فصل: تفسير الآية رقم (38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (38):

{إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}
روى أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمنى مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كَفُورٍ}. فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهى عن الخيانة والغدر. وقد مضى في الأنفال التشديد في الغدر، وأنه: «ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان».
وقيل: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الايمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم، وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم.
وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرأ نافع {يُدافِعُ} {ولولا دفاع}. وقرأ أبو عمرو وابن كثير {يدفع} {وَلَوْ لا دَفْعُ}. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {يُدافِعُ} {وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ}. ويدافع بمعنى يدفع، مثل عاقبت اللص، وعافاه الله، والمصدر دفعا. حكى الزهراوي أن {دفاعا} مصدر دفع، كحسب حسابا.

.تفسير الآية رقم (39):

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ} قيل: هذا بيان قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم، وفية إضمار، أي أذن للذين يصلحون للقتال في القتال، فحذف لدلالة الكلام على المحذوف.
وقال الضحاك: استأذن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة، فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فلما هاجر نزلت {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح. وهى أول آية نزلت في القتال. قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة.
وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن، فأنزل الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فقال أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون قتال. فقال: هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا، وليس فيه: عن ابن عباس.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة، لان قوله: {أُذِنَ} معناه أبيح، وهو لفظ موضوع في اللغة لاباحة كل ممنوع. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة وغير موضع. وقرى {أذن} بفتح الهمزة، أي أذن الله. {يقاتلون} بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم. وقرى {يُقاتَلُونَ} بفتح التاء، أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. ولهذا قال: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أي أخرجوا من ديارهم.

.تفسير الآية رقم (40):

{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ} 40 هذا أحد ما ظلموا به، وإنما أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده. فقوله: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ 40} استثناء منقطع، أي لكن لقولهم ربنا الله، قاله سيبويه.
وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء، وهو قول أبى إسحاق الزجاج، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله، أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان. و{الَّذِينَ أُخْرِجُوا 40} في موضع خفض بدلا من قوله: {لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ}.
الثانية: قال ابن العربي: قال علماؤنا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام، لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الاسراء: 15]. فاستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم، فمنهم من فر إلى أرض الحبشة: ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى. فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحده وعبده، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إلى قوله: {الْأُمُورِ}.
الثالثة: في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه، لان الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، لان الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه. وهذه الآية مثل قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا 40} [التوبة: 40] والكلام فيهما واحد، وقد تقدم في براءة.
والحمد لله.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الاعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الامر في القتال بقوله: {وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} الآية، أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه، إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه. وأيضا هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم، وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى، أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع، وفى زمن محمد عليه السلام المساجد. {لَهُدِّمَتْ} 40 من هدمت البناء أي نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية.
وروى عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال: ولولا دفع الله بأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفار عن التابعين فمن بعدهم. وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق، كما تقدم.
وقال مجاهد لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول. وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة.
وقال أبو الدرداء: لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب. وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية، وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعا؟ من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله.
الخامسة: قال بن خويز منداد: تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والكنائس. وإنما لم ينقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة، لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة. ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لان في ذلك إظهار أسباب الكفر. وجائز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه، وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السادسة: قرئ {لهدمت} بتخفيف الدال وتشديدها. {صَوامِعُ} 40 جمع صومعة، وزنها فوعلة، وهى بناء مرتفع حديد الأعلى، يقال: صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده. ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة. والأصمع من الرجال الحديد القول.
وقيل: هو الصغير الاذن من الناس وغيرهم. وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين- قاله قتادة- ثم استعمل في مئذنة المسلمين. والبيع. جمع بيعة، وهى كنيسة النصارى.
وقال الطبري: قيل هي كنائس اليهود، ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضى ذلك. {وَصَلَواتٌ} قال الزجاج والحسن: هي كنائس اليهود، وهى بالعبرانية صلوتا.
وقال أبو عبيدة: الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في أسفارهم، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات. وفى {صَلَواتٌ} تسع قراءات ذكرها ابن عطية: صلوات، صلوات، صلوات، صلولى على وزن فعولى، صلوب بالباء بواحدة جمع صليب، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول، صلوات بضم الصاد واللام وألف بعد الواو، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الالف بعد الثاء المثلثة، صلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف. وذكر النحاس: وروى عن عاصم الجحدري أنه قرأ {وصلوب}.
وروى عن الضحاك {وصلوث} بالثاء معجمة بثلاث، ولا أدرى أفتح الصاد أم ضمها. قلت: فعلى هذا تجئ هنا عشر قراءات.
وقال ابن عباس: الصلوات الكنائس. أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين. ابن زيد: هي صلوات المسلمين تنقطع إذا دخل عليهم العدو وتهدم المساجد، فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف. وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون الهدم حقيقة.
وقال الحسن: هدم الصلوات تركها، قطرب: هي الصوامع الصغار ولم يسمع لها واحد. وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم. فالصوامع للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين. قال ابن عطية: والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات. وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها، إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب. ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر. ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الاشراك، لان هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع.
وقال النحاس: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ 40} الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر أن يكون {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ 40} عائدا على المساجد لا على غيرها، لان الضمير يليها، ويجوز أن يعود على {صَوامِعُ 40} وما بعدها، ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق.
السابعة: فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء.
وقيل: لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر، كما أخر السابق في قوله: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} [فاطر: 32].
الثامنة: قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} 40 أي من ينصر دينه ونبيه. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} 40 أي قادر. قال الخطابي: القوى يكون بمعنى القادر، ومن قوى على شيء فقد قدر عليه. {عَزِيزٌ} أي جليل شريف، قاله الزجاج. وقيل الممتنع الذي لا يرام، وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.

.تفسير الآية رقم (41):

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
قال الزجاج: {الَّذِينَ} في موضع نصب ردا على {مِنْ}، يعني في قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ 40}.
وقال غيره: {الَّذِينَ} في موضع خفض ردا على قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ}
ويكون {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أربعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن في الأرض غيرهم.
وقال ابن عباس: المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان.
وقال قتادة: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس.
وقال الحسن وأبو العالية: هم هذه الامة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة.
وقال ابن أبى نجيح: يعني الولاة.
وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك، وهذا حسن. قال سهل بن عبد الله: الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان، لان ذلك لازم له واجب عليه، ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم.

.تفسير الآيات (42- 44):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44)}
هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزية، أي كان قبلك أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر. {وَكُذِّبَ مُوسى} أي كذبه فرعون وقومه. فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقوم موسى. {فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ} أي أخرت عنهم العقوبة. {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} فعاقبتهم. {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} استفهام بمعنى التغيير، أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر، والمنكر واحد المناكير.

.تفسير الآية رقم (45):

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}
قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} أي أهلكنا أهلها. وقد مضى في آل عمران الكلام في كأين. {وَهِيَ ظالِمَةٌ} أي بالكفر. {فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} تقدم في الكهف. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال الزجاج: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} معطوف على {مِنْ قَرْيَةٍ} أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر. والفراء يذهب إلى أن {وَبِئْرٍ} معطوف على {عُرُوشِها}.
وقال الأصمعي: سألت نافع بن أبى نعيم أيهمز البئر والذئب؟ فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما. وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما، إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. ومعنى {مُعَطَّلَةٍ} متروكة، قاله الضحاك.
وقيل: خالية من أهلها لهلاكهم.
وقيل: غائرة الماء.
وقيل: معطلة من دلائها وأرشيتها، والمعنى متقارب. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. قال غدى بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كل ** سا فللطير في ذراه وكور

أي رفعه.
وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: مجصص، من الشيد وهو الجص. قال الراجز:
لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا ** كحينة الماء بين الطين والشيد

وقال امرؤ القيس:
ولا أطما إلا مشيدا بجندل

وقال ابن عباس: {مَشِيدٍ} أي حصين، وقاله الكلبي. وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع.
وقال الجوهري: والمشيد المعمول بالشيد. والشيد بالكسر: كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر. تقول: شاده يشيده شيدا جصصه. والمشيد بالتشديد المطول.
وقال الكسائي: {المشيد} للواحد، من قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}، والمشيد للجمع، من قوله تعالى: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. وفى الكلام مضمر محذوف تقديره: وقصر مشيد مثلها معطل. ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته. وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الأبار ملوك البوادي، أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء. وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما: أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في بلد يقال له حضوراء نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمى المكان حضرموت، لان صالحا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد، فيما ذكر الغزنوي. الثعلبي: جلهس بن جلاس. وكان حسن السيرة فيهم عادلا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقى المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك، لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن بالنون من رخام وهى شبه الحياض كثيرة تملا للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر، وأخر للغنم. والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها. وطال عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلى بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم. فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إنى لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته. فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب. وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم، فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر. فأصفقوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحى ينزل عليه في النوم دون اليقظة، كان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته، فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر، فعند ذلك أصابتهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشا، حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع، وفى منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر وشوك العضاه والقتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته، ومن الإصرار على ما يوجب نقماته. قال السهيلي. وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله- فيما ذكروا وزعموا- وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال، لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة، نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل.
وقيل: إن الذي أهلكهم بخت نصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 11]. فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم.