فصل: تفسير الآية رقم (45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (45):

{قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)}
قوله تعالى: {قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى} 20: 45 قال الضحاك: {يَفْرُطَ 20: 45} يعجل. قال: و{يَطْغى} يعتدى. النحاس: التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر، قال الفراء: فرط منه أمر أي بدر، قال: وأفرط أسرف. قال: وفرط ترك. وقراءة الجمهور {يفرط} بفتح الياء وضم الراء، ومعناه يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال: فرط مني أمر أي بدر، ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه، قاله المبرد. وقرأت فرقة منهم ابن محيصن {يفرط} بفتح الياء والراء، قال المهدوي: ولعلها لغة. وعنه أيضا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة {يفرط} بضم الياء وكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة وابن محيصن أيضا. ومعناه يشطط في أذيتنا، قال الراجز:
قد أفرط العلج علينا وعجل

.تفسير الآية رقم (46):

{قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)}
فيه مسألتان: الأولى: قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف، والخوف من الاعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبد الله- أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لان تختلف الاسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه-: قد خاف من كان خيرا من عامر، موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال له: الرجل: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 20} [القصص: 20- 21] وقال: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى 20: 68- 67} [طه: 67- 68]. قلت: ومنه حفر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدا، ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة، وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكم: كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار- أو أرض- البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن كنا نؤذى ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم. قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم عليه كاذب، وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا: ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الأرض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك.
الثانية: قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُما 20: 46} يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقوله: {أسمع وأرى} عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين.

.تفسير الآيات (47- 50):

{فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50)}
قوله تعالى: {فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} 20: 47 في الكلام حذف، والمعنى: فأتياه فقالا له ذلك. {فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ} 20: 47 أي خل عنهم. {وَلا تُعَذِّبْهُمْ} 20: 47 أي بالسخرة والتعب في العمل. وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم، ويستخدم نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن مالا يطيقونه. {قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} 20: 47 قال ابن عباس: يريد العصا واليد.
وقيل: إن فرعون قال له: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس، غلب نورها على نور الشمس فعجب منها. ولم يره العصا إلا يوم الزينة. {وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى} 20: 47 قال الزجاج: أي من أتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال: وليس بتحية، قال: والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب.
الفراء: السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ} يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. {عَلى مَنْ كَذَّبَ} أنبياء الله {وَتَوَلَّى} أعرض عن الايمان.
وقال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا. قوله تعالى: {قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى} 20: 49 ذكر فرعون موسى دون هرون لرءوس الآي.
وقيل: خصصه بالذكر لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل إنهما جميعا بلغا الرسالة وإن كان ساكتا، لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وازره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم، أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الامر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب، لان الله تعالى قال: {اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ 20: 43} وقال: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ 20: 42} وقال: {فَقُولا لَهُ 20: 44} فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله: {فَمَنْ رَبُّكُما 20: 49} أنه كان حاضرا مع موسى. {قالَ} موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} 20: 50 أي أنه يعرف بصفاته، وليس له أسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم، وهو الذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا. و{خَلْقَهُ} أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، على قول الضحاك على ما يأتي. {ثُمَّ هَدى} قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شيء زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه، وعن ابن عباس: ثم هداه إلى الالفة والاجتماع والمناكحة.
وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، وهداه لما يصلحه.
وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورة، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا.
وقال الشاعر:
وله في كل شيء خلقة ** وكذاك الله ما شاء فعل

يعني بالخلقة الصورة، وهو قول عطية ومقاتل.
وقال الضحاك: أعطى كل شيء خلقه من المنفعة المنوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والاذن للسمع.
وقيل: أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة.
وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث ثم هدى الذكر للأنثى. فالتقدير على هذا أعطى كل شيء مثل خلقه. قلت: وهذا معنى قول ابن عباس. والآية بعمومها تتناول جميع الأقوال.
وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ {الذي أعطى كل شيء خلقه} بفتح اللام، وهي قراءة ابن أبي إسحاق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره، أي أعطى بنى آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى.

