فصل: تفسير الآيات (66- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (66- 70):

{قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)}
قوله تعالى: {قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} فيه مسألتان: الأولى قوله تعالى: {قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ} هذا سؤال الملاطف، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك ويخف عليك؟ وهذا كما في الحديث: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ؟ وعلى بعض التأويلات يجئ كذلك قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ} [المائدة: 112] حسب ما تقدم بيانه في المائدة.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضله الله، فالخضر إن كان وليا فموسى أفضل منه، لأنه نبي والنبي أفضل من الولي، وإن كان نبيا فموسى فضله بالرسالة. والله أعلم. و{رُشْداً} مفعول ثان بـ {تُعَلِّمَنِ}. {قال} الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي، لان الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب. وهي معنى قوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} والأنبياء لا يقرون على منكر، لا يجوز لهم التقرير. أي لا يسعك السكوت جريا على عادتك وحكمك. وأنتصب {خُبْراً} على التمييز المنقول عن الفاعل.
وقيل: على المصدر الملاقي في المعنى، لان قوله: {لَمْ تُحِطْ}. معناه لم تخبره، فكأنه قال: لم تخبره خبرا، وإليه أشار مجاهد. والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها. قوله تعالى: {قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً} أي سأصبر بمشيئة الله. {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} أي قد ألزمت نفسي طاعتك وقد اختلف في الاستثناء، هل هو يشمل قوله: {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} أم لا؟ فقيل: يشمله كقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ} [الأحزاب: 35].
وقيل: استثنى في الصبر فصبر، وما استثنى في قوله: {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} فاعترض وسأل، قال علماؤنا: إنما كان ذلك منه، لان الصبر أمر مستقبل ولا يدرى كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه. ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبا لنا بخلاف فعل المعصية وتركها، فإن ذلك كله مكتسب لنا، والله أعلم. قوله تعالى: {قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} 70 أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والاعراض.

.تفسير الآيات (71- 73):

{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)}
قوله تعالى: {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها} فيه مسألتان الأولى: في صحيح مسلم والبخاري: «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}. قال: وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وكانت الأولى من موسى نسيانا قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقر في البحر، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر». قال علماؤنا: حرف السفينة طرفها وحرف كل شيء طرفه، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد. والعلم هنا بمعنى المعلوم، كما قال:
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] أي من معلوماته، وهذا من الخضر تمثيل، أي معلوماتي ومعلوماتك لا أثر لها في علم الله، كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر، وإنما مثل له ذلك بالبحر لأنه أكثر ما يشاهده مما بين أيدينا، وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل والتفهيم، إذ لا نقص في علم الله، ولا نهاية لمعلوماته. وقد أوضح هذا المعنى البخاري فقال: والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر وفي التفسير عن أبي العالية: لم ير الخضر حين خرق السفينة غير موسى وكان عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله له أن يريه، ولو رآه القوم لمنعوه من خرق السفينة.
وقيل: خرج أهل السفينة إلى جزيرة، وتخلف الخضر فخرق السفينة، وقال ابن عباس: «لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحية، وقال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل! كنت في بني إسرائيل أتلو كتاب الله عليهم غدوة وعشية فيطيعوني! قال له الخضر: يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك؟ قال: نعم. قال: كذا وكذا قال: صدقت»، ذكره الثعلبي في كتاب العرائس.
الثانية: في خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرب بعضه.
وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض. وقرأ حمزة والكسائي: {ليغرق} بالياء {أهلها} بالرفع فاعل يغرق، فاللام على قراءة الجماعة في {لِتُغْرِقَ} لام المآل مثل {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}. وعلى قراءة حمزة لام كي، ولم يقل لتغرقني، لان الذي غلب عليه في الحال فرط الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم.. {إِمْراً} معناه عجبا، قاله القتبي، وقيل: منكرا، قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة: الامر الداهية العظيمة، وأنشد:
قد لقى الاقران مني نكرا ** داهية دهياء إدا إمرا

وقال الأخفش: يقال أمر أمره يأمر أمرا إذا أشتد والاسم الامر.
قوله تعالى: {قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ} في معناه قولان: أحدهما- يروى عن ابن عباس، قال: هذا من معاريض الكلام. والآخر- أنه نسي فاعتذر، ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره، وقد تقدم، ولو نسى في الثانية لاعتذر.

.تفسير الآيات (74- 76):

{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76)}
قوله تعالى: {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ} في البخاري قال يعلى قال سعيد: وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، {قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} لم تعمل بالحنث، وفي الصحيحين وصحيح الترمذي: ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، قال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} قال وهذه أشد من الأولى. {قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}. لفظ البخاري.
وفي التفسير: إن الخضر مر بغلمان يلعبون فأخذ بيده غلاما ليس فيهم أضوأ منه، واخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه، فقتله. قال أبو العالية: لم يره إلا موسى، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام.
قلت: ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة، فإنه يحتمل أن يكون دمغه أولا بالحجر، ثم أضجعه فذبحه، ثم اقتلع رأسه، والله أعلم بما كان من ذلك وحسبك بما جاء في الصحيح. وقرأ الجمهور: {زاكية} بالألف. وقرأ الكوفيون وابن عامر: {زكية} بغير ألف وتشديد الياء، قيل: المعنى واحد، قاله الكسائي.
وقال ثعلب: الزكية أبلغ. قال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب قط والزكية التي أذنبت ثم تابت. قوله تعالى: {غُلاماً} اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا؟ فقال الكلبي: كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الأخرى، فأخذه الخضر فصرعه، ونزع رأسه عن جسده. قال الكلبي: واسم الغلام شمعون.
وقال الضحاك: حيسون.
وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمي. وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوي.
وقال الجمهور: لم يكن بالغا، ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام، فان الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، وتقابله الجارية في النساء. وكان الخضر قتله لما علم من سيره، وأنه طبع كافرا كما في صحيح الحديث، وأنه لو أدرك لا رهق أبويه كفرا، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك، فان الله تعالى الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء، وفي كتاب العرائس: إن موسى لما قال للخضر {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً...}- الآية- غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب: كافر لا يؤمن بالله أبدا. وفد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية:
شفاها من الداء العضال الذي بها ** غلام إذا هز القناة سقاها

وقال صفوان لحسان:
تلق ذباب السيف عني فإنني ** غلام إذا هوجيت لست بشاعر

وفي الخبر: إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض، ويقسم لأبويه أنه ما فعل، فيقسمان على قسمه، ويحميانه ممن يطلبه، قالوا وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغا عاصيا. قال ابن عباس: كان شابا يقطع الطريق. وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أبي وابن عباس {وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين} والكفر والايمان من صفات المكلفين، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعين أن يصار إليه. والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق. قوله تعالى: {نُكْراً} اختلف الناس أيهما أبلغ {أَمْراً} أو قوله: {نُكْراً} فقالت فرقة: هذا قتل بين، وهناك مترقب، ف {- نُكْراً} أبلغ. وقالت فرقة: هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة ف {إِمْراً} أبلغ. قال ابن عطية: وعندي أنهما لمعنيين وقوله: {إمرا} أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم، و{نكرا} بين في الفساد لان مكروهه قد وقع، وهذا بين. قوله: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي} شرط وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء، والتزم للأنبياء. وقوله: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع، قاله ابن العربي. ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوم ثلاثة، فتأمله. قوله تعالى: {فَلا تُصاحِبْنِي} كذا قرأ الجمهور أي تتابعني. وقرأ الأعرج: {تصحبني} بفتح التاء والباء وتشديد النون. وقرى: {تصحبني} أي تتبعني. وقرأ يعقوب: {تصحبني} بضم التاء وكسر الحاء، ورواها سهل عن أبي عمرو قال الكسائي: معناه فلا تتركني أصحبك. {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي، وقرأ الجمهور: {مِنْ لَدُنِّي} بضم الدال، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون، فهي {لدن} اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه. وقرأ أبو بكر عن عاصم {لدني} بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون. وروي عن عاصم {لدني} بضم اللام وسكون الدال، قال ابن مجاهد: وهي غلط، قال أبو علي: هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة. وقرأ الجمهور: {عذر}. وقرأ عيسى: {عذرا} بضم الذال. وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عذري} بكسر الراء وياء بعدها. مسألة: أسند الطبري قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دعا لاحد بدأ بنفسه، فقال يوما: «رحمه الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال: {فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}». والذي في صحيح مسلم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب» قال: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه: رحمة الله علينا وعلى أخى كذا.
وفي البخاري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما». الذمامة بالذال المعجمة المفتوحة، وهو بمعنى المذمة بفتح الذال وكسرها، وهي الرقة والعار من تلك الحرمة: يقال أخذتني منك مذمة ومذمة وذمامة. وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.

.تفسير الآيات (77- 78):

{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)}
فيه ثلاث عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ} في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لئام» فطافا في المجلس ف- {اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} يقول: مائل قال: {فَأَقامَهُ} الخضر بيده قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا، ولم يطعمونا، {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما».
الثانية: واختلف العلماء في القرية فقيل: هي أبلة، قاله قتادة، وكذلك قال محمد ابن سيرين، وهى أبخل قرية وأبعدها من السماء.
وقيل: أنطاكية وقيل: بجزيرة الأندلس، روي ذلك عن أبي هريرة وغيره، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء. وقالت فرقة: هي باجروان وهي بناحية أذربيجان. وحكى السهيلي وقال: إنها برقة. الثعلبي: هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة، واليها تنسب النصارى، وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى. والله أعلم بحقيقة ذلك.
الثالثة: كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر، ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء، وفي القرية سألا القوت، وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة، منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا لغيره. قلت: وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه: {آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً} فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع، والله أعلم.
وقيل: لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت.
الرابعة: في هذه الآية دليل على سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال المتصوفة. والاستطعام سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة، بدليل قوله: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما} فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا، وينسبوا إلى اللؤم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام. قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء. وقد تقدم القول في الضيافة في هود والحمد لله. ويعفو الله عن الحريري حيث استخف في هذه الآية وتمجن، وأتى بخطل من القول وزل، فاستدل بها على الكدية والإلحاح فيها، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله، ولا منقصة عليه، فقال:
وإن رددت فما في الرد منقصة ** عليك قد رد موسى قبل والخضر

قلت: وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي شنشنة أدبية، وهفوة سخافية، ويرحم الله السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبا بشيء فإياك أن تلعب بدينك.
الخامسة: قوله تعالى: {جِداراً} الجدار والجدر بمعنى، وفي الخبر: «حتى يبلغ الماء الجدر». ومكان جدير بني حواليه جدار، وأصله الرفع. وأجدرت الشجرة طلعت، ومنه الجدري.
السادسة: قوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي قرب أن يسقط، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله: «مائل» فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور. وجميع الافعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكانهما إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل، وهذا في كلام العرب وأشعارها كثير، فمن ذلك قول الأعشى:
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

فأضاف النهي إلى الطعن. ومن ذلك قول الآخر:
يريد الرمح صدر أبي براء ** ويرغب عن دماء بني عقيل

وقال آخر:
إن دهرا يلف شملي بجمل ** لزمان يهم بالإحسان

وقال آخر:
في مهمه فلقت به هاماتها ** فلق الفئوس إذا أردن نصولا

أي ثبوتا في الأرض، من قولهم: نصل السيف إذا ثبت في الرمية، فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفئوس في الأرض، فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج.
وقال حسان بن ثابت:
لو أن اللؤم ينسب كان عبدا ** قبيح الوجه أعور من ثقيف

وقال عنترة:
فازور من وقع القنا بلبانه ** وشكا إلي بعبرة وتحمحم

وقد فسر هذا المعنى بقوله:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

وهذا في هذا المعنى كثير جدا. ومنه قول الناس: إن داري تنظر إلى دار فلان.
وفي الحديث: «اشتكت النار إلى ربها». وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن، منهم أبو إسحاق الاسفرايني وأبو بكر محمد بن داود الأصبهاني وغيرهما، فإن كلام الله عز وجل وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين، لأنه يقص الحق كما أخبر الله تعالى في كتابه. ومما احتجوا به أن قالوا: لو خاطبنا الله تعالى بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز أيضا، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وهو على الله تعالى محال، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] وقال تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ 50: 30} [ق: 30] وقال تعالى: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] وقال تعالى: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى 70: 17} [المعارج: 17] و«اشتكت النار إلى ربها» «واحتجت النار والجنة» وما كان مثلها حقيقة، وأن خالقها الذي أنطق كل شيء أنطقها.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه». هذا في الآخرة. وأما في الدنيا، ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الانس وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده» قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب.
السابعة: قوله تعالى: {فَأَقامَهُ} قيل: هدمه ثم قعد يبنيه. فقال موسى للخضر: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} لأنه فعل يستحق أجرا.
وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ: {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه} قال أبو بكر: وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول عليه الصلاة والسلام مجرى التفسير للقرآن، وأن بعض الناقلين أدخل تفسير قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان، على ما قاله بعض الطاعنين، وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه فقام، وهذا القول هو الصحيح، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والأولياء، وفي بعض الاخبار: إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، فأقامه الخضر عليه السلام أي سواه بيده فاستقام، قاله الثعلبي في كتاب العرائس: فقال موسى للخضر: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي طعاما نأكله، ففي هذا دليل على كرامات الأولياء، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر عليه السلام في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة، هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي. وقول تعالى: {وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] يدل على نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف والأحكام، كما أوحى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول، والله أعلم.
الثامنة: واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه، لان في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي». قال أبو عبيد القاسم بن سلام: كان أبو عبيدة يقول: الطربال شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة، والبناء المرتفع، قال جرير:
ألوى بها شذب العروق مشذب ** فكأنما وكنت على طربال

يقال منه: وكن يكن إذا جلس، وفي الصحاح: الطربال القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل، وطرابيل الشام صوامعها. ويقال: طربل بوله إذا مده إلى فوق.
التاسعة: كرامات الأولياء ثابتة، على ما دلت عليه الاخبار الثابتة، والآيات المتواترة ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد، أو الفاسق الحائد، فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء- على ما تقدم- وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية، على الخلاف. ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال كان نبيا، لان إثبات النبوة لا يجوز بأخبار الآحاد، لا سيما وقد روي من طريق التواتر- من غير أن يحتمل تأويلا- بإجماع الامة قوله عليه الصلاة والسلام: «لا نبي بعدي» وقال تعالى: {وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ 40} [الأحزاب: 40] والخضر وإلياس جميعا باقيان مع هذه الكرامة، فوجب أن يكونا غير نبيين، لأنهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده. قلت: الجمهور أن الحضر كان نبيا- على ما تقدم- وليس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، أي يدعي النبوة بعده ابتداء الله أعلم.
العاشرة: اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا؟ على قولين: أحدهما- أنه لا يجوز، وأن ما يظهر على يديه يجب أن يلاحظه بعين خوف المكر، لأنه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له، وقد حكي عن السري أنه كان يقول: لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به، ولأنه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف، وحصل له الأمن. ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة، كما قال عز وجل: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا 30} [فصلت: 30] ولان الولي من كان مختوما له بالسعادة، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالخواتيم». القول الثاني- أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي، ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام يجوز أن يعلم أنه ولي، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه ولي الله تعالى، فجاز له أن يعلم ذلك. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم، بل كانوا أكثر تعظيما لله انه سبح وتعالى، وأشد خوفا وهيبة، فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم. وكان الشبلي يقول: أنا أمان هذا الجانب، فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم، واستولوا على بغداد، ويقول الناس: مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم. ولا يقال: إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لأنه لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي الله، لجواز أن يكون ذلك استدراجا، فلما لم يجز ذلك لان فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا، لان فيه إبطال الكرامات. وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله: {فَانْسَلَخَ مِنْها} [الأعراف: 175] فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية. وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم، والله أعلم. والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار، والمعجزة من شرطها الإظهار.
وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك. وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة، والحمد لله تعالى وحده لا شريك له. وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات، فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة رهط سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهداة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجوا إلى فدفد، وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما فو الله لا أنزل اليوم في ذمة الكافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموا بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، وهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة ورجل آخرا، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر! والله لا أصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة- يريد القتلى- فجزروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، فانطلقوا بخبيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحرث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا، فأخبر عبيد الله بن عياض أن بنت الحرث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله تعالى خبيبا، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: دعوني أركع ركعتين، فتركوه فركع ركعتين ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ** على أي شق كان لله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع

فقتله بنو الحرث، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا، فاستجاب الله تعالى لعاصم يوم أصيب، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه خبرهم وما أصيبوا. وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا.
وقال ابن إسحاق في هذه القصة: وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر فمنعهم الدبر، فلما حالت بينه وبينهم قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث الله تعالى الوادي فاحتمل عاصما فذهب، وقد كان عاصم أعطى الله تعالى عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته، فمنعه الله تعالى بعد وفاته مما امتنع منه في حياته. وعن عمرو بن أمية الضمري:
وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه عينا وحده فقال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته، فوقع في الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم ألتفت فكأنما ابتلعته الأرض.
وفي رواية أخرى زيادة: فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة، ذكره البيهقي.
الحادية عشرة: ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها وجهه وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فافرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال يا عبد الله ما أسمك قال فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له يا عبد الله لم سألتني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وارد فيها ثلثه» وفي رواية: «وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل». قلت: وهذا الحديث لا يناقضه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا» خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن، فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال، قال عليه الصلاة والسلام: «نعم المال الصالح للرجل الصالح». وقد أكثر الناس في كرامات الأولياء وما ذكرناه فيه كفاية، والله الموفق للهداية.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} فيه دليل على صحة جواز الإجارة، وهى سنة الأنبياء والأولياء على ما يأتي بيانه في سورة القصص إن شاء الله تعالى. وقرأ الجمهور {لاتخذت} وأبو عمرو {لتخذت} وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ، مثل قولك: تبع واتبع، وتقى واتقى. وأدغم بعض القراء الذال في التاء، ولم يدغمها بعضهم.
وفي حديث أبي بن كعب: «لو شئت لاوتيت أجرا». وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض، فعند ذلك قال له الخضر: {هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} بحكم ما شرطت على نفسك. وتكريره {بَيْنِي وَبَيْنِكَ} وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. قال سيبويه: كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك، أي منا.
وقال ابن عباس: وكان قول موسى في السفينة والغلام لله، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا، فكان سبب الفراق.
وقال وهب بن منبه: كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} تأويل الشيء مآله أي قال له: إني أخبرك لم فعلت ما فعلت. وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر: إنها حجة على موسى لا عجبا له. وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم! فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه! فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر!