فصل: تفسير الآية رقم (107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (107):

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} جزم بلم، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل، وفتحت {أن} لأنها في موضع نصب. {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي بالإيجاد والاختراع، والملك والسلطان، ونفوذ الامر والإرادة. وارتفع {مُلْكُ} بالابتداء، والخبر {اللَّهَ} والجملة خبر {أَنَّ}. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته، لقوله: {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} وقيل: المعنى أي قل لهم يا محمد ألم تعلموا أن لله سلطان السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي، من وليت أمر فلان، أي قمت به، ومنه ولي العهد، أي القيم بما عهد إليه من أمر المسلمين. ومعنى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سوى لله وبعد الله، كما قال أمية بن أبي الصلت:
يا نفس ما لك دون الله من واق ** وما على حدثان الدهر من باق

وقراءة الجماعة {وَلا نَصِيرٍ} بالخفض عطفا على {وَلِيٍّ} ويجوز {ولا نصير} بالرفع عطفا على الموضع، لأن المعنى ما لكم من دون الله ولي ولا نصير.

.تفسير الآية رقم (108):

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)}
قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} هذه {أم} المنقطعة التي بمعنى بل، أي بل تريدون، ومعنى الكلام التوبيخ. {أَنْ تَسْئَلُوا} في موضع نصب ب {تُرِيدُونَ}. {كما سئل} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر، أي سؤالا كما. و{مُوسى} في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. {مِنْ قَبْلُ}: سؤالهم إياه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمدا أن يأتي بالله والملائكة قبيلا. عن ابن عباس ومجاهد: سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا. وقرأ الحسن {كما سيل}، وهذا على لغة من قال: سلت أسأل، ويجوز أن يكون على بدل الهمزة ياء ساكنة على غير قياس فانكسرت السين قبلها. قال النحاس: بدل الهمزة بعيد. والسواء من كل شي: الوسط. قاله أبو عبيدة معمر بن المثني، ومنه قوله: {فِي سَواءِ الْجَحِيمِ}.
وحكى عيسى بن عمر قال: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي، وأنشد قول حسان يرثي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يا ويح أصحاب النبي ورهطه ** بعد المغيب في سواء الملحد

وقيل: السواء القصد، عن الفراء، أي ذهب عن قصد الطريق وسمته، أي طريق طاعة الله عز وجل. وعن ابن عباس أيضا أن سبب نزول هذه الآية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك.

.تفسير الآيات (109- 110):

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}. فيه مسألتان:
الأولى: {وَدَّ} تمنى، وقد تقدم. {كُفَّاراً} مفعول ثان ب {يَرُدُّونَكُمْ}. {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} قيل: هو متعلق ب {وَدَّ}.
وقيل: ب {حَسَداً}، فالوقف على قوله: {كُفَّاراً}. و{حَسَداً} مفعول له، أي ود. ذلك للحسد، أو مصدر دل على ما قبله على الفعل. ومعنى: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} أي من تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمروا به، ولفظة الحسد تعطي هذا. فجاء {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} تأكيدا وإلزاما، كما قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ}، {يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ}، {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ}. والآية في اليهود.
الثانية: الحسد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا، وهذا النوع الذي ذمه الله تعالى في كتابه بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وإنما كان مذموما لان فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق. وأما المحمود فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السلام: «لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار». وهذا الحسد معناه الغبطة. وكذلك ترجم عليه البخاري {باب الاغتباط في العلم والحكمة}. وحقيقتها: أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة ولا يزول عنه خيره، وقد يجوز أن يسمى هذا منافسة، ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ}. {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} أي من بعد ما تبين لهم الحق لهم وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقرآن الذي جاء به. قوله تعالى- {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {فَاعْفُوا} والأصل اعفووا حذفت الضمة لثقلها، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين. والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس. صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً}.
الثانية: هذه الآية منسوخة بقوله: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {صاغِرُونَ} عن ابن عباس.
وقيل: الناسخ لها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. قال أبو عبيدة: كل آية فيها ترك للقتال فهي مكية منسوخة بالقتال. قال ابن عطية: وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة.
قلت: وهو الصحيح، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأسامة وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول- وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي- فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغيروا علينا! فسلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء، لا أحسن مما تقول إن كان حقا! فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. قال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاستتب المشركون والمسلمون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب- يريد عبد الله بن أبي- قال كذا وكذا» فقال: أي رسول الله، بأبي أنت وأمي! اعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى، ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرا}، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ}. فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتأول في العفو عنهم ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدرا فقتل الله به من قتل من صناديد الكفار وسادات قريش، فقفل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه غانمين منصورين، معهم أسارى من صناديد الكفار وسادات قريش، قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام، فأسلموا.
قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} يعني قتل قريظة وجلاء بني النضير. {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} تقدم. والحمد لله تعالى.
قوله تعالى: {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} جاء في الحديث: «أن العبد إذا مات قال الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم». وخرج البخاري والنسائي عن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله». قالوا: يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله. مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت»، لفظ النسائي. ولفظ البخاري: قال عبد الله قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله عليه وسلم: «يكم مال وارثه أحب إليه من ماله» قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: «فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر». وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر ببقيع الغرقد فقال: السلام عليكم أهل القبور، أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت. فأجابه هاتف: يا ابن الخطاب أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلفناه فقد خسرناه. ولقد أحسن القائل:
قدم لنفسك قبل موتك صالحا ** واعمل فليس إلى الخلو سبيل

