فصل: تفسير الآيات (128- 130):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (128- 130):

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)}
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} 20: 128 يريد أهل مكة، أي أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاوية، أي أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم. وقرأ ابن عباس والسلمى وغيرهما: {نهد لهم} بالنون وهي أبين. و{يَهْدِ 100} بالياء مشكل لأجل الفاعل، فقال الكوفيون: {كَمْ} الفاعل، النحاس: وهذا خطأ لان {كم} استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها وقال الزجاج: المعنى أو لم يهد لهم الامر بإهلاكنا من أهلكنا. وحقيقة {يهد} على الهدى، فالفاعل هو الهدى تقديره: أفلم يهد الهدى لهم. قال الزجاج: {كَمْ} في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنا}. قوله تعالى: {وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً} 20: 129 فيه تقديم وتأخير، أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما، قاله قتادة. واللزام الملازمة، أي لكان العذاب لازما لهم. وأضمر اسم كان. قال الزجاج: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} عطف على {كَلِمَةٌ}. قتادة: والمراد القيامة، وقاله القتبي وقيل: تأخيرهم إلى يوم بدر. قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} 20: 130 أمره تعالى بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، إنه كاهن، إنه كذاب، إلى غير ذلك. والمعنى: لا تحفل بهم، فإن لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال.
وقيل: ليس منسوخا، إذ لم يستأصل الكفار بعد آية القتال بل بقي المعظم منهم.
قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} 20: 130 قال أكثر المتأولين: هذا إشارة إلى الصلوات الخمس {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ 20: 130} صلاة الصبح {وَقَبْلَ غُرُوبِها} 20: 130 صلاة العصر {وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ} 20: 130 العتمة {وَأَطْرافَ النَّهارِ} 20: 130 المغرب والظهر، لان الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب.
وقيل: النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال، ولكل قسم طرفان، فعند الزوال طرفان، الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر، فقال عن الطرفين أطرافا على نحو {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} [التحريم: 4] وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل.
وقيل: النهار للجنس فلكل يوم طرف، وهو إلى جمع لأنه يعود في كل نهار. و{آناءِ اللَّيْلِ} ساعاته وواحد الآناء إني وإني وأنى. وقالت فرقة: المراد بالآية صلاة التطوع، قاله الحسن. قوله تعالى: {لَعَلَّكَ تَرْضى} 20: 130 بفتح التاء، أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به. وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم {ترضى} بضم التاء، أي لعلك تعطى ما يرضيك.

.تفسير الآيات (131- 132):

{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)}
قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ} 20: 131 وقد تقدم معناه في الحجر. {أَزْواجاً} مفعول بـ {مَتَّعْنا}. و{زَهْرَةَ 20: 131} نصب على الحال.
وقال الزجاج: {زَهْرَةَ 20: 131} منصوبة بمعنى {مَتَّعْنا} لان معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة، أو بفعل مضمر وهو {جعلنا} أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا، عن الزجاج أيضا.
وقيل: هي بدل من الهاء في {بِهِ} على الموضع كما تقول: مررت به أخاك. وأشار الفراء إلى نصبه على الحال، والعامل فيه {مَتَّعْنا} قال: كما تقول مررت به المسكين، وقدره: متعناهم به زهرة في الحياة الدنيا وزينة فيها. ويجوز أن ينتصب على المصدر مثل {صُنْعَ اللَّهِ} و{وَعَدَ اللَّهُ} وفيه نظر. والأحسن أن ينتصب على الحال ويحذف التنوين لسكونه وسكون اللام من الحياة، كما قرئ: {ولا الليل سابق النهار} بنصب النهار بسابق على تقدير حذف التنوين لسكونه وسكون اللام، وتكون {الحياة} مخفوضة على البدل من {ما} في قوله: {إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ} فيكون التقدير: ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة أي في حال زهرتها. ولا يحسن أن يكون {زهرة} بدلا من {ما} على الموضع في قوله: {إِلى ما مَتَّعْنا} لان {لِنَفْتِنَهُمْ 20: 131} متعلق بـ {مَتَّعْنا} و{زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا 20: 131} يعني زينتها بالنبات. والزهرة، بالفتح في الزاي والهاء نور النبات. والزهرة بضم الزاي وفتح الهاء النجم. وبنو زهرة بسكون الهاء، قاله ابن عزيز. وقرأ عيسى بن عمر {زهرة} بفتح الهاء مثل نهر ونهر. ويقال: سراج زاهر أي له بريق. وزهر الأشجار ما يروق من ألوانها.
وفي الحديث: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزهر اللون أي نير اللون، يقال لكل شيء مستنير: زاهر، وهو أحسن الألوان. {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} 20: 131 أي لنبتليهم.
وقيل: لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالا، ومعنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا، فإنه لا بقاء لها. {وَلا تَمُدَّنَّ 20: 131} أبلغ من لا تنظرن، لان الذي يمد بصره، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه: مسألة: قال بعض الناس سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: نزل ضيف برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسلني عليه السلام إلى رجل من اليهود، وقال قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلف عندنا بعض الذي يصلحه، فبعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن: قال: فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال: {والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه اذهب بدرعي إليه} ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا. قال ابن عطية: وهذا معترض أن يكون سببا، لان السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت، وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والاعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا، إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزي. قلت: وكذلك ما روى عنه عليه السلام أنه مر بإبل بني المصطلق وقد عبست في أبوالها وأبعارها من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى، لقوله عز وجل: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ 20: 131} الآية. ثم سلاه فقال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى 20: 131} أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى، لأنه يبقى والدنيا تفنى.
وقيل: يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم. قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} 20: 132 أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها: وهذا الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويدخل في عمومه جميع أمته، واهل بيته على التخصيص. وكان عليه السلام بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلى رضوان الله عليهما فيقول«الصلاة». ويروى أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله، وهو يقرأ {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ 20: 131} الآية إلى قوله: {وَأَبْقى 20: 71} ثم ينادي بالصلاة: الصلاة يرحمكم الله، ويصلي: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية. قوله تعالى: {لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً} 20: 132 أي لا نسئلك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال الله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات 56]. قوله تعالى: {وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى} 20: 132 أي الجنة لأهل التقوى، يعني العاقبة المحمودة وقد تكون لغير التقوى عاقبة ولكنها مذمومة فهي كالمعدومة،

