فصل: تفسير الآيات (85- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (85- 86):

{وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}
قوله تعالى: {وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ} وهو أخنوخ وقد تقدم وَذَا الْكِفْلِ أي واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل» وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا. ولفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين- حتى عد سبع مرات- لم أحدث به ولكني سمعته أكثر من ذلك، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصى الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل» قال: حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر قال: لو استخلفت رجلا على الناس حتى أنظر كيف يعمل. فقال: من يتكفل لي بثلاث: بصيام النهار وقيام الليل وألا يغضب وهو يقضى؟ فقال رجل من ذرية العيص: أنا، فرده ثم قال مثلها من الغد، فقال الرجل: أنا، فاستخلفه فوفى فأثنى الله عليه فسمى ذا الكفل، لأنه تكفل بأمر، قال أبو موسى ومجاهد وقتادة.
وقال عمر بن عبد الرحمن بن الحرث وقال أبو موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلى لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه». وقال كعب: كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال: والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام. فعرض عليه فقال: ما جزائي؟ قال: الجنة- ووصفها له- قال: من يتكفل لي بذلك؟ قال: أنا، فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض: إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان، فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الايمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فآمنوا كلهم فسمى ذا الكفل.
وقيل: كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه.
وقيل: سمى ذا الكفل لان الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي.
وقال الحسن: هو نبي قبل إلياس.
وقيل: هو زكريا بكفالة مريم. {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. {وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا} أي في الجنة {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}.

.تفسير الآيات (87- 88):

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}
قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ} أي واذكر {ذا النون} وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت.
وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال: دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الاعرابي: النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا. {إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً} قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود.
وقال النحاس: وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى: مغاضبا من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصى. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة: «اشترطي لهم الولاء» من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول.
وفي الخبر في وصف يونس: إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضى الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم.
وقال ابن مسعود: أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه نزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم، فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد.
وقال الحسن: أمره الله تعالى بالمسير إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر، وقيل له: الامر أعجل من ذلك- وكان في خلقه ضيق- فخرج مغاضبا لربه، فهذا قول. وقول النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه.
وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي معناه عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة، ولهذا قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ}. وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه، لان قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش: إنما خرج مغاضبا للملك الذي كان على قومه. قال ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والامر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا: أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك؟ قال: لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي والملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان، فابتلى ببطن الحوت لتركه أمر شعيا، ولهذا قال الله تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى.
وقيل: خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى، ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا للملك، فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به.
وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم، فإنه كره رفع العذاب عنهم.
قلت: هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في {والصافات} إن شاء الله تعالى.
وقيل: إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فقال: أنا هو. وكان من قصته ما كان، وأبتلى ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد: {حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ} [آل عمران: 152] إلى قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 141] فمعاصي الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع: إنه لم يغاضب ربه ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد، فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج آبقا. وينشد هذا البيت:
وأغضب أن تهجى تميم بدارم

أي آنف. وهذا فيه نظر، فإنه يقال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة، فالانفة لأبد أن يخالطها الغضب وذلك الغضب وإن دق على من كان؟! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه! قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ} قيل: معناه استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه، لأنه كفر. روى عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن. وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. قال الحسن: هو من قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] أي يضيق. وقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]. قلت: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن. وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي.
وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم، أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة، قاله قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب:
فليست عشيات اللوى برواجع ** لنا أبدا ما أورق السلم النضر

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ** تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

يعني ما تقدره وتقضى به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج: {أن لن يقدر عليه} بضم الياء مشددا على الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا: {يقدر عليه} بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا: {فظن أن لن يقدر عليه}. الباقون {نقدر} بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير. قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه: «فوالله لئن قدر الله على» الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزاني على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه: «لم يعمل خيرا إلا التوحيد» وقد قال حين قال الله تعالى: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، قال الله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر: 28]. وقد قيل: إن معنى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} الاستفهام وتقديره: أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا، وهو قول سليمان أبو المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد: أن بعضهم قرأ: {أفظن} بالألف.
قوله تعالى: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ} اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت.
وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبد الله بن مسعود في بيت المال قال: لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر {أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط، كما قال: {في غيابات الجب} [يوسف: 10] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي: أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروى: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت: {لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك} وروى: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر.
وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق ابن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه: {واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد}.
وقال أبو المعالي: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تفضلوني على يونس بن متى» المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة والأعراف. {أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم.
وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة، لان الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان، ذكره الماوردي.
وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ.
وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} [الأعراف: 23] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه.
الثانية: روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «دعاء ذي النون في بطن الحوت {لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له» وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم. ورواه سعد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وليس هاهنا صريح دعاء وإنما هو مضمون قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فاعترف بالظلم فكان تلويحا. قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143- 144] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ ذمام ما سلف له من الطاعة.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلى يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعبد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. {مِنَ الْغَمِّ} أي من بطن الحوت. قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر {نجي} بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين، كما تقول: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب ** لسب بذلك الجرو الكلابا

أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضى فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن {وذروا ما بقي من الربا} [البقرة: 278] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد:
خمر الشيب لمتي تحميرا ** وحدا بي إلى القبور البعيرا

ليت شعري إذا القيامة قامت ** ودعى بالحساب أين المصيرا

سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب، أي وحدا المشيب البعير، ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن، لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا، لأنه لا فائدة فيه إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولابي عبيد قول آخر- وقاله القتبي- وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين، لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ} {مجاء بالحسنة} قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين، لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين، لاجتماعهما نحو قوله عز وجل: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية: {وكذلك نجى المؤمنين} أي نجى الله المؤمنين، وهي حسنة.