فصل: تفسير الآية رقم (98):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (98):

{إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ} قال ابن عباس: آية لا يسألني الناس عنها! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها، أو جهلوها فلا يسألون عنها، فقيل: وما هي؟ قال: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} لما أنزلت شق على كفار قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، وأتوا ابن الزبعري وأخبروه، فقال: لو حضرته لرددت عليه. قالوا: وما كنت تقول له؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده اليهود تعبد عزيرا أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته، ورأوا أن محمدا قد خصم، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] وفية نزل {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف: 57] يعني ابن الزبعري {إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] بكسر الصاد، أي يضجون، وسيأتي.
الثانية: هذه الآية أصل في القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة، خلافا لمن قال ليست له صيغة موضوعة للدلالة عليه، وهو باطل بما دلت عليه هذه الآية وغيرها، فهذا عبد الله بن الزبعرى قد فهم {ما} في جاهليته جميع من عبد، ووافقه على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء، واللسن البلغاء، ولو لم تكن للعموم لما صح أن يستثنى منها، وقد وجد ذلك فهي للعموم وهذا واضح.
الثالثة: قراءة العامة بالصاد المهملة أي إنكم يا معشر الكفار والأوثان التي تعبدونها من دون الله وقود جهنم، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها. وقرأ علي ابن أبي طالب وعائشة رضوان الله عليهما: {حطب جهنم} بالطاء. وقرأ ابن عباس {حضب} بالضاد المعجمة، قال الفراء: يريد الحصب. قال: وذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب، وكل ما هيجت به النار وأوقدتها به فهو حضب، ذكره الجوهري. والموقد محضب.
وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} كل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به. ويظهر من هذه الآية أن الناس من الكفار وما يعبدون من الأصنام حطب لجهنم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} [البقرة: 24].
وقيل: إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت، على ما تقدم في البقرة وأن النار لا تكون على الأصنام عذابا ولا عقوبة، لأنها لم تذنب، ولكن تكون عذابا على من عبدها: أول شيء بالحسرة، ثم تجمع على النار فتكون نارها أشد من كل نار، ثم يعذبون بها.
وقيل: تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم.
وقيل: إنما جعلت في النار تبكيتا لعبادتهم.
الرابعة: قوله تعالى: {أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} أي فيها داخلون. والخطاب للمشركين عبدة الأصنام، أي أنتم وأردؤها مع الأصنام. ويجوز أن يقال: الخطاب للأصنام وعبدتها، لان الأصنام وإن كانت جمادات فقد يخبر عنها بكنايات الآدميين.
وقال العلماء: لا يدخل في هذا عيسى ولا عزير ولا الملائكة صلوات الله عليهم، لان {ما} لغير الآدميين. فلو أراد ذلك لقال: {ومن}. قال الزجاج: ولان المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم.

.تفسير الآيات (99- 100):

{لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)}
قوله تعالى: {لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها} أي لو كانت الأصنام آلهة لما ورد عابدوها النار.
وقيل: ما وردها العابدون والمعبودون، ولهذا قال: {وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ}. قوله تعالى: {لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ} أي لهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين، فأما الأصنام فعلى الخلاف فيها، هل يحييها الله تعالى ويعذبها حتى يكون لها زفير أو لا؟ قولان: والزفير صوت نفس المغموم يخرج من القلب. وقد تقدم في هود. {وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ} قيل: في الكلام حذف، والمعنى وهم فيها لا يسمعون شيئا، لأنهم يحشرون صما، كما قال الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} [الاسراء: 97].
وفي سماع الأشياء روح وأنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار.
وقيل: لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية.
وقيل: إذا قيل لهم {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] يصيرون حينئذ صما بكما، كما قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار في جهنم جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار من يعذب غيره.

.تفسير الآيات (101- 103):

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} أي الجنة {أُولئِكَ عَنْها} أي عن النار {مُبْعَدُونَ} فمعنى الكلام الاستثناء، ولهذا قال بعض أهل العلم: {إِنَّ} هاهنا بمعنى {إلا} وليس في القرآن غيره.
وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} فقال سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن عثمان منهم». قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها} أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة.
وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها} فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} وقوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98] وقوله: {إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86]. ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا.
وقال أبو عثمان النهدي:
على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس.
وقيل: إذا دخل أهل الجنة الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون، فالله أعلم {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ} أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال: {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]. قوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} وقرأ أبو جعفر وابن محيصن {لا يَحْزُنُهُمُ} بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث، عن ابن عباس.
وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار.
وقال ابن جريج وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه».
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إلى الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه، فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا بن أخي: «من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر». سمعت ذلك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: {هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس {هذا يَوْمُكُمُ} أي ويقولون لهم، فحذف. {الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فيه الكرامة.

.تفسير الآية رقم (104):

{يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)}
قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ} قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري {تطوي} بتاء مضمومة {السماء} رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد {يطوي}
على معنى يطوى الله السماء. الباقون {نطوي} بنون العظمة. وانتصاب {يَوْمَ} على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة، التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ {نعيد} من قوله: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. أو بقوله: {لا يَحْزُنُهُمُ} أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس، دليله: {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى {على}. وعن ابن عباس أيضا: اسم كاتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس بالقوي، لان كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل.
وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي: {السِّجِلِّ} ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة، وأصلها من السجل وهو الدلو، تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا.
وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
من يساجلني يساجل ماجدا ** يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير: {/ كطي السجل} بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة: {كَطَيِّ السِّجِلِّ} بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله: {للكتاب}. والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو، لان الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها.
قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 1- 2] {وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ} [التكوير: 11]. {للكتاب} وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحيى وخلف: {للكتب} جمعا ثم استأنف الكلام فقال: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدئوا في البطون.
وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام- ثم قرأ- {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}» أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموعظة فقال: «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام» وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب التذكرة مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}.
وقال ابن عباس: المعنى نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة، وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ} أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا.
وقيل: نفنى السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها، كقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} [إبراهيم: 48] والقول الأول أصح وهو نظير قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] وقوله عز وجل: {عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. {وَعْداً} نصب على المصدر، أي وعدنا وعدا {عَلَيْنا} إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف: ثم أكد ذلك بقوله جل ثناؤه: {إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} قال الزجاج: معنى {إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل {إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} أي ما وعدناكم وهو كما قال: {كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل: 18].
وقيل: {كانَ} للاخبار بما سبق من قضائه.
وقيل: صلة.

.تفسير الآيات (105- 106):

{وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ} الزبور والكتاب واحد، ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعه زبر.
وقال سعيد بن جبير: {الزبور} التوراة والإنجيل والقرآن. {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} الذي في السماء {أَنَّ الْأَرْضَ} أرض الجنة {يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: {الزبور} زبور داود، و{الذكر} توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد: {الزبور} كتب الأنبياء عليهم السلام، و{الذِّكْرِ} أم الكتاب الذي عند الله في السماء.
وقال ابن عباس: {الزبور} الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و{الذكر} التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة {فِي الزَّبُورِ} بضم الزاي جمع زبر {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير، لان الأرض في الدنيا قال قد ورثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} [الزمر: 74] وعن ابن عباس: أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفتوح.
وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل، بدليل قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها} [الأعراف: 137] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرأ حمزة {عبادي الصالحون} بتسكين الياء. {إِنَّ فِي هذا} أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه.
وقيل: إن في القرآن {لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ} قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: {عابدين} مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل، لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة.
وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.