.تفسير الآيات (51- 52):

{قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قالَ فَما بالُ} 20: 51 البال الحال، أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله تعالى في اللوح المحفوظ.
وقيل: المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك.
وقيل: إنما سأله عن أعمال القرون الأولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ.
وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة.
الثانية: هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب، فقال: {عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى 20: 52}.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي». وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «استعن بيمينك» وأومأ إلى الخط. وهذا نص. وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين، وقد أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لابي شاه- رجل من اليمن- لما سأله كتبها. أخرجه مسلم.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قيدوا العلم بالكتابة».
وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما. وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب، فروى أبو نصرة قال قيل لابي سعيد: أنكتب حديثكم هذا؟ قال: لم تجعلونه قرآنا؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء- قال خالد: ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا، فلما حفظته محوته- وابن عون والزهري. وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه، منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة.
وقال هشام بن حسان: ما كتبت حديثا قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته. قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالاعماق- أوبدابق» الحديث ذكره في كتاب الفتن. وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ منهم الأعمش وعبد الله بن إدريس وهشيم وغيرهم. وهذا احتياط على الحفظ. والكتب أولى على الجملة، وبه وردت الآي والأحاديث، وهو مروي عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير، ومن بعدهم من أهل العلم، قال الله تعالى: {وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ 10} [الأنبياء: 105].
وقال تعالى: {وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً} [الأعراف: 156] الآية.
وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 52- 53]. وقال: {عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ 20: 52} إلى غير هذا من الآي. وأيضا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد، وتقارب الاسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن حفظه والعمل به، فأما والوقت متباعد، والاسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون، فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى، والدليل على وجوبه أقوى، فإن أحتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه» خرجه مسلم، فالجواب أن ذلك كان متقدما، فهو منسوخ بأمره بالكتابة، وإباحتها لابي شاه وغيره. وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه. وكذا ما روى عن أبي سعيد أيضا- حرصنا أن يأذن لنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتابة فأبى- إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن الثالثة: قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد، ثم الحبر خاصة دون المداد لان السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه، فقال: لم تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لان صورته في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض.
وقال خالد بن زيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس. واخذ هذا المعنى أبو عبد الله البلوى فقال:
مداد المحابر طيب الرجال ** وطيب النساء من الزعفران

فهذا يليق بأثواب ذا ** وهذا يليق بثوب الحصان

وذكر الماوردي أن عبد الله بن سليمان فيما حكى، رأى على بعض ثيابه أثر صفرة، فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران، وأنشد:
إنما الزعفران عطر العذارى ** ومداد الدوي عطر الرجال

الرابعة: قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} 20: 52 اختلف في معناه على أقوال خمسة، الأول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين. وقد كان الكلام تم في قوله: {فِي كِتابٍ}. وكذا قال الزجاج، وأن معنى {لا يَضِلُّ} لا يهلك من قوله: {أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ 10} [السجدة: 10]. {وَلا يَنْسى 20: 52} شيئا، نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني: {لا يَضِلُّ} لا يخطئ، قاله ابن عباس، أي لا يخطئ في التدبير، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله. القول الثالث: {لا يَضِلُّ} لا يغيب. قال ابن الاعرابي: أصل الضلال الغيبوبة، يقال: ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء. قال: ومعنى. {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى 20: 52} أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شي. القول الرابع: قاله الزجاج أيضا: وقال النحاس وهو أشبهها بالمعنى-: أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب، والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها، ولا ينسى ما علمه منها. قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الاعرابي. وقول خامس: إن {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى 20: 52} في موضع الصفة ل {- كِتابٍ} أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل، أي غير ذاهب عنه. {وَلا يَنْسى 20: 52} أي غير ناس له فهما نعتان ل {- كِتابٍ}. وعلى هذا يكون الكلام متصلا، ولا يوقف على {كِتابٍ}. تقول العرب. ضلني الشيء إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه {لا يضل} بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد، يقال: ضل عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ {لا يضل ربي} أي لا يضيع، هذا مذهب العرب.