.تفسير الآيات (133- 135):

{وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)}
قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} 20: 133 يريد كفار مكة، أي لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري. أو بآية ظاهرة كالناقة والعصا. أو هلا يأتينا بالآيات التي نقترحها نحن كما أتى الأنبياء من قبله: قال الله تعالى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى} 20: 133 يريد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، وذلك أعظم آية إذ أخبر بما فيها. وقرى {الصحف} بالتخفيف.
وقيل: أو لم تأتيهم الآية الدالة على نبوته بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة.
وقيل: أو لم يأتهم إهلاكنا الأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم حال أولئك. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص: {أولم تأتيهم} بالتاء لتأنيث البينة. الباقون بالياء لتقدم الفعل ولان البينة هي البيان والبرهان فردوه إلى المعنى، وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الكسائي {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى 20: 133} قال: ويجوز على هذا {بينة ما في الصحف الأولى}. قال النحاس إذا نونت {بَيِّنَةُ} ورفعت جعلت {ما} بدلا منها وإذا نصبتها فعلى الحال، والمعنى: أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبينا. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ} 20: 134 أي من قبل بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزول القرآن {لَقالُوا} أي يوم القيامة {رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا} 20: 134 أي هلا أرسلت إلينا رسولا. {فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى} 20: 134 وقرى: {نَذِلَّ وَنَخْزى 20: 134} على ما لم يسم فاعله.
وروى أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال: «يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول- ثم تلا- {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا 20: 134}- الآية- ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها- قال- فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل قال فيقول الله تبارك وتعالى إياك عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم». ويروى موقوفا عن أبي سعيد قوله وفية نظر وقد بيناه في كتاب التذكرة وبه احتج من قال: إن الأطفال وغيرهم يمتحنون في الآخرة. {فَنَتَّبِعَ} 20: 134 نصب بجواب التخصيص. {آياتِكَ} يريد ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ 20: 134} أي في العذاب {وَنَخْزى 20: 134} في جهنم، قاله ابن عباس.
وقيل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ 20: 134} في الدنيا بالعذاب {وَنَخْزى 20: 134} في الآخرة بعذابها. {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} 20: 135 أي قل لهم يا محمد كل متربص، أي كل المؤمنين والكافرين منتظر دوائر الزمان ولمن يكون النصر. {فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى} 20: 135 يريد الدين المستقيم والهدى والمعنى: فستعلمون بالنصر من اهتدى إلى دين الحق.
وقيل: فستعلمون يوم القيامة من اهتدى إلى طريق الجنة.
وفي هذا ضرب من الوعيد والتخويف والتهديد ختم به السورة. وقرى {فسوف تعلمون}. قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره الزمخشري. و{من} في موضع رفع عند الزجاج.
وقال الفراء: يجوز أن يكون في موضع نصب مثل. {والله يعلم المفسد من المصلح}. قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لان الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، و{من} ها هنا استفهام في موضع رفع بالابتداء، والمعنى: فستعلمون أصحاب الصراط السوي نحن أم أنتم؟. قال النحاس: والفراء يذهب إلى أن معنى. {مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ 20: 135} من لم يضل وإلى أن معنى. {وَمَنِ اهْتَدى 20: 135} من ضل ثم اهتدى. وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري {فسيعلمون من أصحاب الصراط السوا} بتشديد الواو بعدها ألف التأنيث على فعلى بغير همزة، وتأنيث الصراط شاذ قليل، قال الله وتعالى: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فجاء مذكرا في هذا وفي غيره، وقد رد هذا أبو حاتم قال: إن كان من السوء وجب أن يقال السوأى وإن كان من السواء وجب أن يقال: السيا بكسر السين والأصل السويا. قال الزمخشري: وقرى {السواء} بمعنى الوسط والعدل، أو المستوي. النحاس وجواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الأصل {السوأى} والساكن ليس بحاجز حصين، فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها واوا كما يبدل منها ألف إذا انفتح ما قبلها. تمت والحمد لله وحده.

.سورة الأنبياء:

سورة الأنبياء مكية في قول الجميع وهي مائة واثنتا عشرة آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 3):

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)}
قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ} قال عبد الله بن مسعود: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن كالمال التلاد. وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} فنفض يده من البنيان، وقال: والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب. {اقْتَرَبَ} أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه على أعمالهم. {لِلنَّاسِ} قال ابن عباس: المراد بالناس هنا المشركون بدليل قوله تعالى: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} إلى قوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
وقيل: الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش، يدل على ذلك ما بعد من الآيات، ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آت قريب، والموت لا محالة آت، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى.
وقال الضحاك: معنى {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ} أي عذابهم يعني أهل مكة، لأنهم استبطئوا ما وعدوا به من العذاب تكذيبا، وكان قتلهم يوم بدر. النحاس ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس، لئلا يتقدم مضمر على مظهر لا يجوز أن ينوي به التأخير. {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ابتداء وخبر. ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. وفيه وجهان: أحدهما: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} يعني بالدنيا عن الآخرة.
الثاني- عن التأهب للحساب وعما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذه الواو عند سيبويه بمعنى {إذ} وهي التي يسميها النحويون واو الحال، كما قال الله تبارك وتعالى: {يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]. قوله تعالى: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} {مُحْدَثٍ} نعت ل {- ذِكْرٍ}. وأجاز الكسائي والفراء {محدثا} بمعنى ما يأتيهم محدثا، نصب على الحال. وأجاز الفراء أيضا رفع {مُحْدَثٍ} على النعت للذكر، لأنك لو حذفت {مِنْ} رفعت ذكرا، أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث، يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزله الله تعالى عليه في وقت بعد وقت، لا أن القرآن مخلوق.
وقيل: الذكر ما يذكرهم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعظهم به. وقال: {مِنْ رَبِّهِمْ} لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق إلا بالوحي، فوعظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحذيره ذكر، وهو محدث، قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]. ويقال: فلان في مجلس الذكر.
وقيل: الذكر الرسول نفسه، قاله الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأولين، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} [القلم: 51- 52] يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا 10} [الطلاق: 10- 11]. {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من أمته. {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} الواو واو الحال يدل عليه {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} ومعنى. {يَلْعَبُونَ} أي يلهون.
وقيل: يشتغلون، فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين: أحدهما: بلذاتهم.
الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله على الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين: أحدهما- بالدنيا لأنها لعب، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36].
الثاني: يتشاغلون بالقدح فيه، والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل وقيل. يستمعون القرآن مستهزئين. قوله تعالى: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي ساهية قلوبهم، معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل والتفهم، من قول العرب: لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا. و{لاهِيَةً} نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الاعراب، فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله: {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ} [القلم: 43] و{وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها} [الإنسان: 14] و{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} قال الشاعر:
لعزة موحشا طلل ** يلوح كأنه خلل

أراد: طلل موحش. وأجاز الكسائي والفراء {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية. وأجاز غيرهما: الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار مبتدأ.
وقال الكسائي: ويجوز أن يكون المعنى، إلا استمعوه لاهية قلوبهم. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم فقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي الذين أشركوا، ف {- الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الواو في {أَسَرُّوا} وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم، ولا يوقف على هذا القول على {النَّجْوَى 20: 62}. قال المبرد وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله فبنو بدل من الواو في انطلقوا.
وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا: وقيل: على حذف القول، التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول، مثل {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23- 24]. واختار هذا القول النحاس، قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3]. وقول رابع: يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا: وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم، ولا يوقف على هذا الوجه على {النَّجْوَى 20: 62} ويوقف على الوجوه الثلاثة المتقدمة قبله، فهذه خمسة أقوال: وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وهو حسن، قال الله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71]: وقال الشاعر:
بك نال النضال دون المساعي ** فاهتدين النبال للأغراض

وقال آخر:
ولكن ديافي أبوه وأمه ** بحوران يعصرن السليط أقاربه

وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، مجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى. أبو عبيدة: {أَسَرُّوا} هنا من الأضداد، فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه: قوله تعالى: {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي تناجوا بينهم وقالوا: هل هذا الذكر الذي هو الرسول، أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم، لا يتميز عنكم بشيء، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق كما تفعلون: وما علموا أن الله عز وجل بين أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} أي إن الذي جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سحر، فكيف تجيئون إليه وتتبعونه؟ فأطلع الله نبيه عليه السلام على ما تناجوا به: و{السِّحْرَ 10} في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}. قيل معناه {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أنه إنسان مثلكم مثل: {وأنتم تعقلون} لان العقل البصر بالأشياء.
وقيل: المعنى، أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر: وقيل: المعنى، أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق، ومعنى الكلام التوبيخ.