فصل: تفسير الآية رقم (70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (70):

{وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا. {كَرَّمْنا} تضعيف كرم، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا. وهذا هو كرم نفى النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بنى أدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره. وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بنى آدم، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة. وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير مركب. وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم.
وروى عن ابن عباس، ذكره المهدوي والنحاس، وهو قول الكلبي ومقاتل، ذكره الماوردي.
وقال الضحاك: كرمهم بالنطق والتمييز. عطاء: كرمهم بتعديل القامة وامتدادها. يمان: بحسن الصورة. محمد بن كعب: بأن جعل محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم. وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب.
وقال محمد بن جرير الطبري: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم.
وقيل: بالكلام والخط.
وقيل: بالفهم والتمييز. والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف،. وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء. وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض. وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها ابن آدم أيضا، كجرى الفرس وسمعه وإبصاره، وقوه الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك. وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه. والله اعلم.
الثانية: قالت فرقة: هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الانس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى: {ولَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل فيها بين الانس والجن، فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بنى آدم ما خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهى في هذه المسألة إلى القطع. وقد تحاشي قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، إذ في الخبر: «لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى». وهذا ليس بشيء، لوجود النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء. وقد بيناه في البقرة ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن.
الثالثة: قوله تعالى: {وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} يعني لذيذ المطاعم المشارب. قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها. {وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا} أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة.
الرابعة: هذه الآية ترد ما روى عن عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أحرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوى الشيطان أن يجرى في العروق منها». وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له، لان القرآن يرده، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرر في غير موضع. وقد حكى أبو حامد الطوسي قال: كان سهل يقتات من ورق النبق مدة. واكل دقاق ورق التين ثلاث سنين. وذكر إبراهيم ابن البنا قال: صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معى، وقلت: هلم. فقال لي: ملحك مدقوق؟ قلت نعم. قال: لست تفلح! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه.
وقال أبو يزيد: ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة. قال علماؤنا: وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه، لان الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه، لان خبز الشعير بارد مجفف، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر. وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها، ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل. ومعلوم أن البدن مطية الآدمي، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ.
وروى عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حوارى، فقيل له: هذا كله؟ فقال: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة. ومثل هذا عن السلف كثير. وقد تقدم منه ما يكفى في المائدة والأعراف وغيرهما. والأول غلو في الدين إن صح عنهم. {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ}.

.تفسير الآية رقم (71):

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)}
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} روى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال:}: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا- قال- وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذرعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا! اللهم لا تأتنا بهذا. قال: فيأتيهم فيقولون اللهم أخره. فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ونظير هذا قوله: {وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. والكتاب يسمى إماما، لأنه يرجع إليه فى تعرف أعمالهم.
وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: {بِإِمامِهِمْ} أي بكتابهم، أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله، دليله {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ}.
وقال ابن زيد: بالكتاب المنزل عليهم. أي يدعى كل إنسان بكتابه الذي كان يتلوه، فيدعى أهل التوراة بالتوراة، واهل القرآن بالقرآن، فيقال: يأهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أو مرأة هل اجتنبتم نواهيه! وهكذا.
وقال مجاهد: {بِإِمامِهِمْ} بنبيهم، والامام من يؤتم به. فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام، هاتوا متبعي موسى عليه السلام، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الأصنام. فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم. وقاله قتادة.
وقال على رضي الله عنه: بإمام عصرهم.
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} فقال: «كل يدعى بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد- عليهم أفضل الصلوات والسلام- فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقول: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة».
وقال الحسن وأبو العالية: {بِإِمامِهِمْ} أي بأعمالهم. وقاله ابن عباس. فيقال: أين الراضون بالمقدور، أين الصابون عن المحذور.
وقيل: بمذاهبهم، فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحوه، فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قوله أبى عبيدة. وقد تقدم.
وقال أبو هريرة: يدعى أهل الصداقة من باب الصداقة، واهل الجهاد من باب الجهاد...، الحديث بطوله. أبو سهل: يقال أين فلان المصلى والصوام، وعكسه الدفاف والنمام.
وقال محمد بن كعب: {بِإِمامِهِمْ} بأمهاتهم. وإمام جمع آم. قالت الحكماء: وفى ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة، أحدها- لأجل عيسى. والثاني- إظهار لشرف الحسن والحسين. والثالث- لئلا يفتضح أولاد الزنى. قلت: وفى هذا القول نظر، فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان» خرجه مسلم والبخاري. فقوله: «هذه غدرة فلان ابن فلان»
دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يرد على من قال: إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لان في ذلك سترا على آبائهم. والله أعلم. قوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} هذا يقوى قول من قال: {بِإِمامِهِمْ} بكتابهم. ويقويه أيضا قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ}. {فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} الفتيل الذي في شق النواة. وقد مضى في النساء.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)}
قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى} أي في الدنيا عن وإبصار الحق. {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى}.
وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمين إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرءوا ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ- إلى- تَفْضِيلًا. قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا.
وقيل: المعنى من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى.
وقيل: المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.
وقيل: ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى، كما قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى} الآيات. وقال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ}.
وقيل: المعنى في قوله: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى} في جميع الأقوال: أشد عمى، لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل. فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. الأخفش: لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى. وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه، لان فعله عمى وعشى.
وقال الفراء: حدثني بالشام شيخ بصرى أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر:
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر ** وفي المخازي لكم أشباح أشياخ

أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم ** لؤما وأبيضهم سربال طباخ

وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين {أعمى} و{أعمى} وفتح الباقون. وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني. {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} يعني أنه لا يجد طريقا إلى الهداية.

.تفسير الآية رقم (73):

{وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)}
قال سعيد بن جبير: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى ت، لم بآلهتنا. فحدث نفسه وقال: «ما على أن ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أنى لها كاره» فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية، قال مجاهد وقتادة.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه شططا وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرم وأدينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم، فهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية.
وقيل: هو قول أكابر قريش للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك، فهم بذلك حتى نهى عنه.
وقال قتادة ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه، ويسودونه ويقاربونه، فقالوا: إنك تأتى بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى {لَيَفْتِنُونَكَ} أي يزيلونك. يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه، قاله الهروي. وقيل يصرفونك، والمعنى واحد. {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} أي حكم القرآن، لان في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن. {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ} أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قول ثقيف: وحرم وأدينا كما حرمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإن سألتك العرب لم خصصتهم فقل الله أمرني بذلك حتى يكون عذرا لك. {وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا، أي والوك وصافوك، مأخوذ من النخلة بالضم وهى الصداقة لممايلته لهم.
وقيل: {لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} أي فقيرا. مأخوذ من الخلة بفتح الخاء وهى الفقر لحاجته إليهم.

.تفسير الآيات (74- 75):

{وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)}
قوله تعالى: {وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ} أي على الحق وعصمناك من موافقتهم. {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} أي تميل. {شَيْئاً قَلِيلًا} أي ركونا قليلا. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: «اللهم لا تكلني نفسي طرفة عين».
وقيل: ظاهر الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وباطنه إخبار عن ثقيف. والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا، كما تقول لرجل: كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكره المهدوي. وقيل ما كان منه هم بالركون إليهم، بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل، ذكره القشيري.
وقال ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوما، ولكن هذا تعريف للامة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه.
وقوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ} أي لو ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة، قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وهذا غاية الوعيد. وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالقة أعظم. قال الله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} وضعف الشيء مثله مرتين، وقد يكون الضعف النصيب، كقوله عز وجل: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} أي نصيب. وقد تقدم في الأعراف.