فصل: تفسير الآيات (19- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (19- 20):

{وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)}
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ} البعث: التحريك عن سكون. والمعنى: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا، أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليهم من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم. قال الشاعر:
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ** فقاموا جميعا بين عاث ونشوان

أي أيقظت واللام في قوله: {لِيَتَسائَلُوا} لام الصيرورة وهى لام العاقبة، كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} فبعثهم لم سكن لأجل تساؤلهم.
قوله تعالى: {قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وذلك أنهم دخلوه غدوة وبعثهم الله في آخر النهار، فقال رئيسهم يمليخا أو مكسلمينا: الله اعلم بالمدة. قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} فيه سبع مسائل:
الأولى: قال ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الربع، ذكره النحاس. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم {بِوَرِقِكُمْ} بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم {بورقكم} بسكون الراء، حذفوا الكسرة لثقلها، وهما لغتان. وقرأ الزجاج {بورقكم} بكسر الواو وسكون الراء. ويروى أنهم انتبهوا جياعا، وأن المبعوث هو يمليخا، كان أصغرهم، فيما ذكر الغزنوي. والمدينة: أفسوس ويقال هي طرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس، فلما جاء الإسلام سموها طرسوس.
وقال ابن عباس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم.
الثانية: قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً} قال ابن عباس: أحل ذبيحة، لان أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم: وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم. ابن عباس: كان عامتهم مجوسا.
وقيل: {أَزْكى طَعاماً} أي أكثر بركة. قيل: إنهم أمروه أن يشترى ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم، ثم إذا طبخ كفى جماعة، ولهذا قيل: ذلك الطعام الأرز.
وقيل: كان زبيبا. وقيل: تمرا، فالله أعلم. وقيل: {أَزْكى} أطيب.
وقيل: أرخص. {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} أي بقوت. {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي في دخول المدينة وشراء الطعام. {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} أي لا يخبرن.
وقيل: إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه. {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} قال الزجاج: معناه بالحجارة، وهو أخبت القتل.
وقيل: يرموكم بالسب والشتم، والأول أصح، لأنه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم. والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله عقوبة مخالفة دين الناس، إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها.
الثالثة: في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها. وقد وكل علي بن أبى طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنه، ولا خلاف فيها في الجملة. والوكالة معروفه في الجاهلية والإسلام، ألا ترى إلى عبد الرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة، أي يحفظهم، وأمية مشرك، والتزم عبد الرحمن لامية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه. روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتى بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن، قال: لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو... وذكر الحديث. قال الأصمعي: صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه، وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال، وكل مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى، من كتاب الأفعال.
الرابعة: الوكالة عقد نيابة، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه. وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب، منها هذه الآية، وقوله تعالى: {وَالْعامِلِينَ عَلَيْها} وقوله: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا}. وأما من السنة فأحاديث كثيرة، منها حديث عروة البارقي، وقد تقدم في آخر الأنعام. روى جبر بن عبد الله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت له: إنى أردت الخروج إلى خيبر، فقال: «إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته»خرجه أبو داود. والأحاديث كثيرة في هذه المعنى، وفى إجماع الامة على جوازها كفاية.
الخامسة: الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه، فلو وكل الغاصب لم يجز، وكان هو الوكيل، لان كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه.
السادسة: في هذه الآية نكتة بديعة، وهى أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بعم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم. وجواز توكيل ذوى العذر متفق عليه، فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها.
وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز. قال ابن العربي: وكان سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت، إنصافا منهم وإذلالا لهم، وهو الحق، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل. قلت: هذا حسن، فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبى هريرة قال: كان لرجل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: «أعطوه» فطلبوا له سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال: «أعطوه» فقال: أوفيتني أوفى الله لك. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن خيركم أحسنكم قضاء». لفظ البخاري. فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه، وذلك توكيد منه لهم على ذلك، ولم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مريضا ولا مسافرا. وهذا يرد قول أبى حنيفة وسحنون في قولهما: أنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه، وهذا الحديث خلاف قولهما.
السابعة: قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية جواز الشركة لان الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء. وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر، ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} حسبما تقدم بيانه في البقرة. ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغنى ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل من اشترى له أضحية. قال ابن العربي: ليس في الآية دليل على ذلك، لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفردا فلا يكون فيه اشتراك. ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين: أحدهما: أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه.
الثاني- حديث أبى عبيدة في جيش الخبط. وهذا دون الأول في الظهور، لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه. قلت: ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً} على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)}
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ} أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم. وأعثر تعدية عثر بالهمزة، واصل العثار في القدم. {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يعني الامة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم. وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا: إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض.
وقال بعضهم: تبعث الروح والجسد جميعا، فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدرى كيف يتبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله تعالى في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف، فيقال: إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه، فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم، وسأل الفتى فأخبره، فسر الملك بذلك وقال: لعل الله قد بعث لكم آية، فلنسر إلى الكهف معه، فركب أهل المدينة إليهم، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليحا: أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الامر وأن الامة أمة إسلام، فروى أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم. وأكثر الروايات على انهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق، على ما يأتي. ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين. فهذا معنى {أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ. لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق {إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}. وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم. فقال الملك: ابنوا عليهم بنيانا، فقال الذين. هم على دين الفتية: اتخذوا عليهم مسجدا.
وروى أن طائفة كافرة قالت: نبنى بيعة أو مضيفا، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا.
وروى أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين.
وروى عن عبد الله بن عمر أن الله تعالى أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم، فذلك دعا الملك إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم.
وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل، فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود، فدعنا. وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة، فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهى عنه ممنوع لا يجوز، لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. قال الترمذي: وفى الباب عن أبى هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن.
وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وام سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن أولئك ذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة». لفظ مسلم. قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد.
وروى الأئمة عن أبى مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدى إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. فحذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مثل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد».
وروى الصحيحان عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا.
وروى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروى الصحيح عن أبى الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبى طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته- في رواية- ولا صورة إلا طمستها. وأخرجه أبو داود والترمذي. قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة.
وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبر صاحبيه رضي الله عنهما- على ما ذكر مالك في الموطأ- وقبر أبينا آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس. وأما ثعلبة البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال، فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها. وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهى أن ينبغي أن يقال: هو حرام. والتسنيم في القبر: ارتفاعه قدر شبر، مأخوذ من سنام البعير. ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح.
وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر.
وقال أبو حنيفة: لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط. ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة، لما رواه أبو بكر الأثرم قال: حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلمته بصخرة، ذكره أبو عمر. وأما الجائزة- فالدفن في التابوت، وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة. روى أن دانيال صلوات الله عليه كان في تابوت من حجر، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية مخافة أن يعبد، وبقي كذلك إلى زمان موسى صلوات الله عليهم أجمعين، فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام. وفى الصحيح عن سعد ابن أبى وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: اتخذوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا، كما صنع برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اللحد: هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن. وهو أفضل عندنا من الشق، لأنه الذي اختاره الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبه قال أبو حنيفة قال: السنة اللحد.
وقال الشافعي: الشق. ويكره الآجر في اللحد.
وقال الشافعي: لا بأس به لأنه نوع من الحجر. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه، لان الآجر لأحكام البناء، والقبر وما فيه للبلى، فلا يليق به الأحكام. وعلى هذا يسوى بين الحجر والآجر.
وقيل: إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا، فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر. قالوا: ويستحب اللبن والقصب لما روى أنه وضع على قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزمة من قصب. وحكى عن الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الحنفي رحمه الله أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض. وقال: لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به، لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد. قلت: ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن المدينة سبخة، قال شقران: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبر. قال أبو عيسى الترمذي: حديث شقران حديث حسن صحيح غريب.