وقال آخر:
قدم لنفسك توبة مرجوة ** قبل الممات وقبل حبس الألسن

وقال آخر:
ولدتك إذ ولدتك أمك باكيا ** والقوم حولك يضحكون سرورا

فاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا ** في يوم موتك ضاحكا مسرورا

وقال آخر:
سابق إلى الخير وبادر به ** فإنما خلفك ما تعلم

وقدم الخير فكل امرئ ** على الذي قدمه يقدم

وأحسن من هذا كله قول أبي العتاهية:
استعد بمالك في حياتك إنما ** يبقى وراءك مصلح أو مفسد

وإذا تركت لمفسد لم يبقه ** وأخو الصلاح قليله يتزيد

وإن استطعت فكن لنفسك وارثا ** إن المورث نفسه لمسدد

{إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تقدم.

.تفسير الآيات (111- 112):

{وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى} المعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا. وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا. وأجاز الفراء أن يكون {هُوداً} بمعنى يهوديا، حذف منه الزائد، وأن يكون جمع هائد.
وقال الأخفش سعيد: {إِلَّا مَنْ كانَ} جعل {كان} واحدا على لفظ {من}، ثم قال هودا فجمع، لأن معنى: {من} جمع. ويجوز {تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ} وتقدم الكلام في هذا، والحمد لله.
قوله تعالى: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أصل {هاتُوا} هاتيوا، حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، يقال في الواحد المذكر: هات، مثل رام، وفى المؤنث: هاتي، مثل رامي. والبرهان: الدليل الذي يوقع اليقين، وجمعه براهين، مثل قربان وقرابين، وسلطان وسلاطين. قال الطبري: طلب الدليل هنا يقضي إثبات النظر ويرد على من ينفيه. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} يعني في إيمانكم أو في قولكم تدخلون الجنة، أي بينوا ما قلتم ببرهان، ثم قال تعالى: {بَلى} ردا عليهم وتكذيبا لهم، أي ليس كما تقولون.
وقيل: إن {بَلى} محمولة على المعنى، كأنه قيل أما يدخل الجنة أحد؟ فقيل: {بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} ومعنى: {أَسْلَمَ} استسلم وخضع.
وقيل: أخلص عمله. وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان، ولأنه موضع الحواس، وفيه يظهر العز والذل. والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء. ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} جملة في موضع الحال، وعاد الضمير في: {وَجْهَهُ} و{لِلَّهِ} على لفظ {مَنْ} وكذلك {أَجْرُهُ} وعاد في: {عَلَيْهِمْ} على المعنى، وكذلك في: {يَحْزَنُونَ} وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (113):

{وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}
معناه ادعى كل فريق منهم أن صاحبه ليس على شي، وأنه أحق برحمة الله منه. {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ} يعني التوراة والإنجيل، والحملة في موضع الحال. والمراد بـ {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} في قول الجمهور: كفار العرب، لأنهم لا كتاب لهم.
وقال عطاء: المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى. الربيع بن أنس: المعنى كذلك قالت اليهود قبل النصارى. ابن عباس: قدم أهل نجران على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالت كل فرقة منهم للأخرى لستم على شي، فنزلت الآية.

.تفسير الآية رقم (114):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} {مَنْ} رفع بالابتداء، و{أَظْلَمُ} خبره، والمعنى لا أحد أظلم. و{أَنْ} في موضع نصب على البدل من {مَساجِدَ}، ويجوز أن يكون التقدير: كراهية أن يذكر، ثم حذف. ويجوز أن يكون التقدير: من أن يذكر فيها، وحرف الخفض يحذف مع {أن} لطول الكلام. وأراد بالمساجد هنا بيت المقدس ومحاريبه. وقيل الكعبة، وجمعت لأنها قبلة المساجد أو للتعظيم.
وقيل: المراد سائر المساجد، والواحد مسجد بكسر الجيم، ومن العرب من يقول: مسجد، بفتحها. قال الفراء: كل ما كان على فعل يفعل، مثل دخل يدخل، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا، ولا يقع فيه الفرق، مثل دخل يدخل مدخلا، وهذا مدخله، إلا أحرفا من الأسماء الزموها كسر العين، من ذلك: المسجد والمطلع والمغرب والمشرق والمسقط والمفرق والمجزر والمسكن والمرفق من رفق يرفق والمنبت والمنسك من نسك ينسك، فجعلوا الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب في الاسم. والمسجد بالفتح: جبهة الرجل حيث يصيبه ندب السجود. والاراب: السبعة مساجد، قاله الجوهري.
الثانية: واختلف الناس في المراد بهذه الآية وفيمن نزلت، فذكر المفسرون أنها نزلت في بخت نصر، لأنه كان أخرب بيت المقدس.
وقال ابن عباس وغيره: نزلت في النصارى، والمعنى كيف تدعون أيها النصارى أنكم من أهل الجنة! وقد خربتم بيت المقدس ومنعتم المصلين من الصلاة فيه. ومعنى الآية على هذا: التعجب من فعل النصارى ببيت المقدس مع تعظيمهم له، وإنما فعلوا ما فعلوا عداوة لليهود. روى سعيد عن قتادة قال: أولئك أعداء الله النصارى، حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا بخت نصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وروي أن هذا التخريب بقي إلى زمن عمر رضي الله عنه.
وقيل: نزلت في المشركين إذ منعوا المصلين والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية.
وقيل: المراد من منع من كل مسجد إلى يوم القيامة، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها ببعض المساجد وبعض الاشخاص ضعيف، والله تعالى أعلم.
الثالثة: خراب المساجد قد يكون حقيقيا كتخريب بخت نصر والنصارى بيت المقدس على ما ذكر أنهم غزوا بني إسرائيل مع بعض ملوكهم- قيل: اسمه نطوس بن اسبيسانوس الرومي فيما ذكر الغزنوي- فقتلوا وسبوا، وحرقوا التوراة، وقذفوا في بيت المقدس العذرة وخربوه. ويكون مجازا كمنع المشركين المسلمين حين صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الحرام، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها.
الرابعة: قال علماؤنا: ولهذا قلنا لا يجوز منع المرأة من الحج إذا كانت ضرورة، سواء كان لها محرم أو لم يكن، ولا تمنع أيضا من الصلاة في المساجد ما لم يخف عليها الفتنة، وكذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ولذلك قلنا: لا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلة، ولا يمنع بناء المساجد إلا أن يقصدوا الشقاق والخلاف، بأن يبنوا مسجدا إلى جنب مسجد أو قربه، يريدون بذلك تفريق أهل المسجد الأول وخرابه واختلاف الكلمة، فإن المسجد الثاني ينقض ويمنع من بنيانه، ولذلك قلنا: لا يجوز أن يكون في المصر جامعان، ولا لمسجد واحد إمامان، ولا يصلي في مسجد جماعتان. وسيأتي لهذا كله مزيد بيان في سورة براءة إن شاء الله تعالى، وفي النور حكم المساجد وبنائها بحول الله تعالى. ودلت الآية أيضا على تعظيم أمر الصلاة، وأنها لما كانت أفضل الأعمال وأعظمها أجرا كان منعها أعظم إثما.
الخامسة: كل موضع يمكن أن يعبد الله فيه ويسجد له يسمى مسجدا، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»، أخرجه الأئمة. وأجمعت الامة على أن البقعة إذا عينت للصلاة بالقول خرجت عن جملة الاملاك المختصة بربها وصارت عامة لجميع المسلمين، فلو بنى رجل في داره مسجدا وحجزه على الناس واختص به لنفسه لبقي على ملكه ولم يخرج إلى حد المسجدية، ولو أباحه للناس كلهم كان حكمه حكم سائر المساجد العامة، وخرج عن اختصاص الاملاك.
السادسة: قوله تعالى: {أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ} {أُولئِكَ} مبتدأ وما بعده خبره. {خائِفِينَ} حال، يعني إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكن الكافر حينئذ من دخولها. فإن دخلوها، فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم، وتأديبهم على دخولها.
وفي هذا دليل على أن الكافر ليس له دخول المسجد بحال، على ما يأتي في براءة إن شاء الله تعالى. ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد بناء عمر بيت المقدس في الإسلام لا يدخله نصراني إلا أوجع ضربا بعد أن كان متعبدهم. ومن جعلها في قريش قال: كذلك نودي بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان».
وقيل: هو خبر ومقصوده الامر، أي جاهدوهم واستأصلوهم حتى لا يدخل أحد منهم المسجد الحرام إلا خائفا، كقوله: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} فإنه نهى ورد بلفظ الخبر.
السابعة: قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ} قيل القتل للحربي، والجزية للذمي، عن قتادة. السدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي، وفتح عمورية ورومية وقسطنطينية، وغير ذلك من مدنهم، على ما ذكرناه في كتاب التذكرة. ومن جعلها في قريش جعل الخزي عليهم في الفتح، والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافرا.