فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (28):

{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً} الضمير في {تَجِدُوا فِيها} للبيوت التي هي بيوت الغير. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: معنى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً} أي لم يكن لكم فيها متاع. وضعف الطبري هذا التأويل، وكذلك هم في غاية الضعف، وكان مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل فيها متاع.
وراي لفظة {المتاع} متاع البيت، الذي هو البسط والثياب، وهذا كله ضعيف. والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها والأحاديث، التقدير: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا، كما فعل عليه السلام مع سعد، وأبو موسى مع عمر رضي الله عنهما. فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا. وأسند الطبري عن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فارجع وأنا مغتبط، لقوله تعالى: {هُوَ أَزْكى لَكُمْ}.
الثانية: سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا، لان الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الاذن من ربه، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الاذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه. فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال: «من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق» وروي الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدرى يرجل به رأسه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الله الاذن من أجل البصر». وروي عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح».
الثالثة: إذا ثبت أن الاذن شرط في دخوله المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير. وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في محظور.

.تفسير الآية رقم (29):

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)}
فيه مسألتان: الأولى: روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الامر، فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن، فنزلت هذه الآية، أباح الله تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد، لان العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم.
الثانية: اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت، فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة. قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل، وفيها متاع لهم، أي استمتاع بمنفعتها. وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها دور مكة، ويبينه قول مالك. وهذا على القول بأنها غير متملكة، وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة.
وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيساريات. قال الشعبي: لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس هلم.
وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط، ففي هذا أيضا متاع.
وقال جابر بن زيد: ليس يعني بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة، أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة، أو دار ينظر إليها فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع. قال أبو جعفر النحاس: وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين، وهو موافق للغة. والمتاع في كلام العرب: المنفعة، ومنه أمتع الله بك. ومنه {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]. قلت: واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال: أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل، وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع فالطالب يدخل في الخانكات وهى المدارس لطلب العلم، والساكن يدخل الخانات وهى الفناتق، أي الفنادق، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة، وكل يؤتى على وجهه من بابه. وأما قول ابن زيد والشعبي فقول! وذلك أن بيوت القيساريات محظورة بأموال الناس، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها إلا من أذن له ربها، بل أربابها موكلون بدفع الناس.

.تفسير الآية رقم (30):

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ} 30 وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر، يقال: غض بصره يغضه غضا، قال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير ** فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وقال عنترة.
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ** حتى يواري جارتي مأواها

ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد منه المحرم دون المحلل.
وفي البخاري: وقال سعيد بن أبى الحسن للحسن: «إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن؟ قال: اصرف بصرك، يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ 30}» وقال قتادة: عما لا يحل لهم، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] خائنة الأعين من النظر إلى ما نهى عنه.
الثانية: قوله تعالى: {مِنْ أَبْصارِهِمْ} 30 {مِنْ} زائدة، كقوله: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [الحاقة: 47].
وقيل: {مِنْ} للتبعيض، لان من النظر ما يباح.
وقيل: الغض النقصان، يقال: غض فلان من فلان أي وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص. ف {مِنْ} من صلة الغض، وليست للتبعيض ولا للزيادة.
البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته. ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياكم والجلوس على الطرقات» فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه» قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر وكف الأذى ورد السلام والامر بالمعروف والنهى عن المنكر». رواه أبو سعيد الخدري، خرجه البخاري ومسلم.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى: «لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية».
وروى الأوزاعي قال: حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت، فقال: إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك، فلقى أبا موسى فسأله فقال: ظلمت عينك، فاستغفر الله وتب، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك. قال الأوزاعي: وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري. وهذا يقوي قول من يقول: إن {مِنْ} للتبعيض، لان النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها، فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج، لأنها تملك. ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا! وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها.
الرابعة قوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} 30 أي يستروها عن أن يراها من لا يحل.
وقيل: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ 30} أي عن الزنى، وعلى هذا القول لو قال: {من فروجهم} لجاز. والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام.
وروى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله، عوراتنا ما نأتى منها وما نذر؟ قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك». قال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال:«إن استطعت ألا يراها فافعل». قلت: فالرجل يكون خاليا؟ فقال: «الله أحق أن يستحيا منه من الناس». وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحالها معه فقالت: ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك منى.
الخامسة: بهذه الآية حرم العلماء نصا دخول الحمام بغير مئزر. وقد روي عن ابن عمر أنه قال: أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة. وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم بالجحفة. فدخوله جائز للرجال بالمآزر، وكذلك النساء للضرورة كغسلهن من الحيض أو النفاس أو مرض يلحقهن، والأولى بهن والأفضل لهن غسلهن إن أمكن ذلك في بيوتهن، فقد روى أحمد بن منيع حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه عن أم الدرداء أنه سمعها تقول: لقيني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد خرجت من الحمام فقال: «من أين يا أم الدرداء»؟ فقالت: من الحمام، فقال: «والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهى هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل». وخرج أبو بكر البزار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احذروا بيتا يقال له الحمام». قالوا: يا رسول الله، ينقى الوسخ؟ قال: «فاستتروا». قال أبو محمد عبد الحق: هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب، على أن الناس يرسلونه عن طاوس، وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة فلا يصح منه شيء لضعف الأسانيد، وكذلك ما خرجه الترمذي. قلت: أما دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على أهل الفضل والدين، لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رموا مآزرهم، حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائما منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا عن عورته ضاما بين فخذيه ولا أحد يغير عليه. هذا أمر بين الرجال فكيف من النساء! لا سيما بالديار المصرية إذ حماماتهم خالية عن المظاهر التي هي عن أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم!.
السادسة: قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشرة شروط: الأول- ألا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهير عن الرحضاء.
الثاني- أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.
الثالث- أن يستر عورته بإزار صفيق.
الرابع- أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور.
الخامس- أن يغير ما يرى من منكر برفق، يقول: استتر سترك الله! السادس: إن دلكه أحد لا يمكنه من عورته، من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته. وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا.
السابع- أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس.
الثامن- أن يصب الماء على قدر الحاجة.
التاسع- إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه.
العاشر- أن يتذكر به جهنم. فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر. ذكر الترمذي أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث طاوس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتقوا بيتا يقال له الحمام». قيل: يا رسول الله، إنه يذهب به الوسخ ويذكر النار فقال: «إن كنتم لابد فاعلين فأدخلوه مستترين». وخرج من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام؛ وذلك لأنه إذا دخله سأل الله الجنة واستعاذ به من النار، وبئس البيت يدخله الرجل بيت العروس؛ وذلك لأنه يرغبه في الدنيا وينسيه الآخرة». قال أبو عبد الله: فهذا لأهل الغفلة، صير الله هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم، فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه ولا بيت عروس يستفزه، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى أن جميع نعيم الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كقتله عوقب بها مجرم أو مسي قد كان استوجب بها القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا.
السابعة: قوله تعالى: {ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ} 30 أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين وأبعد من دنس الأنام. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ} أي عالم. {بِما يَصْنَعُونَ} 30 تهديد ووعيد.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} إلى قوله: {مِنْ زِينَتِهِنَّ} فيه ثلاث وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ} خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد، فإن قوله: {قل للمؤمنين} يكفى، لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين، حسب كل خطاب عام في القرآن. وظهر التضعيف في {يَغْضُضْنَ} ولم يظهر في {يَغُضُّوا} لان لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة، وهما في موضع جزم جوابا. وبدأ بالغض قبل الفرج لان البصر رائد للقلب، كما أن الحمى رائد الموت. واخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
ألم تر أن العين للقلب رائد ** فما تألف العينان فالقلب آلف

وفي الخبر: «النظر سهم من سهام إبليس مسموم فمن غض بصره أورثه الله الحلاوة في قلبه».
وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر، فإذا أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر. وعن خالد بن أبى عمران قال: لا تتبعن النظرة النظرة فربما نظر العبد نظرة نغل منها قلبه كما ينغل الأديم فلا ينتفع به. فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل، فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها.
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر...» الحديث.
وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليهن وإن كانت صغيرة. وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري.
وفي الصحيحين عنه عليه السلام أنه صرف وجه الفضل عن الخثعمية حين سألته، وطفق الفضل ينظر إليها.
وقال عليه السلام: «الغيرة من الايمان والمذاء من النفاق». والمذاء هو أن يجمع الرجل بين النساء والرجال ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا، مأخوذ من المذي.
وقيل: هو إرسال الرجال إلى النساء، من قولهم: مذيت الفرس إذا أرسلتها ترعى. وكل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذى، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الأخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له، أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد، فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها.
الثانية: روى الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها ولميمونة وقد دخل عليها ابن أم مكتوم: «احتجبا» فقالتا: إنه أعمى، قال: «أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه». فإن قيل: هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل لان راويه عن أم سلمة نبهان مولاها وهو ممن لا يحتج بحديثه. وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السلام تغليظ على أزواجه لحرمتهن كما غلظ عليهن أمر الحجاب، كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة. ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك». قلنا: قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة كالرأس ومعلق القرط، وأما العورة فلا. فعلى هذا يكون مخصصا لعموم قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ}، وتكون {مِنْ} للتبعيض كما هي في الآية قبلها. قال ابن العربي: وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم لان ذلك أولى بها من بقائها في بيت أمر شريك، إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى، فرخص لها في ذلك، والله أعلم.
الثالثة: أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من الناظرين في باقى الآية حذارا من الافتتان، ثم استثنى، ما يظهر من الزينة، واختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه.
وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب.
وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ، ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس. وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آخر عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الأخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى ها هنا» وقبض على نصف الذراع. قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك. ف {ما ظهر} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه. قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبى بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لها: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا» وأشار إلى وجهه وكفيه. فهذا أقوى من جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، والله الموفق لا رب سواه. وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها.
الرابعة: الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية، لما فيه من المنافع وطرق العلوم. وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها، كالثياب والحلي والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31].
وقال الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ** وإذا عطلن فهن خير عواطل

الخامسة: من الزينة ظاهر وباطن، فما ظهر فمباح أبدا لكل الناس من المحارم والأجانب، وقد ذكرنا ما للعلماء فيه. وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم الله تعالى في هذه الآية، أو حل محلهم. واختلف في السوار، فقالت عائشة: هي من الزينة الظاهرة لأنه في اليدين.
وقال مجاهد: هو من الزينة الباطنة، لأنها خارج عن الكفين وإنما يكون في الذراع. قال ابن العربي: وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
السادسة: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ} قرأ الجمهور: بسكون اللام التي هي للأمر. وقرأ أبو عمرو: في رواية ابن عباس بكسرها على الأصل، لان الأصل لام الامر الكسر، وحذفت الكسرة لثقلها، وإنما تسكينها لتسكين عضد وفخذ. و{يَضْرِبْنَ} في موضع جزم بالأمر، إلا أنه بنى على حالة واحدة اتباعا للماضي عند سيبويه. وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رءوسهن بالاخمرة وهى المقانع سدلنها من وراء الظهر. قال النقاش: كما يصنع النبط، فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك، فأمر الله تعالى بلى الخمار على الجيوب، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها. روى البخاري عن عائشة أنها قالت: رحم الله نساء المهاجرات الأول، لما نزل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ} شققن أزرهن فاختمرن بها. ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهم وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك، فشقته عليها وقالت: إنما يضرب بالكثيف الذي يستر.
السابعة: الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطى به رأسها، ومنه اختمرت المرأة وتخمرت، وهى حسنة الخمرة. والجيوب: جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والفميص، وهو من الجوب وهو القطع. ومشهور القراءة ضم الجيم من {جُيُوبِهِنَّ}. وقرأ بعض الكوفيين: بكسرها بسبب الياء، كقراءتهم ذلك في: بيوت وشيوخ. والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة ويقولون: بيت وبيوت كفلس وفلوس.
وقال الزجاج: يجوز على أن تبدل من الضمة كسرة، فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال، لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء إلى ما لا يجوز.
وقال مقاتل: {عَلى جُيُوبِهِنَّ} أي على صدورهن، يعني على مواضع جيوبهن.
الثامنة: في هذه الآية دليل على أن الجيب إنما يكون في الثوب موضع الصدر. وكذلك كانت الجيوب في ثياب السلف رضوان الله عليهم، على ما يصنعه النساء عندنا بالأندلس واهل الديار المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم. وقد ترجم البخاري رحمة الله تعالى عليه باب جيب القميص من عند الصدر وغيره وساق حديث أبى هريرة قال: ضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما... الحديث، وقد تقدم بكماله، وفيه: قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول بإصبعيه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع. فهذا يبين لك أن جيبه عليه السلام كان في صدره، لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه. وهذا استدلال حسن.
التاسعة: قوله تعالى: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل: «إذا ولدت الامة بعلها» يعني سيدها، إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها وكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق، إذ كان العتق حاصلا لها من سببه، قاله ابن العربي. قلت: ومنه قوله عليه السلام في مارية: «أعتقها ولدها» فنسب العتق إليه. وهذا من أحسن تأويلات هذا الحديث. والله أعلم. مسألة- فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدنها حلال له لذة ونظرا. ولهذا المعنى بدأ بالبعولة، لان اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5- 6].
العاشرة: اختلف الناس في جواز نظر الرجل إلى فرج المرأة، على قولين: أحدهما- يجوز، لأنه إذا جاز له التلذذ به فالنظر أولى.
وقيل: لا يجوز، لقول عائشة رضى الله عنها في ذكر حالها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما رأيت ذلك منه ولا رأى ذلك منى» والأول أصح، وهذا محمول على الأدب، قاله ابن العربي. وقد قال أصبغ من علمائنا: يجوز له أن يلحسه بلسانه.
وقال ابن خويز منداد: أما الزوج والسيد فيجوز له أن ينظر إلى سائر الجسد وظاهر الفرج دون باطنه. وكذلك المرأة يجوز أن تنظر إلى عورة زوجها، والامة إلى عورة سيدها. قلت: وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «النظر إلى الفرج يورث الطمس» أي العمى، أي في الناظر.
وقيل: إن الولد بينهما يولد أعمى. والله أعلم.
الحادية عشرة: لما ذكر الله تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر. فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها. وتختلف مراتب ما يبدي لهم، فيبدي للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج. وقد ذكر القاضي إسماعيل عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين.
وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهن تحل. قال إسماعيل: أحسب أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهى قوله تعالى: {لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ} [الأحزاب: 55].
وقال في سورة النور: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية. فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية أخرى.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ} يريد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا، من ذكران كانوا أو إناث، كبني البنين وبنى البنات. وكذلك آباء البعولة والأجداد وإن علوا من جهة الذكران لآباء الإباء وآباء الأمهات، وكذلك أبناؤهن وإن سفلوا. وكذلك أبناء البنات وإن سفلن، فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات. وكذلك أخواتهن، وهم من ولده الإباء والأمهات أو أحد الصنفين. وكذلك بنو الاخوة وبنو الأخوات وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بنى الأخوات وبنى بنات الأخوات. وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح، فإن ذلك على المعاني في الولادات وهؤلاء محارم، وقد تقدم في النساء. والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم. وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم. وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم.
وقال عكرمة: لم يذكرهما في الآية لأنهما تبعان لأبنائهما.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {أَوْ نِسائِهِنَّ} يعني المسلمات، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ}. وكان ابن جريج وعبادة بن نسى وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها، ويتأولون {أَوْ نِسائِهِنَّ}.
وقال عبادة بن نسى: وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبى عبيدة بن الجراح: أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين، فامنع من ذلك، وحل دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة. قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية، لئلا تصفها لزوجها.
وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء. فإن كانت الكافرة أمة لمسلمة جاز أن تنظر إلى سيدتها، وأما غيرها فلا، لانقطاع الولاية بين أهل الإسلام واهل الكفر، ولما ذكرناه. والله أعلم.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات. وهو قول جماعة من أهل العلم، وهو الظاهر من مذهب عائشة وام سلمة رضي الله عنهما.
وقال ابن عباس: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته.
وقال أشهب: سئل مالك أتلقى المرأة خمارها بين يدي الخصى؟ فقال نعم، إذا كان مملوكا لها أو لغيرها، وأما الحر فلا. وإن كان فحلا كبيرا وغدا تملكه، لا هيئة له ولا منظر فلينظر إلى شعرها. قال أشهب قال مالك: ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة على الرجل المرحاض، قال الله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
وقال أشهب عن مالك: ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته، ولا أحبه لغلام الزوج.
وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} إنما عني بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وهو قول مجاهد وعطاء.
وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة ثوب إذا غطت به رأسها لم يبلغ إلى رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ إلى رأسها، فلما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تلقى من ذلك قال: «إنه لا بأس عليك إنما هو أبوك وغلامك».
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ} أي غير أولى الحاجة والإربة الحاجة، يقال: أربت كذا آرب أربا. والارب والإربة والمأربة والارب: الحاجة، والجمع مأرب، أي حوائج. ومنه قوله تعالى: {وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى} [طه: 18] وقد تقدم.
وقال طرفة:
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنى ** تقدم يوما ثم ضاعت مآربه

واختلف الناس في معنى قوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} فقيل: هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء. وقيل الأبله.
وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم، وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن. وقيل العنين. وقيل الخصى. وقيل المخنث. وقيل الشيخ الكبير، والصبى الذي لم يدرك. وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء. وبهذه الصفة كان هيت المخنث عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة: بادية بنة غيلان، أمر بالاحتجاب منه. أخرج حديثه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ وغيرهم عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة. قال أبو عمر: ذكر عبد الملك بن حبيب عن حبيب كاتب مالك قال قلت لمالك: إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان: «أن مخنثا يقال له هيت» وليس في كتابك هيت؟ فقال مالك: صدق، هو كذلك وغربه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها. قال حبيب وقلت لمالك: وقال سفيان في الحديث: إذا قعدت تبنت، وإذا تكلمت تغنت. قال مالك: صدق، هو كذلك. قال أبو عمر: ما ذكره حبيب كاتب مالك عن سفيان أنه قال في الحديث يعني حديث هشام بن عروة: «أن مخنثا يدعى هيتا» فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام، لا ابن عيينة ولا غيره، ولم يقل في نسق الحديث: «إن مخنثا يدعى هيتا» وإنما ذكره عن ابن جريج بعد تمام الحديث، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في الحديث: إذا قعدت تبنت وإذا تكلمت تغنت. هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة، وهذا اللفظ لا يوجد إلا من رواية الواقدي، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ويحكى عن مالك أنه كذلك، فصارت رواية عن مالك، ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا، والله أعلم. وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم، لا يكتب حديثه ولا يلتفت إلى ما يجئ به. ذكر الواقدي والكلبي أن هيتا المخنث قال لعبد الله بن أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها، وأمة عاتكة عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع: إن فتح الله عليكم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست تبنت وإن تكلمت تغنت، بين رجليها كالإناء المكفوء، وهي كما قال قيس بن الخطيم:
تغترق الطرف وهى لاهية ** كأنما شف وجهها نزف

بين شكول النساء خلقتها ** قصد فلا جبلة ولا قضف

تنام عن كبر شأنها فإذا ** قامت رويدا تكاد تنقصف

فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله». ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى. قال: فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له منه بريهة، في قول الكلبي. ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما ولى أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده، فلما ولى عمر كلم فيه فأبى، ثم كلم فيه عثمان بعد.
وقيل: إنه قد كبر وضعف واحتاج، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه. قال: وكان هيت مولى لعبد الله بن أبى أمية المخزومي، وكان له طويس أيضا، فمن ثم قبل الخنث. قال أبو عمر: يقال: {بادية} بالياء و{بادنة} بالنون، والصواب فيه عندهم بالياء، وهو قول أكثرهم، وكذلك ذكره الزبيري بالياء.
السادسة عشرة: وصف التابعين بـ {غَيْرِ} لان التابعين غير مقصودين بأعيانهم، فصار اللفظ كالنكرة. و{غَيْرِ} لا يتمحض نكرة فجاز أن يجري وصفا على المعرفة. وإن شئت قلت هو بدل. والقول فيها كالقول في {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]. وقرأ عاصم وابن عامر {غَيْرَ} بالنصب فيكون استثناء، أي يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم. ويجوز أن يكون حالا، أي والذين يتبعونهن عاجزين عنهن، قاله أبو حاتم. وذو الحال ما في {التَّابِعِينَ} من الذكر.
السابعة عشرة: قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ} اسم جنس بمعنى الجمع، والدليل على ذلك نعته بـ {الَّذِينَ}.
وفي مصحف حفصة {أو الأطفال} على الجمع. ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم. و{يَظْهَرُوا} معناه يطلعوا بالوطي، أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن.
وقيل: لم يبلغوا أن يطيقوا النساء، يقال: ظهرت على كذا أي علمته، وظهرت على كذا أي قهرته. والجمهور على سكون الواو من {عَوْراتِ} لاستثقال الحركة على الواو. وروي عن ابن عباس فتح الواو، مثل جفنة وجفنات. وحكى الفراء أنها لغة قيس {عَوْراتِ} بفتح الواو. النحاس: وهذا هو القياس، لأنه ليس بنعت، كما تقول: جفنة وجفنات، إلا أن التسكين أجود في {عَوْراتِ} وأشباهه، لان الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قلبت ألفا، فلو قيل هذا لذهب المعنى.
الثامنة عشرة: اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين: أحدهما- لا يلزم، لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح. والآخر- يلزمه، لأنه قد يشتهى وقد تشتهي أيضا هي، فإن راهق فحكمه حكم البالغ وجوب الستر. ومثله الشيخ الذي سقطت شهوته اختلف فيه أيضا على قولين كما في الصبى، والصحيح بقاء الحرمة، قاله ابن العربي.
التاسعة عشرة: أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما.
وقال أكثر العلماء في الرجل: من سرته إلى ركبته عورة، لا يجوز أن ترى. وقد مضى في الأعراف القول في هذا مستوفى. العشرون: قال أصحاب الرأي: عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة. ابن العربي: وكأنهم ظنوها رجلا أو ظنوه امرأة، والله تعالى قد حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصا العبد منهم، فما لنا ولذلك! هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد متباعد. وقد تأول بعض الناس قوله: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} على الإماء دون العبيد، منهم سعيد بن المسيب، فكيف يحملون على العبيد ثم يلحقون بالنساء هذا بعيد جدا! قال ابن العربي وقد قيل: إن التقدير أو ما ملكت أيمانهن من غير أولى الإربة أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال، حكاه المهدوي.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية، أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها، فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد، والغرض التستر. أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال: زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعا فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت، فنزلت هذه الآية. وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها، قاله الزجاج.
الثانية والعشرون: من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن فهو مكروه. ومن فعل ذلك منهن تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله من الرجال، إن فعل ذلك تعجبا حرم، فإن العجب كبيرة. وإن فعل ذلك تبرجا لم يجز.
الثالثة والعشرون: قال مكي رحمه الله تعالى: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع. قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَتُوبُوا} أمر. ولا خلاف بين الامة في وجوب التوبة، وأنها فرض متعين، وقد مضى الكلام فيها في النساء وغيرها فلا معنى لاعادة ذلك. والمعنى: وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال.
الثانية: قرأ الجمهور {أيه} بفتح الهاء. وقرأ ابن عامر بضمها، ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها. وضعف أبو على ذلك جدا وقال: آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء ها هنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في {اللهم} لاقترانها بالكلمة في كلام طويل. والصحيح أنه إذا ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن القرآن هو الحجة. وأنشد الفراء:
يا أيها القلب اللجوج النفس ** أفق عن البيض الحسان اللعس

اللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك يستملح، يقال: شفة لعساء وفتية ونسوة لعس. وبعضهم يقف {أيه}. وبعضهم يقف {أيها} بالألف لان علة حذفها في الوصل إنما هو سكونها وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الالف كما ترجع الياء إذا وقفت على {محلى} من قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1]. وهذا الاختلاف الذي ذكرناه كذلك هو في {يا أيها الساحر}. و{أيه الثقلان}.