فصل: تفسير الآية رقم (96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (96):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا. {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا} أي حبا في قلوب عباده. كما رواه الترمذي من حديث سعد وأبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه- قال- فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض. فذلك قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا} وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إني أبغضت فلانا فينادي في السماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض»قال هذا حديث حسن صحيح. وخرجه البخاري ومسلم بمعناه ومالك في الموطأ وفي نوادر الأصول. وحدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال: حدثنا أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله أعطى المؤمن الالفة والملاحة والمحبة في صدور الصالحين والملائكة المقربين- ثم تلا- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا}». واختلف فيمن نزلت فقيل في علي رضي الله تعالى عنه روى البراء بن عازب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي بن أبي طالب: «قل يا علي اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة» فنزلت الآية ذكره الثعلبي.
وقال ابن عباس: نزلت في عبد الرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة لا يلقاه مؤمن إلا وقره لا مشرك ولا منافق إلا عظمه. وكان هرم بن حيان يقول: ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الايمان إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
وقيل: يجعل الله تعالى لهم مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة. قلت: إذا كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا ولا يرضى إلا خالصا نقيا جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل عليه السلام فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء- قال- ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه- قال- فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض».

.تفسير الآية رقم (97):

{فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97)}
قوله تعالى: {فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ} أي القرآن يعني بيناه بلسانك العربي وجعلناه سهلا على من تدبره وتأمله.
وقيل: أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه. {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أي المؤمنين {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} اللد جمع الألد وهو الشديد الخصومة ومنه قوله تعالى: {أَلَدُّ الْخِصامِ} وقال الشاعر:
أبيت نجيا للهموم كأنني ** أخاصم أقواما ذوي جدل لدا

وقال أبو عبيدة: الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل. الحسن: اللد الصم عن الحق. قال الربيع: صم أذان القلوب. مجاهد: فجارا. الضحاك: مجادلين في الباطل. ابن عباس: شدادا في الخصومة.
وقيل: الظالم الذي لا يستقيم والمعنى واحد. وخصوا بالإنذار لان الذي لا عناد عنده يسهل انقياده.

.تفسير الآية رقم (98):

{وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)}
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي من أمة وجماعة من الناس يخوف أهل مكة. {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} في موضع نصب أي هل ترى منهم أحد وتجد. {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أي صوتا عن ابن عباس وغيره أي قد ماتوا وحصلوا على أعمالهم.
وقيل: حسا، قاله ابن زيد.
وقيل: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة قاله اليزيدي وأبو عبيدة كركز الكتيبة وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد:
وتوجست ركز الأنيس فراعها ** عن ظهر غيب والأنيس سقامها

وقيل: الصوت الخفي. ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض.
وقال طرفة:
وصادقتا سمع التوجس للسري ** لركز خفي أو لصوت مندد

وقال ذو الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب:
إذا توجس ركزا مقفر ندس ** بنبأة الصوت ما في سمعه كذب

أي ما في استماعه كذب أي هو صادق الاستماع. والندس الحاذق فيقال: ندس وندس كما يقال: حذر وحذر ويقظ ويقظ، والنبأة الصوت الخفي وكذلك الركز والركاز المال المدفون. والله تعالى أعلم بالصواب.

.سورة طه:

سورة طه عليه السلام مكية في قول الجميع. نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه. روى الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له إن ختنك وأختك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خباب وكانوا يقرءون: {طه}. فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه- وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ واخذ الكتاب فقرأ: {طه}. وذكره ابن إسحاق مطولا: فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتله فلقيه نعيم ابن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟!. فقال: وأي أهل بيتي؟. قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها {طه} يقرئهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا. قال: بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا إلى دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها. فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك. ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. وكان كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال لها: لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له: يا أخي إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام عمر وأغتسل فأعطته الصحيفة وفيها {طه} فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم وذكر الحديث. مسألة أسند الدارمي أبو محمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تبارك وتعالى قرأ {طه} و{يس} قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل هذا عليها وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا».
قال ابن فورك معنى قوله: «إن الله تبارك وتعالى قرأ {طه} و{يس}» أي أظهر وأسمع وأفهم كلامه من أراد من خلقه من الملائكة في ذلك الوقت والعرب تقول: قرأت الشيء إذا تتبعته وتقول: ما قرأت هذه الناقة في رحمها سلا قط أي ما ظهر فيها ولد فعلى هذا يكون الكلام سائغا وقراءته إسماعه وإفهامه بعبارات يخلقها وكتابة يحدثها. وهي معنى قولنا قرأنا كلام الله ومعنى قوله: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}، {فاقرءوا ما تيسر منه}. ومن أصحابنا من قال معنى قوله: قرأ أي تكلم به وذلك مجاز كقولهم ذقت هذا القول ذواقا بمعنى اختبرته. ومنه قول تعالى: {فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} أي ابتلاهم الله تعالى به فسمي ذلك ذواقا والخوف لا يذاق على الحقيقة لان الذوق في الحقيقة بالفم دون غيره من الجوارح. قال ابن فورك: وما قلناه أولا أصح في تأويل هذا الخبر لان كلام الله تعالى أزلي قديم سابق لجملة الحوادث وإنما أسمع وأفهم من أراد من خلقه على ما أراد في الأوقات والأزمنة لا أن عين كلامه يتعلق وجوده بمدة وزمان.

.تفسير الآيات (1- 8):

{طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)}
قوله تعالى: {طه} اختلف العلماء في معناه فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: هو من الاسرار ذكره الغزنوي ابن عباس معناه يا رجل ذكره البيهقي.
وقيل: إنها لغة معروفة في عكل. وقيل في عك قال الكلبي: لو قلت في عك لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول طه. وأنشد الطبري في ذلك فقال:
دعوت بطه في القتال فلم يجب ** فخفت عليه أن يكون موائلا

ويروى مزايلا.
وقال عبد الله بن عمرو: يا حبيبي بلغة عك ذكره الغزنوي وقال قطرب: هو بلغة طئ وأنشد ليزيد بن المهلهل:
إن السفاهة طه من شمائلكم ** لا بارك الله في القوم الملاعين

وكذلك قال الحسن: معنى {طه} يا رجل. وقاله عكرمة وقال هو بالسريانية كذلك ذكره المهدوي وحكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا ومجاهد. وحكى الطبري: أنه بالنبطية يا رجل. وهذا قول السدي وسعيد بن جبير وابن عباس أيضا قال:
إن السفاهة طه من خلائقكم ** لا قدس الله أرواح الملاعين

وقال عكرمة أيضا: هو كقولك يا رجل بلسان الحبشة ذكره الثعلبي. والصحيح أنها وإن وجدت في لغة أخرى فإنها من لغة العرب كما ذكرنا وأنها لغة يمنية في عك وطئ وعكل أيضا.
وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقسم أقسم به. وهذا أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو اسم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماه الله تعالى به كما سماه محمدا. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لي عند ربي عشرة أسماء» فذكر أن فيها طه ويس وقيل: هو اسم للسورة ومفتاح لها.
وقيل: إنه اختصار من كلام الله خص الله تعالى رسوله بعلمه.
وقيل: إنها حروف مقطعة يدل كل حرف منها على معنى واختلف في ذلك فقيل الطاء شجرة طوبى والهاء النار الهاوية والعرب تعبر عن الشيء كله ببعضه كأنه أقسم بالجنة والنار.
وقال سعيد بن جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب والهاء افتتاح اسمه هادي. وقيل {طاء} يا طامع الشفاعة للامة {هاء} يا هادي الخلق إلى الله.
وقيل: الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: يا طاهرا من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب. وقيل الطاء طبول الغزاة والهاء هيبتهم في قلوب الكافرين. بيانه قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وقوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.
وقيل: الطاء طرب أهل الجنة في الجنة والهاء هو ان أهل النار في النار. وقول سادس: إن معنى. {طه} طوبى لمن اهتدى قاله مجاهد ومحمد بن الحنفية.
وقول سابع: إن معنى {طه} طإ الأرض وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى الترويح بين قدميه فقيل له: طإ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح حكاه ابن الأنباري. وقد ذكر القاضي عياض في الشفاء أن الربيع بن أنس قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى: {طه} يعني طإ الأرض يا محمد. {ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى} 20: 2. الزمخشري: وعن الحسن {طه} وفسر بأنه أمر بالوطي وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا وأن الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قلبت ألفا في يطأ فيمن قال:
............................ ** ...... لا هناك المرتع

