فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (36):

{وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ} وقرأ ابن أبى إسحاق: {وَالْبُدْنَ} لغتان، واحدتها بدنة. كما يقال: ثمرة وثمر وثمر، وخشبة وخشب وخشب. وفى التنزيل: {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ} وقرى: {ثمر} لغتان. وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن.
وقيل: إن هذا الاسم خاص بالإبل.
وقيل: البدن جمع {بدن} بفتح الباء والدال. ويقال: بدن الرجل بضم الدال إذا سمن. وبدن بتشديدها إذا كبر وأسن. وفى الحديث: «إنى قد بدنت» أي كبرت وأسننت.
وروى: «بدنت» وليس له معنى، لأنه خلاف صفته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعناه كثرة اللحم. يقال: بدن الرجل يبدن بدنا وبدانة فهو بادن، أي ضخم.
الثانية: اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا، فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي: لا.
وقال مالك وأبو حنيفة: نعم. وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة، فهل تجزيه أم لا، فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه. وعلى مذهب مالك تجزيه. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء، لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة» الحديث. فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة، والله أعلم. وأيضا قوله تعالى: {فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها} يدل على ذلك، فإن الوصف خاص بالإبل. والبقر يضجع ويذبح كالغنم، على ما يأتي. ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعا. وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل، حتى تجوز البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل. وهذا حجة لابي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك، وليس ذلك في مذهبنا. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ. والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة. والهدى عام في الإبل والبقر والغنم.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} نص في أنها بعض الشعائر. وقوله: {لَكُمْ فِيها خَيْرٌ} يريد به المنافع التي تقدم ذكرها. والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
الرابعة: قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ} أي انحروها على اسم الله. و{صَوافَّ} أي قد صفت قوائمها. والإبل تنحر قياما معقولة. واصل هذا الوصف في الخيل، يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثني سنبك الرابعة، والسنبك طرف الحافر. والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري: {صوافي} أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا. وعن الحسن أيضا {صواف} بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهى بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس.
و{صَوافَّ} قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها، من صف يصف. وواحد صواف صافة، وواحد صوافي صافية. وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن على {صوافن} بالنون جمع صافنة. ولا يكون واحدها صافنا، لان فاعلا لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها، وهى فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف وخوالف. والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. ومنه قوله تعالى: {الصَّافِناتُ الْجِيادُ} [ص: 31].
وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه ** مقلدة أعنتها صفونا

ويروى:
تظل جياده نوحا عليه ** مقلدة أعنتها صفونا

وقال آخر:
ألف الصفون فما يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عمرو الجرمي: الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله.
وقال الأعشى:
وكل كميت كجذع السحو ** ق يرنو القناء إذا ما صفن

الخامسة: قال ابن وهب: أخبرني ابن أبى ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال: تقيدها ثم تصفها.
وقال لي مالك بن أنس مثله. وكان العلماء على استحباب ذلك، إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما. وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة. والصحيح ما عليه الجمهور، لقوله تعالى: {فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها} معناه سقطت بعد نحرها، ومنه وجبت الشمس. وفى صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى أبو داود عن أبى الزبير عن جابر، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها.
السادسة: قال مالك: فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة. والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة، إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها. ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب. وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر بخطامها. وتضجع البقر والغنم.
السابعة: ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع. وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر. فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم، بخلاف الأضحية في سائر البلاد. والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر. ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما، إن شاء الله تعالى.
الثامنة: قوله تعالى: {فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها} يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط. قال قيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ** عن السلم حتى كان أول واجب

وقال أوس بن حجر:
ألم تكسف الشمس والبدر وال ** كواكب للجبل الواجب

فقوله تعالى: {فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها} يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة. كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها}. والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح. قال الشاعر:
فتركته جزر السباع ينشنه ** ما بين قلة رأسه والمعصم

وقال عنترة:
وضربت قرني كبشها فتجدلا

أي سقط مقتولا إلى الجدالة، وهى الأرض، ومثله كثير. والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت قرب الأكل، لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ. ولا تسلخ حتى تبرد لان ذلك من باب التعذيب، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق.
التاسعة: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْها} أمر معناه الندب. وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية، وفية أجر وامتثال، إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم.
وقال أبو العباس بن شريح: الأكل والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء.
وقال الشافعي: الأكل مستحب والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان تطوعا، فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه.
العاشرة: قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قال مجاهد وإبراهيم والطبري: قوله: {وَأَطْعِمُوا} أمر إباحة. و{الْقانِعَ} السائل. يقال: قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل، يقنع قناعة فهو قنع، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل، مثل حمد يحمد- قناعة وقنعا وقنعانا، قاله الخليل. ومن الأول قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغنى ** مفاقره أعف من القنوع

وقال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة.
وروى عن أبى رجاء أنه قرأ {وأطعموا القنع} ومعنى هذا مخالف للأول.
يقال: قنع الرجل فهو قنع إذا رضى. وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك، سائلا كان أو ساكتا.
وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن ابن أبى الحسن: المعتر المعترض من غير سؤال. قال زهير:
على مكثريهم رزق من يعتريهم ** وعند المقلين السماحة والبذل

وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والمعتر الزائر.
وروى عن الحسن أنه قرأ: {والمعترى} ومعناه كمعنى المعتر. يقال: اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه، ذكره النحاس.

.تفسير الآية رقم (37):

{لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها} قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت الآية. والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن القبول، المعنى: لن يصل إليه.
وقال ابن عباس: لن يصعد إليه. ابن عيسى: لن يقبل لحومها ولا دماءها، ولكن يصل إليه التقوى منكم، أي ما أريد به وجهه، فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه، ومنه الحديث: «إنما الأعمال بالنيات». والقراءة {لَنْ يَنالَ اللَّهَ} و{يَنالُهُ} بالياء فيهما. وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرا إلى اللحوم.
الثانية: قوله تعاب: {كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ} من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهى أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما يظهر إلى العبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده.
الثالثة: قوله تعالى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ} ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها من الآية قبلها فقال عز من قائل: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها} وذكر هنا التكبير. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول: بسم الله والله أكبر، وهذا من فقهه رضي الله عنه. وفى الصحيح عن أنس قال: ضحى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكبشين أملحين أقرنين. قال: ورأيته يذبحهما بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما، وسمي وكبر. وقد اختلف العلماء في هذا، فقال أبو ثور: التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة، وكافه العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرا آخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز. وكذلك لو قال: الله أكبر فقط، أولا إله إلا الله، قاله ابن حبيب. فلو لم يرد التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل؟ قاله الشافعي ومحمد بن الحسن. وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الذبح.
الرابعة: ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل منى، جائز. وكره ذلك أبو حنيفة، والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: ثم قال: «باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحى به. واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]. وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: ذبح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين أملحين، فلما وجههما قال: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً- وقرأ إلى قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ- اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر» ثم ذبح. فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه. وعلى هذا يدل قوله: إنه بدعة. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} روى أنها نزلت في الخلفاء الاربعة، حسبما تقدم في الآية التي قبلها. فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن.