث ما انصرفت ** وتستقر حشا الرائي بترعاد

أي يقول من رآها: سبحان خالقها. فالصحيح أن الكل يسبح للاخبار الدالة على ذلك لو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا. وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء فالقول به أولى. والله اعلم. وقرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف {تَفْقَهُونَ} بالتاء لتأنيث الفاعل. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد، قال: للحائل بين الفعل والتأنيث. {إِنَّهُ كانَ حَلِيماً} عن ذنوب عباده في الدنيا. {غَفُوراً} للمؤمنين في الآخرة.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45)}
عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت سورة {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ} أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفى يدها فهر وهى تقول:
مذمما عصينا

وأمره أبينا

ودينه قلينا

والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك! قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال. وقرأ {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً}. فوقفت على أبى بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا أبا بكر، أخبرت أن صاحبك هجاني! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فولت وهى تقول: قد علمت قريش أنى ابنة سيدها.
وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: لما نزلت {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} جاءت امرأة أبى لهب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فقال أبو بكر: لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذية. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنه سيحال بيني وبينها» فلم تره. فقالت لابي بكر: يا أبا بكر، هجانا صاحبك! فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدقه، فاندفعت راجعة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أما رأتك؟ قال: «لا. ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت».
وقال كعب رضي الله عنه في هذه الآية: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف {إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وقرأ}، والآية التي في النحل أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، والآية التي في الجاثية {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً} الآية. فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأهن يستتر من المشركين. قال كعب رضى الله تعالى عنه: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام، فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا، ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه. قال الثعلبي: وهذا الذي يروونه عن كعب حدثت به رجلا من أهل الري فأسر بالديلم، فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه. قلت: ويزاد إلى هذه الآية أول سورة يس إلى قوله: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}. فإن في السيرة في هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقام على رضي الله عنه في فراشه قال: وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ حفنة من تراب في يده، واخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس: {يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.} إلى قوله: {وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}. حتى فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب. قلت: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أنى هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شي، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا على ثم رجعا من حيث جاءا واحدهما يقول للآخر: هذا ديبله، يعنون شيطانا. وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك.
وقيل: الحجاب المستور طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة، قاله قتادة.
وقال الحسن: أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية.
وقيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ القرآن، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وام جميل امرأة أبى لهب وحويطب، فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يمرون به ولا يرونه، قاله الزجاج وغيره. وهو معنى القول الأول بعينه، وهو الأظهر في الآية، والله اعلم. وقوله: {مَسْتُوراً} فيه قولان: أحدهما- أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه. والثاني: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه، ويكون مستورا به بمعنى ساتر.