فصل: تفسير الآية رقم (55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (55):

{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)}
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ} أعاد بعد أن قال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} ليبين أنه خالقهم وأنه جعلهم مختلفين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}. وكذا النبيون فضل بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم. وقد مضى القول في هذا في البقرة. {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. أي كما آتينا داود الزبور فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن. وهو في محاجة اليهود.

.تفسير الآية رقم (56):

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56)}
قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل الله هذه الآية، أي ادعوا الذين تعبدون من دونه وزعمتم أنهم آلهة.
وقال الحسن: يعني الملائكة وعيسى وعزيرا. ابن مسعود: يعني الجن {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} أي القحط سبع سنين، على قول مقاتل. {وَلا تَحْوِيلًا} من الفقر إلى الغنى ومن السقم إلى الصحة.

.تفسير الآية رقم (57):

{أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)}
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} {أُولئِكَ} مبتدأ {الَّذِينَ} صفة {أُولئِكَ} وضمير الصلة محذوف، أي يدعونهم. يعني أولئك المدعوون. و{يَبْتَغُونَ} خبر، أو يكون حالا، و{الَّذِينَ يَدْعُونَ} خبر، أي يدعون إليه عبادا أو عباده إلى عبادته. وقرأ ابن مسعود {تدعون} بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. ولا خلاف في {يَبْتَغُونَ} أنه بالياء. وفى صحيح مسلم من كتاب التفسير عن عبد الله بن مسعود في قوله عز وجل: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال: نفر من الجن أسلموا وكانوا يعبدون، فبقى الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجن. في رواية قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والانس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون، فنزلت {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}. وعنه أيضا أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب، ذكره الماوردي.
وقال ابن عباس ومجاهد: عزير وعيسى. و{يَبْتَغُونَ} يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهى الوسيلة. أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم. والهاء والميم في {رَبِّهِمُ} تعود على العابدين أو على المعبودين أو عليهم جميعا. وأما {يَدْعُونَ} فعلى العابدين. و{يَبْتَغُونَ} على المعبودين. {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} بدلا من الضمير في {يَبْتَغُونَ}، والمعنى يبتغى أيهم أقرب الوسيلة إلى الله. {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً} أي مخوفا لا أما لاحد منه، فينبغي أن يحذر منه ويخاف.
وقال سهل بن عبد الله: الرجاء والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)}
قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها} أي مخربوها. {قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً} قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب.
وقال ابن مسعود: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم. فقيل: المعنى وإن من قرية ظالمة، يقوى ذلك قوله: {وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ}. أي فليتق المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحل بها العذاب. {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ} أي في اللوح. {مَسْطُوراً} أي مكتوبا. والسطر: الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر. والسطر بالتحريك، مثله. قال جرير:
من شاء بايعته مالى وخلعته ** ما تكمل التيم في ديوانهم سطرا

الخلعة بضم الخاء: خيار المال. والسطر جمع أسطار، مثل سبب وأسباب، ثم يجمع على أساطير. وجمع السطر أسطر وسطور، مثل أفلس وفلوس. والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ.

.تفسير الآية رقم (59):

{وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)}
قوله تعالى: {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} في الكلام حذف، والتقدير: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم. قال معناه قتادة وابن جريج وغيرهما. فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم من يولد مؤمنا. وقد تقدم في الأنعام وغيرها أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبا وتتنحى الجبال عنهم، فنزل جبريل وقال: «إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم». فقال: «لا بل استأن بهم». و«أَنْ» الأولى في محل نصب بوقوع المنع عليهم، و«أَنْ» الثانية في محل رفع. والباء في«بِالْآياتِ» زائدة. ومجاز الكلام: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين، والله تعالى لا يكون ممنوعا عن شي، فالمعنى المبالغة في أنه لا يفعل، فكأنه قد منع عنه. ثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم يؤمن بها فقال: {وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي آية دالة مضيئة نيرة على صدق صالح، وعلى قدرة الله تعالى. وقد تقدم ذلك. {فَظَلَمُوا بِها} أي ظلموا بتكذيبها.
وقيل: جحدوا بها وكفروا أنها من عند الله فاستأصلهم الله بالعذاب. {وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} فيه خمسة أقوال: الأول- العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفا للمكذبين.
الثاني- أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي.
الثالث- أنها تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك، وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
الرابع- القرآن.
الخامس- الموت الذريع، قال الحسن.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ} قال ابن عباس: الناس هنا أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم، أي أن الله سيهلكهم. وذكره بلفظ الماضي لتحقق كونه. وعنى بهذا الإهلاك الموعود ما جرى يوم بدر ويوم الفتح.
وقيل: معنى«أَحاطَ بِالنَّاسِ» أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته، قاله مجاهد وابن أبى نجيح.
وقال الكلبي: المعنى أحاط علمه بالناس.
وقيل: المراد عصمته من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه، أي وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التبليغ، فبلغ بجدك فإنا نعصمك منهم ونحفظك، فلا تهبهم، وامض لما آمرك به من تبليغ الرسالة، فقدرتنا محيطة بالكل، قال معناه الحسن وعروة وقتادة وغيرهم. قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الاسراء، وهى المذكورة في صدر السورة. وفى البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: هي رؤيا عين أريها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به إلى بيت المقدس. قال: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} هي شجرة الزقوم. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح. وبقول ابن عباس قالت عائشة ومعاوية والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبى نجيح وابن زيد. وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أسرى به.
وقيل: كانت رؤيا نوم. وهذه الآية تقضى بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها. وعن ابن عباس قال: الرؤيا التي في هذه الآية هي رؤيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يدخل مكة في سنة الحديبية، فرد فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت الآية، فلما كان العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ}. وفى هذا التأويل ضعف، لان السورة مكية وتلك الرؤيا كانت بالمدينة.
وقال في رواية ثالثة: إنه عليه السلام رأى في المنام بنى مروان ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فقيل: إنما هي الدنيا أعطوها، فسرى عنه، وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة. وهذا التأويل الثالث قاله أيضا سهل بن سعد رضي الله عنه. قال سهل إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرى بنى أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا. وقرأ الحسن بن على في خطبته في شأن بيعته لمعاوية: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ}. قال ابن عطية: وفى هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبد العزيز ولا معاوية. قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} فيه تقديم وتأخير، أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. وفتنتها أنهم لما خوفوا بها قال أبو جهل استهزاء: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر والزبد، ثم أمر أبو جهل جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه: تزقموا. وقد قيل: إن القائل ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد ابن الزبعرى حيث قال: كثر الله من الزقوم في داركم، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن. وجائز أن يقول كلاهما ذلك. فافتتن أيضا لهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه إنما جعل الاسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ويصدق من سبق له الايمان. كما روى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له صبيحة الاسراء: إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة من بيت المقدس فقال: إن كان قال ذلك فلقد صدق. فقيل له: أتصدقه قبل أن تسمع منه؟ فقال: أبن عقولكم؟ أنا أصدقه بخبر السماء، فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس، والسماء أبعد منها بكثير.
قلت: ذكر هذا الخبر ابن إسحاق، ونصه: قال كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عبد الله بن مسعود وأبى سعيد الخدري وعائشة ومعاوية بن أبى سفيان والحسن بن أبى الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم وام هانئ بنت أبى طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسرى به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه فيه عبرة لاولى الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله تعالى على يقين، فأسرى به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد. وكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبراق- وهى الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها- فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية: إناء فيه لبن وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «فسمعت قائلا يقول حين عرضت على إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته وإن أخذ اللبن فهدى وهديت أمته قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال لي جبريل هديت وهديت أمتك يا محمد». قال ابن إسحاق: وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «بينما أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه السلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا ثم عدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معى لا يفوتني ولا أفوته».
قال ابن إسحاق: وحدثت عن قتادة أنه قال: حدثت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لما دنوت منه لأركبه شمس فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال فاستحيا حتى أرفض عرقا ثم قر حتى ركبته». قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومضى معه جبريل حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى بهم ثم أتى بإناءين: في أحدهما خمر وفى الآخر لبن، قال: فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر. قال: فقال له جبريل: هديت الفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: هذا والله الامر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام، مدبرة شهرا ومقبلة شهرا، فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبى بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلي فيه ورجع إلى مكة. قال فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى، ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال«نعم» قال: يا نبى الله، فصفه لي فإنى قد جئته؟ فقال الحسن: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «رفع لي حتى نظرت إليه» فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصفه لابي بكر ويقول أبو بكر رضي الله عنه: صدقت، أشهد أنك رسول الله. كلما وصف له منه شيئا قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله. قال: حتى إذا انتهى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي بكر رضي الله عنه: «وأنت يا أبا بكر الصديق» فيومئذ سماه الصديق. قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن الإسلام لذلك: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً}. فهذا حديث الحسن عن مسري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما دخل فيه من حديث قتادة. وذكر باقى الاسراء عمن تقدم في السيرة.
وقال ابن عباس: هذه الشجرة بنو أمية، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفى الحكم. وهذا قول ضعيف محدث والسورة مكية، فيبعد هذا التأويل، إلا أن تكون هذه الآية مدنية ولم يثبت ذلك. وقد قالت عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنة الله. ثم قال: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} ولم يجز في القرآن لعن هذه الشجرة، ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها. والمعنى: والشجرة الملعونة في القرآن آكلوها. ويمكن أن يكون هذا على قول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون.
وقال ابن عباس: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتله، يعني الكشوث. {وَنُخَوِّفُهُمْ} أي بالزقوم. {فَما يَزِيدُهُمْ} التخويف إلا الكفر.