ثم بنى عليه هذا الامر والهاء للسكت.
وقال مجاهد: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل من طول القيام ثم نسخ ذلك بالفرض فنزلت هذه الآية.
وقال الكلبي: لما نزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل فكان بعد هذه الآية يصلي وينام.
وقال مقاتل والضحاك: فلما نزل القرآن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام هو وأصحابه فصلوا فقال كفار قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى: {طه} فيقول: يا رجل {ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى 20: 2} أي لتتعب، على ما يأتي. وعلى هذا القول: إن {طه} طاها أي طإ الأرض فتكون الهاء والألف ضمير الأرض أي طإ الأرض برجليك في صلواتك وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة. وقرأت طائفة: {طه} وأصله طأ بمعنى طإ الأرض فحذفت الهمزة وأدخلت هاء السكت: وقال زر بن حبيش: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود {طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى 20: 1- 2} فقال له عبد الله: {طه} فقال: يا أبا عبد الرحمن أليس قد أمر أن يطأ الأرض برجليه أو بقدميه. فقال: {طه} كذلك أقرأنيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمال أبو عمرو وأبو إسحاق الهاء وفتحا الطاء. وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش. وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين واختاره أبو عبيد. الباقون بالتفخيم قال الثعلبي: وهي كلها لغات صحيحة فصيحة. النحاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: إحداهما أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان. قوله تعالى: {ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى 20: 2} وقرى. {ما نزل عليك القرآن لتشقى}. قال النحاس: بعض النحويين يقول هذه لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود.
وقال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: إنها لام الخفض والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء. والشقاء يمد ويقصر. وهو من ذوات الواو. واصل الشقاء في اللغة العناء والتعب أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب. قال الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

فمعنى لتشقى: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ} [الكهف: 6] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة.
وروى أن أبا جهل بن هشام- لعنه الله تعالى- والنضر بن الحرث قالا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز والسبب في درك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وعلى الأقوال المتقدمة أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدت قدماه فقال له جبريل: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة وتذيقها المشقة الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة.
قوله تعالى: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى} 20: 3 قال أبو إسحاق الزجاج: هو بدل من {تشقى} أي ما أنزلناه إلا تذكرة. النحاس: وهذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من أجل أن التذكرة ليست بشقاء وإنما هو منصوب على المصدر أي أنزلنا لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة.
وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى. {تَنْزِيلًا} 10 مصدر أي نزلناه تنزيلا.
وقيل: بدل من قوله: {تَذْكِرَةً}. وقرأ أبو حيوة الشامي: {تنزيل} بالرفع على معنى هذا تنزيل. {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى} أي العالية الرفيعة وهى جمع العليا كقوله: كبرى وصغرى وكبر وصغر أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله ثم قال: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} 20: 5 ويجوز النصب على المدح. قال أبو إسحاق الخفض على البدل.
وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن. النحاس: يجوز الرفع بالابتداء والخبر {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} فلا يوقف على {اسْتَوى} وعلى البدل من المضمر في {خَلَقَ} فيجوز الوقف على {اسْتَوى}. وكذلك إذا كان خبر ابتداء محذوف ولا يوقف على {الْعُلى}. وقد تقدم القول في معنى الاستواء في الأعراف. والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف كما يكون استواء المخلوقين.
وقال ابن عباس يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى} 20: 6 يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى.
وقال محمد بن كعب يعني الأرض السابعة. ابن عباس: الأرض على نون والنون على البحر وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي التي قال الله تعالى فيها {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله تعالى.
وقال وهب بن منبه: على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضون سبع بين كل أرضين بحر فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم ولولا عظمه وكثرة مائه وبرده لأحرقت جهنم كل من عليها. قال: وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من الظلمة لا يعلم عظمه إلا الله تعالى وذلك الحجاب على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق. قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى} 20: 7 قال ابن عباس: السر ما حدث به الإنسان غيره في خفاء وأخفى منه ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره. وعنه أيضا السر حديث نفسك وأخفى من السر ما ستحدث به نفسك مما لم يكن وهو كائن أنت تعلم ما تسر به نفسك اليوم ولا تعلم ما تسر به غدا والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسره غدا والمعنى: الله يعلم السر وأخفى من السر وقال ابن عباس أيضا {السر} ما أسر ابن آدم في نفسه {وأخفى} ما خفى على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه فالله تعالى يعلم ذلك كله وعلمه فيما مضى من ذلك وما يستقبل علم واحد وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة وقال قتادة وغيره: {السِّرَّ 20: 7} ما أضمره الإنسان في نفسه {وَأَخْفى 20: 7} منه ما لم يكن ولا أضمره أحد.
وقال ابن زيد: {السر} سر الخلائق {وَأَخْفى 20: 7} منه سره عز وجل وأنكر ذلك الطبري وقال إن الذي هو {أَخْفى 20: 7} ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه كما قال ابن عباس. {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} {اللَّهُ} رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدإ أو على البدل من الضمير في {يَعْلَمُ}. وحد نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له فكبر ذلك عليهم فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن قال للوليد بن المغيرة: محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 20: 5} وأنزل: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى 110} وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى 20: 8}. وقد تقدم التنبيه عليها في سورة الأعراف.